في ليلة الخروج من حيفا... سالَت دماءُ الجنين وأمّهِ

في حيٍّ من أحياء النّاصرة تقطن عفاف زعبي (78 عامًا) بعد أن هُجِّرت مع عائلتها من حيّ الحليصة في حيفا منذ صغرها، تلك المدينة مسقط رأسها التي عاشت بها طفولتها برفاهية وجمال، على حدّ تعبيرها،

في ليلة الخروج من حيفا... سالَت دماءُ الجنين وأمّهِ

عفاف زعبي

في حيٍّ من أحياء النّاصرة تقطن عفاف زعبي (78 عامًا) بعد أن هُجِّرت مع عائلتها من حيّ الحليصة في حيفا منذ صغرها، تلك المدينة مسقط رأسها التي عاشت بها طفولتها برفاهية وجمال، على حدّ تعبيرها، وها هي اليوم تقفُ على أطلال ماضيها تستذكر أحداثَ النكبة والتهجير التي أودت بها لاجئة في الناصرة بالداخل الفلسطيني، في رحلةٍ من الدمّ والقهر.

شو كان؟!

تستذكر زعبي مدرستها قبل النكبة، تقول لـ'عرب 48': 'لا أحد يعلم مكانها اليوم، كنا نذهب إليها صعودًا في شارع العراق عبر الدرج، وفي نهايةِ الدرج تكون المدرسة، كنا سعداء جدًا بكل مناحي الحياة ولا ينقصنا أيّ شيء، لقد عشنا مع عائلة عمي ببيت واحد وبحياة مشتركة، عائلتي المكوّنة من ثلاثة بنات وولد، وعائلة عمي المكونة من ثلاثة أولاد وبنت، كنا صغارًا حينها، وأنا لم أتجاوز سنّ الـ 10 سنوات'.

وتشرح زعبي لـ'عرب 48' أنّه 'قبل عام 1948 كان اليهود يعملون في المؤسسات المختلفة، ومنها مؤسسة البريد، التي كان أبي يعمل بها، كان أبي يرى اليهود يتلقون المساعدات عبر البريد من الخارج، وقبل النكبة بفترة قصيرة، بدأنا نشعر أنّ هناك خطبا ما وقتل في الشوارع، كنا قبل النكبة نرى اللطم على الوجوه أسفًا على أرواح شباب قضوا نحبهم'.

وتردف أنه 'في النكبة كان يسمع دوي انفجارات في الليل بشكلٍ خاص، كانت هذه براميل متفجرة كانوا يلقونها لتنفجر على السكان المدنيين'، وتقول إنّ 'النكبة أحدثت انشقاقًا بين العائلة الواحدة، فوالدها الذي كان يعمل موظفًا في البريد، رفض البقاء في حيفا، وعمّها كان مع الثوار، رفض بشكلٍ قاطع الخروج من حيفا، وقد حدث بينهما خلاف كبير حول مسؤولية البقاء وخاصةً بقاء الأطفال، وقد حدث سوء تفاهم حول الهرب من حيفا أو البقاء فيها، ولكن في نهاية المطاف خرجت كلا العائلتين بدون العمّ الثائر'.

وتشير إلى أنه 'في تلك الفترة أخذ الناس بالهرب من الموت، جيراننا في نفس المبنى خرجوا، سادت الأجواء الحزينة، وبذات الوقت كان الناس يتحدثون عن الذين تركوا منازلهم (واحد بطلع وبدشّر بيته!)، والذي بقي كان يتساءل 'إذا إجوا اليهود شو بدو يصير فيي أنا وعيلتي'، كان الناس في حيرة من أمرههم، أيّ أقل الاحتمالين سوءًا من الآخر'، هذا ما قالته زعبي.

 

وفي تلك الليلة...

وتروي زعبي أنه 'في ليلةٍ من الليالي المشؤومة، ليلة الخروج من حيفا، صرخَ أبي أنّه يجب علينا الخروج، بيتنا في حيّ الحليصة كان يكشف أجزاء من حارة اليهود، المتاخمة لنا، حيث كان يأتي الرصاص من هناك، كنا نختبئ بحذر ونحن نرى الرصاص على الأرض يلمع في المساء. كنا نقف على حافة الباب ننتظر أن يتوقف إطلاق النار حتى نخرج من البيت، في تلك اللحظة التي امتلأت بالرعب، تذكّرت أختي الصغيرة التي بقيت داخل المنزل، لم أكن أرها مع أمي وقد تذكّرتُ قبل أن نخرج أنّ فردًا من العائلة ينقصنا، دخلتُ لكي أصحبها معي وصوت الرصاص من حولي لم يستكن، لم يكن الشباك محميًا من دخول الرصاص، كانت نائمة ولم يطلها أيّ أذى، حملتها وخرجت'.

واسترسلت أنه 'وقفنا بحذر على الشارع المتاخم لحارة اليهود، والذي من خلاله فقط نستطيع الهرب من المنزل، هممنا بالصعود في حين كانت فيه امرأة، إحدى أقاربنا، متجهة لمنزلنا لتحتمي به، كانت حاملاً ومعها طفل كذلك، ورغم ذلك طالتها إحدى الرصاصات التي استقرّت بها وبطفلها الجنين، كان هذا المشهد قاسيًا حين رأينا الطفل الجنين ينزل من بطن أمّه مستشهدًا، ملقىً على الأرض'.

وتابعت زعبي، لـ'عرب 48'، بالقول إنه 'وصلنا ضفة الشارع المقابل المحمي من قِبل البيوت والعمارات التي لا يطالها الرصاص، أكملنا مسيرتنا حتى منتصف النهار التالي ونحن نمشي بحذر ونحتمي أحيانا، لم نكن لوحدنا كعائلة، بل كان معنا عائلات كثيرة وعشرات من المدنيين العُزّل الهاربين من الموت، احتمينا أحيانًا ببعض العائلات التي كانت تخرج معنا بعد احتمائنا بهم، بسبب خوفهم، فقد رأينا بأمّ أعيننا كيف كان يموت ويستشهد العديد من الناس بالرصاص حين كانوا يحاولون الهرب والنجاة بأنفسهم، فقد كان الأب يُقتل أمام ابنته وهي تصرخ بلوعةً (يابا، يابا)'.

ما بعد حيفا

تتوغل زعبي في ذاكرتها الماضية وتقول إننا  'وصلنا إلى ميناء حيفا، وجدنا أنّ عمّي قد هرب أيضًا من حيّ الحليصة، كنا نصعد إلى السفن بطريقة جنونيّة دون أن يدري أيّ أحد عما يجري، كان الأطفال يزجّ بهم بأيّ طريقة حتى ينجوا، دون أي رعاية للأعداد الغفيرة التي كانت متواجدة على متن السفينة، كان هناك حالات إنسانيّة من المشاعر الغاضبة والدعاء لله، والحزن والخيبة، وأحيانًا الشتم'.

وتستعيد لحظة مكوثها على السفينة مؤكدة، لـ'عرب 48'، إنه 'في خضم ما كان على السفينة، رأيت امرأة تصرخ بشدة وتلطم، وبطفولتي البريئة، سألت أمّي مما تشكو هذه المرأة، فنحن في السفينة أصبحنا بأمان، فأجابتني: 'اسكتي إنتِ الثانية هاي بتحسب حالها جايبة ابنها وهي كاينة حاملة المخدة'، أمّي قالت لي هذه الجملة، ولكنّها قد نسيت أنّها كانت على وشك أن تنسى ابنتها في المنزل'.

بعد أن وصلوا عكّا، جرى استقبالهم في مكانٍ آمن وقدّم الطعام لهم، بعدها تدبر الأب أمره بنقلهم في باص إلى الناصرة، بقوا في منطقة العين بالنّاصرة لعدّة أيّام جالسين في ساحةٍ تجمّع بها العديد من النّاس، وبعدها ذهبوا لاستئجار منزلٍ في الناصرة، وقد كانت تظن امرأة عمّها أنّها أخذت الذهب والذخيرة المالية التي تملكها، وذلك بعد أن وضعتها في جيب معطفها وجلبتها معها، ولكنهم حين خرجوا اكتشفوا أنّها نسيت المعطف في منزلها.

وتختتم زعبي ذكرياتها: 'تدبرنا أمرنا في تلك الفترة، وقد تابع الاحتلال في الزحف نحو الناصرة، في حينها قررنا الذهاب إلى قرية سولم، حيث مسقط رأس أبي، بقينا في سولم إلى حين أن أعلنت دولة إسرائيل قيامها. بعد فترة ذهبَ أبي إلى بيتنا القديم ليلملم ما بقي، لم يستطع إلّا أن يأخذ بقجة من الملابس وقصة للأطفال 'الدجاجة الصغيرة الحمراء'، وهي اسم القصة كنت قد استعرتها من المدرسة، فرحتُ بها حين عادت لي وكان يتناوب الأطفال على قراءتها، في يوم من الأيام مزّقها أحدهم، وقد انفجرتُ بالبكاء لأنّ القصة لم تكن لي ويجب عليّ أن أعيدها إلى مدرستي، حين رأت أمّي الدمعة على خدّيّ قالت لي: 'عيب تعيطي إنت كبيرة'، قلت لها: 'مزعولي قصتي لازم أرجعها للمدرسة'، في تلك اللحظة انفجرت أمّي صراخًا وعويلاً: 'أني مدرسة هاي، هو ضلّ في مدرسة، هو في حيفا، هو في رجعة'، ومنذ تلك اللحظة أدركتُ كطفلة أنّني لن أعود إلى حيفا، ولا إلى مدرستي، ولن تعود قصتي إلى الدرج المدرسيّ'.

التعليقات