حيفا: وادي الصليب شاهد على التطهير العرقي

انتظرت البواخر في الميناء بهدف نقل المهجّرين نحو لبنان وباقي الدول العربية.. وانتظرت حافلات كثيرة في بلد الشيخ لنقل المهجرين إلى منطقة جنين..

حيفا: وادي الصليب شاهد على التطهير العرقي

وادي الصليب

يشكّل حي وادي الصليب في مدينة حيفا، الشاهد الأكبر، ببناياته وأزقته الصغيرة والأدراج التي سميّت على أسماء الدول العربية استقبالاً للوافدين منها ما بين البنايات الممتدّة حتى البحر، على التطهير العرقي الذي حل بعروس البحر وأهلها إبان نكبة فلسطين عام 1948، فيبقى وادي الصليب، حتى يومنا هذا، شاهدا على كبرى الجرائم، فالبيوت بأسقفها العالية وشبابيكها الواسعة واضحة المعالم لا يمكن إلّا أن تكون الدليل على ما حل بهذه المدينة ككل، وهذا الحي بشكل خاص. 

لم يكن وادي الصليب حياً عادياً كسائر أحياء المدينة، وشهد إبان النكبة وفي فترة الانتداب أكبر تجمّع سكّاني ومؤسساتي، بالإضافة إلى أنه كان حياً عمّالياً وشكّل أقرب نقطة سكنية من ميناء حيفا، ممّا حدا بالوافدين إلى مدينة حيفا من المدن المجاورة والدول العربية بهدف العمل في المدينة إلى التوجه إليه نظراً لتوفر الشقق السكنية، والنقابات العمّالية بالإضافة إلى الميناء. 

وادي الصليب قبل النكبة

موقع وادي الصليب القريب من المرافق الحيوية في المدينة، والشقق السكنية التي كانت تبنى فيه بهدف استقبال العمّال الوافدين إلى حيفا من القرى والمدن المجاورة والوافدين من الدول العربية لفلسطين عموماً جعل لهذا الحي أهمية فائقة، وهذا ما يؤكده المؤرخ الحيفاوي، د. جوني منصور، فقال إن وادي الصليب كان مزوّداً أساسياً للقوى البشرية العاملة لمصلحة الميناء، ومصلحة سكك الحديد والمنطقة الصناعية. أمّا الأهمية الأكبر، على الصعيد الاجتماعي والسياسيّ، تكمن في أن الحي استطاع، وخلال فترة قصيرة جداً، وهي فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، أن يبني نسيجا اجتماعيا مترابطا، على الرغم من أن تركيبة السكّان كما هو معروف متعدّدة ومختلفة الجنسيات من كافة الدول العربية كالعراق وسوريا ومصر.

أمّا على صعيد حيفا، فالموقع الإستراتيجي لحي وادي الصليب، كونه يربط ما بين مدخل حيفا الشرقي ومركز المدينة، ممّا يجعل منه النقطة الأولى للوافدين إلى حيفا من الدول العربية والقرى والمدن المجاورة من مداخلها الشرقية، فوصل عدد سكّان حي وادي الصليب المسجّلين إبان النكبة قرابة الـ15 ألف نسمة.

وادي الصليب، جمعياته ومؤسساته ونواته الثورية 

نظراً لتعداد السكّان الكبير في الحي، والطبقة العاملة التي أقامت فيه، وجعلته مركزاً عمّالياً في فلسطين، تكوّنت في الحي عدة جمعيات ومؤسسات كجزء من الحراك الاجتماعي النشط، كنادي أنصار الفضيلة وجمعية الشابات المسيحيات وجمعية الشبّان المسلمين، بالإضافة إلى التنظيم الأهم ألا وهو التنظيم العمّالي الأكبر، جمعية العمّال العربية. 

أينما وجدت الحركة العمّالية المقهورة، شكّلت نواة للاحتجاج ورد الفعل والمظاهرات وأسست للعمل الثوري وميزت وادي الصليب كحي عمّالي رفض المقيمون فيه الانضمام إلى 'الهستدروت' على الرغم من محاولاتها المستمرة ضم العمّال العرب لها واستغلالهم. وشكّل عبد الحميد يحمور، وهو مثقّف وعامل سوري أقام في وادي الصليب، أول تنظيم عمّالي في المدينة وتوفي بعدها بوقت قصير. 

أمّا جمعية العمّال الفلسطينية، فأكمل المشوار بعد عبد الحميد يغمور، سامي طه، وهو عامل من عرّابة جنين أقام في وادي الصليب واستطاع ضم أكثر من 10 آلاف عامل عربي للجمعية، وهي الأكبر حينها، فأسسها رسمياً في العام 1926، واستطاع من خلالها محاربة 'الهستدروت' الصهيونية وتنظيم العمّال لتحصيل حقوقهم.

أمّا مطالب جمعية العمّال الفلسطينية فكانت دفع التأمين عن العامل، وتحصيل أيام عطلة للعمّال، بالإضافة إلى تحديد ساعات العمّال بحسب القوانين الدولية. واستطاع طه تحصيل كافة المطالب العمّالية التي طالبت بها الجمعية بالإضافة إلى الإنجاز الأكبر وهو اعتماد الجمعية دولياً ومشاركتها في العديد من المؤتمرات الدولية كجمعية عمّالية فلسطينية.
 

بين صفوف العمّال في الحي وقاطنيه، عاش أيضاً أمير المجاهدين، المجاهد والقائد عز الدين القسّام، والذي كان لوادي الصليب بتركيبته وسكّانه ومسجد الاستقلال، الواقع أسفل وادي الصليب قرب الميناء، ملهماً له وللنواة الثورية التي أسسها في الحي.

ويقول منصور إن 'تنوّع جنسيات العمّال في الحي، والصراع الطبقي الذي خاضوه ضد الهستدروت، واحتكاك الشيخ المجاهد القسّام بهم، ومعرفته عن قرب بمشاكلهم، بالإضافة إلى إمامته لجامع الاستقلال ساعده على تشكيل النواة الثورية الأولى المسلحة لمقاومة الاستعمار من وادي الصليب، وهذا ما يُضيف للحي أهمية أخرى سياسية كبرى تضاف إلى رصيده الماديّ والاجتماعي، وأهميته على كافة الأصعدة. واعتبر قبل النكبة حاضنة للحركة الثورية في الداخل الفلسطيني وحيفا خصوصاً'.

السكّان: 

في الطريق نحو وادي الصليب، نرى خمسة بيوت كبيرة هي بيوت ملّاك حيفا وقيادة الحي التي سكنت أعلى الحي، وهي معروفة قبل النكبة بتلة البرج، من هذه البيوت منزل رئيس بلدية حيفا قبل النكبة، عبد الرحمن الحاج، حيث شهد هذا البيت الاجتماع الأخير للحركة الوطنية في مدينة حيفا، وبيت عائلة كنفاني العكّية التي سكنت في الحي منذ سنوات الـ١٩٢٠ وهي العائلة التي ينحدر منها الشهيد غسّان كنفاني، ومنزل عائلة كسيرك، ومنزل مفتي حيفا محمد مراد حيث أطلق على الدرج المؤدي إليه درج المفتي. أمّا المنزل القائم أعلى تلة البرج، فكان مقراً للحركة الصوفية المعروفة بالـ'شاذلية' جنب درج عجلون، بالإضافة إلى 'مدرسة البرج'، التي كانت من أعرق مدارس فلسطين، وعائلة رشيد الحاج إبراهيم الذي هدمته بلدية حيفا بذريعة أنه يشكّل خطراً على المحيطين فيه.

سكن العمّال الوافدون إلى الحي في الطرف السفليّ منه، وهو الجانب الذي هدم بأكمله تقريباً في هذه الأيام. ويمتد من منطقة مسجد الاستقلال حتى أعلى حي وادي الصليب تحت بيوت شارع البرج التي سكنها كبار الملّاك في المدينة.

أمّا العائلات التي سكنت في وادي الصليب، فهي عائلة الصلاح، الشكري، الصالح، أيوب، كنفاني، شرقاوي، مسعود، برقة والعباسي والعديد من العائلات الأخرى.

التهجير: حيفا سقطت من أعلى إلى أسفل 

مع بداية الهجرة اليهودية لفلسطين، اتخذ اليهود من منطقة الكرمل، و'الهدار' الأعلى والسفلي مناطق سكنية لهم، وخاصة أنهم قدموا إلى حيفا ومعهم الكثير من المال الذي خوّلهم شراء بيوت وبنايات في المناطق التي ذكرت، وخاصة التلال كمركز الكرمل والهدار الأعلى، ممّا أدى لتكوّن مجتمعين منفصلين في مدينة حيفا، الأول وهو العربي وصاحب الأرض الساكن في البلدة السفلى، والثاني عبارة عن القادمين اليهود الذين سكنوا التلال والمناطق المرتفعة.

مع بداية الهجمات الصهيونية على حيفا، ساعد السكّان اليهود ذاتهم قوّات 'الهاجاناه'، فتحوّل وادي الصليب إلى مرمى للقناصة اليهود من الهدار وأحياء سوق 'التلبيوت'، وتحديداً من شرفات المنازل، ونصبت عصابات 'الهاجاناه' مدفعياتها على تلال الهدار الأعلى والكرمل، وبدأت القوات بالتحرك من أعلى إلى أسفل. 

كانت الخطة الأولى تحمل اسم 'المقص'، ونصّت على محاصرة الأحياء العربية من كلا الاتجاهين، فافترقت قوّات 'الهاجاناه' بمحاذاة قصر الخوري، (للأمانة يكتب هذا المقال في بناية قامت على أنقاض قصر الخوري – ر. ز)، فهاجم جزء منها وادي الصليب يميناً من قصر الخوري، واتجهت الكتيبة الأخرى يساراً باتجاه حي الألمانية ووادي النسناس. 

قصفت المدافع المنصوبة في الكرمل وادي الصليب، والقناصة من حي الهدار، واجتاحته قوّات 'الهاجاناه' وحصرت العرب بين فكّيها كالمقص، وبقي في حيفا من أصل 75 ألف عربي 25 ألف عربي.

الخطة الثانية كانت تحت عنوان 'التطهير تحضيراً لعيد الفصح'، وكما هو معلوم فاليهود ينظّفون البيوت بشكل كامل من كل مشتقات القمح ويطّهرونها لإدخال موادا جديدة، وهذا ما يذكره المؤرج منصور، ويقول إن 'عنوان الخطة الثانية حمل المعنى الحرفيّ لعملية التطهير العرقي لفلسطين، فاجتاحت قوّات الهاجاناه العرب المحاصرين من كلا الاتجاهين، وعندما كانوا هاربين من مدافعها وقفت قوّات الجيش البريطاني تشير إلى السكّان بالقول: نحو الميناء، وهذا ما يتعارض مع القانون الدولي الذي كان يحتّم على الإنجليز حماية المستعمرين، ويؤكد على أنهم كانوا شركاء في الجريمة وتهجيرنا'.

انتظرت البواخر في الميناء بهدف نقل المهجّرين نحو لبنان وباقي الدول العربية، ويعتقد منصور أن هذه البواخر كانت مستأجرة من قبل الهاجاناه كجزء من مخطّط التطهير العرقي لفلسطين. وأشار إلى أن حافلات كثيرة كانت تنتظر المهجّرين على المداخل الشرقية لمدينة حيفا، وبجانب بلد الشيخ التي أقيمت على أنقاضها مدينة نيشر اليهودية، وهذه الأخرى لم تكن صدفة هناك فكانت تحمل المهجّرين تحت القصف إلى منطقة جنين، وتعود لتحمّل الباقين حتى سقطت حيفا في العام 1948.

التعليقات