70 عاما على النكبة: معارك الجيوش العربية 1948 (2/19)

كانت هذه هي المرة الأولى التي ستواجه فيها العصابات الصهيونية جيوشا منظمة، فهي حتى الآن كانت تحارب مناضلين فلسطينيين ومتطوعين عربا، يعرف البعض منهم فنون القتال ويجهلها أغلبيتهم

70 عاما على النكبة: معارك الجيوش العربية 1948 (2/19)

(صورة توضيحية)

الجزء الثاني: معارك الجيش السوري عام ١٩٤٨ حتى الهدنة الأولى


اكتملت الإعدادات العربية للهجوم على الكيان الصهيوني المعلن حديثا، وانطلقت جيوش الدول العربية في ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨ إلى فلسطين بهدف تحريرها حسب الخطة العسكرية المتفق عليها، والتي تغيرت في اللحظات الأخيرة لبدء الحملة العسكرية كما تقدم في الحلقة السابقة.

كانت هذه هي المرة الأولى التي ستواجه فيها العصابات الصهيونية جيوشا منظمة، فهي حتى الآن كانت تحارب مناضلين فلسطينيين ومتطوعين عربا، يعرف البعض منهم فنون القتال ويجهلها أغلبيتهم، ولذلك حققت العصابات الصهيونية، وعلى رأسها "الهاغاناه"، انتصارات، بعضها كبيرة بل وساحقة أحيانا. بسبب هذه الحالة الجديدة، أي دخول الجيوش العربية، أصبحت فرائص القيادات الصهيونية ترتعد خوفا من القوات العربية، رغم أنها تعرف محدودية القوات العربية ومواطن ضعفها، ولو لم يكن العرب وقيادتهم مترددين من هذه الحرب، لكانت نتائجها مختلفة، ولحسمت في وقت قصير، حتى وإن حصلت الدولة الصهيونية الجديدة على السلاح والدعم العسكري من جهات أجنبية أخرى.

لا يمكن القول إن الجيوش العربية كانت قوية بشكل كافٍ، أو إنها كانت مستعدة للحرب التي ستذهب إليها استعدادا تاما، فبعضها كان حديث العهد بالاستقلال كسورية ولبنان، حيث أن جيشي هاتين الدولتين كانا صغيرين خاصة الدولة اللبنانية التي لم يتجاوز عدد جنودها الألفين، وكان أغلبهم من الدرك سابقا، ولَم يكوّنوا جيشا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولذلك أرادت الحكومة اللبنانية أن تكتفي بالدفاع عن حدودها ولا تشارك في حملات هجومية داخل فلسطين، أما سورية، التي كانت متحمسة لنصرة فلسطين، فلم يتجاوز عدد جنودها مجتمعين الثمانية آلاف جندي، إذ أنها لم تبدأ أصلا بتشكيل جيش نظامي يكون باستطاعته أن يخوض حربا نظامية ضد جيوش أخرى.

أما اليمن فليس لديها قوة عسكرية ولذلك دفعت ما عليها من المال مشاركة منها في الحرب. أما السعودية فلم تكن متحمسة للحرب، ولذلك شارك بضع مئات من جنودها المتطوعين تحت قيادة الجيش المصري في منطقة غزة، ولكنهم أبلوا بلاء حسنا في الحرب، وقدموا الشهداء على أرض المعركة.

أما مصر، الدولة العربية الأكبر، فكانت ما تزال تحت سيطرة بريطانيا، والتي أرادتها أن تدخل الحرب، لمعرفة هذه، أي بريطانيا، بضعف الجيش المصري، ولذلك أرادته أن يخسر في الحرب ويعرف أهل مصر حقيقة ضعفهم لتستمر في السيطرة على مقدراتهم، ومن ناحية ثانية ينشغل أهل مصر عنها في الحرب الدائرة في الجبهة الفلسطينية. أما الحكومة المصرية فلم تكن متحمسة لدخول الحرب ولولا الضغط العربي عليها لاستكفت بإرسال الأموال والمؤن والمعدات، ناهيك عن أن الجيش المصري لم يخض حربا منذ عشرات السنين، ولذلك كانت تنقصه الخبرة والتجربة الحربية في إدارة المعارك.

العراق، كان لديها جيش نظامي مدرب ومجهز بأسلحة حديثة وطائرات، وكان شعبها متحمسا أشد الحماس من أجل إنقاذ فلسطين، ولولا ذلك لما شاركت في الحرب بشكل فعلي حيث أن أوساطا عسكرية أساسية كانت تريد الحفاظ على القوة العسكرية العراقية من أجل الدفاع عن الدولة العراقية، ولَم تكن تريد لها أن تدخل حربا خارج العراق، ترهق الجيش وتنفذ ذخيرته، كما أن الدولة العراقية كانت مرتبطة بشكل كبير بالمملكة الأردنية، والتي كان جيشها بقيادة بريطانية، فأغلب ضباطه من البريطانيين، وعلى رأسهم چلوب باشا القائد العام للجيش الأردني، الذي عرف بتسمية الفيلق العربي، حيث أنه كان جزءًا من المنظومة العسكرية البريطانية في فلسطين والأردن، ولذلك كان مدربا أحسن تدريب ومجهزا بأسلحة حديثة، ولكن هذا الجيش دخل الحرب من أجل مصالح أردنية في ضم المناطق العربية حسب قرار التقسيم إلى مملكة شرق الاْردن، وبسبب ذلك رفض جلوب باشا الخطة العربية من أجل دخول فلسطين، وطلب تغييرها قبل يومين فقط من موعد دخول الجيوش، مما كان له أكبر الأثر السلبي على معارك الجيش السوري في فلسطين كما سنوردها في هذه العجالة.

سورية تستعد للحرب

قامت الحكومة السورية في ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨، بإصدار خمسة قوانين جديدة، تؤمن لوازم الحرب وتوفر لها التسهيلات المطلوبة من أجل قيادة العمليات، حيث أصدرت قانونا يفرض الأحكام العرفية في سورية لمدة ستة أشهر، وقانونا يفتح اعتمادا ماليا إضافيا في موازنة وزارة الدفاع، وقانونا يقضي بإضافة خمسة ملايين وسبعمائة ألف ليرة سورية إلى اعتماد وزارة الدفاع، وقانونا يقضي بمنح معاشات تقاعدية لعائلات العسكريين الذين يستشهدون في فلسطين، وفرضت خدمة العلم الإلزامية على مواليد عام ١٩٢٩.

عسكريا، اختارت القيادة السورية أفضل لواء من الألوية الثلاثة التي يمتلكها الجيش السوري، وكان هذا اللواء وهو لواء المشاة الأول تحت قيادة عبد الوهاب حكيم، ووضع هذا اللواء تحت تصرف اللجنة العسكرية العربية العليا.

كان هذا اللواء يضم فوجي مشاة، كل منهما يضم ثلاث سرايا مشاة وسرية قيادة، وكان الفوج الأول بقيادة المقدم بشير الحواصل، أما الثاني فقاده المقدم حسن غنام. وكذلك ضم اللواء كتيبة مدفعية تتضمن ثلاث بطاريات من عيار ٧٥ ملم، وكتيبة مدرعات تتضمن سريتي مصفحات "مارمون" وعددها ١٥ مصفحة، وسرية دبابات من نوع "رينو" ٣٧ وعددها عشر دبابات، وكان قائد كتيبة المدرعات هو الرئيس صبحي عبارة.

وضم اللواء مفرزة مخابرات، وفصيلة إنشاءات أو هندسة عسكرية بقيادة سليمان ناجي، وسرية قيادة وخدمات إدارية وطبية. وكان مجموع عدد أفراد اللواء ١٨١١ ضابطا وجنديا، منها وحدة نارية واحدة للمشاة، ومائة قنبلة فقط لكل مدفع.

دخول الجيش السوري إلى فلسطين

كانت الأوامر العسكرية تقضي بأن تتجمع قطعات لواء المشاة الأول السوري، في منطقة جنوبي لبنان في ١٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، ومن هناك تدخل إلى فلسطين حسب الخطة التي أعدتها قيادات الجيوش العربية كما تقدم في الحلقة السابقة (المنشورة بتاريخ ٢٥\٦\٢٠١٨، بعنوان معارك الجيوش العربية في حرب ١٩٤٨ ١٩/١)، فكان على اللواء أن ينطلق عن طريق بيروت، صيدا، بنت جبيل إلى قاعدة الانطلاق في جنوبي لبنان، بحيث يكون التحرك في يوم ١٣ أيار/ مايو ١٩٤٨ كل رتل من موقعه، ففي السادسة صباحا ينطلق فوج المدفعية، وبعده في الثامنة فوج المدرعات، وفِي اليوم التالي تتحرك أفواج المشاة واحدا تلو الآخر، وبذلك تتجمع كل القوات في مفرق النبطية - صور وعين إبل، ومفرق مرجعيون - بيروت، وقرية بليدا، وقرية بنت جبيل، ويجتمع قادة الوحدات في يوم ١٤ أيار/ مايو ١٩٤٨ في تمام الساعة ١٣:٠٠ في عيترون.

ولكن قوات المدرعات والمدفعية والتي نفذت الأوامر بدقة، ما أن وصلت هدفها في صباح ١٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، حتى تلقت أوامر جديدة تفيد بأن الملك عبد الله تولى قيادة الجيوش العربية، وأن الخطة العسكرية تغيرت، بأمر من الملك عبد الله (كما ورد أيضا في الحلقة السابقة)، وأن على القوات السورية التقدم جنوبا باتجاه القنيطرة، وكان على كل قطعات اللواء الأول أن تصل إلى القنيطرة قبل الساعة ١٥:٠٠ من يوم ١٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، ومن هناك تتحرك على ممر فيق- كفر حارب- الحمة، منطلقة إلى سمخ (جنوب بحيرة طبريا) لإنشاء رأس جسر على نهر الاْردن، إلا أن القوات ابتدأت بالوصول إلى القنيطرة بعد الساعة ١٩:٠٠، وانطلقت من هناك بدون استراحة إلى المنطقة المشرفة على المرتفعات المطلة على سهل سمخ، وابتدأت القوات بالتمركز في هذه المرتفعات، للانطلاق منها إلى داخل الأراضي الفلسطينية في الساعة الواحدة صباحا من يوم ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨.

واجهت وحدة الدبابات مشاكل تقنية في طريقها إلى نقطة الانطلاق، حيث تعطلت بعض دبابات من طراز رينو ٣٧، عند بانياس، واستمر إصلاح الدبابات مدة طويلة أدت إلى تأخرها أكثر من ٢٤ ساعة عن موعد الوصول المقرر، وبذلك تجاوزت سرايا الفوج الأول المرتفعات المطلة على سهل سمخ، بدون مساندة المدفعية والمدرعات.

الجيش السوري يبدأ الهجوم

من الأشياء "العجيبة" التي تميز بها جنود الجيش السوري هو أنهم كانوا يفضلون الحرب في ساعات الصباح الباكر، ثم يذهبون إلى النوم ليلا بطريقة مرتبة، مما كان يعطي نفسا لأعدائهم عند حدوث أي اشتباك. زِد على ذلك أنهم وصلوا منهكين ومرتبكين من التغييرات التي حصلت في اللحظة الأخيرة على الخطة الهجومية، ولكن القيادة قررت تنفيذ الهجوم حسب الموعد المحدد.

في الساعة الرابعة صباحا من يوم السبت الموافق ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨، اجتازت سرايا الفوج الأول بقيادة المقدم بشير الحواصلي، المرتفعات المطلة عَلى سهل سمخ، وانطلقت بدون مساندة من المدفعية والمدرعات.

أما الفوج الثاني فقد هاجم باكرا كيبوتس "عين چيف" الواقع على الضفة الشرقية لبحيرة طبرية، وقامت طيارة عسكرية سورية بإلقاء القذائف على المستعمرة، وقام المشاة بإطلاق نيران كثيفة من مدافعهم الرشاشة، مما أدى إلى إجلاء ١٥٠ طفلا وسبعين مسنا من المستعمرة بواسطة قارب إلى طبرية، وبقي المدافعون المسلحون من الصهاينة في انتظار هجوم بري قوي، ولكن ذلك لم يحدث، إذ أن هذا الهجوم كان من أجل لفت الأنظار عن الفوج الأول المنطلق إلى محاصرة سمخ.

في الساعة الخامسة والنصف صباحا، كانت قوات الفوج الأول قد استولت على مستعمرة "هؤون" (السمرة بالعربية)، ثم سيطرت على الهضبة المسماة "تل ناقص ٩٨"، وصهيونيا "تل كتسير".

في الساعة التاسعة والنصف صباحا، وصلت أولى وحدات المدفعية السورية، وابتدأت بقصف المستعمرات المتواجدة في المنطقة خاصة سمخ و"شاعر هچولان"، واستمر القصف حتى المساء.

خلال ساعات بعد الظهر قامت وحدة مشاة بمهاجمة كيبوتس "شاعر هچولان" ولكنها لم تتمكن من احتلاله بسبب المقاومة الشديدة.

مقابل القوات السورية، تمركزت كتيبة من "باراك" من قوات "غولاني" وقوامها ٤٠٠ جندي، وكانت سرية واحدة منها في منطقة سمخ، وتمركزت هذه في محطة شرطة سمخ، أما الثانية فكانت متمركزة عند مستعمرة "أشدوت يعكوڤ"، وتجمع مقاتلو "الهاغاناه" من المستعمرات القريبة، وكتيبة من قوات "يفتاح"، ووحدات مقاتلين من الكيبوتسات البعيدة في الشمال من أجل المشاركة في الحرب.

المعركة تحتدم والجيش السوري يتقدم

تقدم السوريون من تل ناقص تحت غطاء المدفعية باتجاه سمخ، مما أدى إلى انسحاب القوات الصهيونية من مواقعها، بفعل الضغط السوري، وأصبحت سمخ على قاب قوسين أو أدنى من السقوط، ولكن "الهاغاناه" استدعت على الفور فصيلي جنود كانا يتمركزان في طبرية، ووصلت هذه القوات خلال عشرين دقيقة، وبذلك وقف في وجه القوات السورية ثلاثة فصائل صهيونية من كتيبة "باراك"، ومقاتلين من المستعمرات القريبة والبعيدة، مستعملين مدفعين من عيار ٢٠ ملم، ورامي قذائف من نوع فيات، ثم قامت طائرات "الهاغاناه" من نوع "پايپر" بإسقاط القذائف على الجيش المهاجم، وبذلك استطاعت هذه القوات صد السوريين ومنع تقدمهم إلى سمخ.

في اليوم التالي الموافق ١٦ أيار/ مايو، دخل الفوج الثاني بقيادة المقدم حسن غنام في المعركة، من أجل إراحة جنود الفوج الأول، وكان الفوج مدعما بسرية مصفحات. قام الفوج الأول بتغطية تقدمه، ولكن الهجوم ورغم قوته لم ينجح في تحقيق الهدف باحتلال سمخ، إلا أن الجيش السوري استطاع حتى آخر النهار من السيطرة على معسكر الجيش البريطاني الواقع شرق سمخ وكذلك معسكر "الكرنتينا" الجديد.

في آخر النهار قدم رئيس الجمهورية، شكري القوتلي، ورئيس الوزراء، جميل مردم، والمفتش العام لقوات جيش الإنقاذ طه باشا الهاشمي، وعقدوا اجتماعا مع قائد الرتل السوري وطالبوه باحتلال "شاعر هچولان" ولكنه أصر على احتلال سمخ من أجل حماية ميمنة الجيش من أي هجوم مفاجئ.

في يوم ١٧ أيار/ مايو، لم يقم الجيش السوري بهجوم مشاة، بل اكتفى بالقصف المدفعي بواسطة مدفعية عيار ٧٥ ملم و ٨١ ملم على سمخ و"شاعر هچولان"، وعمليات استطلاع ومراقبة وتخطيط للهجوم على سمخ من أجل عدم الوقوع في أخطاء، كما وقام الطيران السوري والعراقي بطلعتي قصف على سمخ.

في نفس الليلة كانت قوات "الهاغاناه" تقوم بعمليات تمويه للجيش السوري، حيث كانت بضع سيارات صهيونية تقوم بالصعود إلى مستعمرة "پوريا" وهي مطفأة الأضواء، وتنزل من المرتفعات وهي مضاءة المصابيح، وتكررت هذه العملية مرارا وتكرارا من أجل خلق انطباع بقدوم نجدات إلى المنطقة، كما أنها حشدت الجرارات المجنزرة والتي تصدر ضجة مشابهة لهدير الدبابات.

كل هذا التمويه لم يمنع مصير سمخ المحتوم، رغم أن منع الاحتلال السريع للمستعمرة كان له فوائد كثيرة للجانب الصهيوني المقتنع بعدم قدرته على الدفاع عن سمخ، ولكنه كان يريد أن يكسب الوقت من أجل جلب تعزيزات ونجدات لطبرية ومستعمرتي "دچانيا أ" و"دچانيا ب"، وتقوية تحصيناته في هاتين المستعمرتين.

احتلال سمخ و"شاعر هچولان"

في صباح ١٨ أيار/ مايو ١٩٤٨، ابتدأت القوات السورية بقصف سمخ بقوة لمدة عشر دقائق، ثم تقدمت المدرعات والدبابات السورية عَلى شكل قوس، ووراءها كان فوج المشاة الأول بقيادة المقدم بشير الحواصلي، والذي اتجه إلى الجهة الجنوبية للمستعمرة لاقتحامها من هناك، وانطلق الفوج الثاني بقيادة المقدم حسن غنام إلى المنطقة الشمالية والشارع الرئيسي الشديد التحصين، ثم قامت الطائرات السورية بقصف مؤخرة قوات "الهاغاناه" لمنع وصول النجدات (كانت سورية تمتلك ١٢ طائرة فقط، من نوع "هارڤارد"، ولَم تكن ذات فعالية كبيرة كونها كانت تستعمل لأغراض التدريب)، ثم قامت المدفعية بقصف الطرق المؤدية إلى المستعمرتين "دچانيا أ" و"دچانيا ب" وذلك لمنع وصول نجدات صهيونية من هاتين المستعمرتين.

أدى القصف الشديد إلى هدم عدد كبير من بيوت المستعمرة، وأصيب مدفع عيار ٢٠ ملم يستخدمه الصهاينة ضد المدرعات، فتعطل، مما أدى إلى تقدم المدرعات بسهولة، ولما رأى الصهاينة أن حركة المدرعات السورية تقطع الطريق على المدافعين من الانسحاب من المستعمرة، اضطروا إلى ترك مواقعهم، والخروج من سمخ. كان القصف السوري بمدافع عيار ٧٥ ملم و ٨١ ملم شديدا ودقيقا مما أدى إلى حدوث إصابات كبيرة بين الجنود الصهاينة، فتركوا جرحاهم وأيضا جثث قتلاهم وقت الانسحاب، إذ قتل الكثيرون منهم على مسافات قريبة، ولَم يبقَ إلا مركز شرطة سمخ بيد "الهاغاناه" حيث بقي المدافعون عنه لمدة أطول رغم القصف بمدافع "المارمون"، والتي اخترقت الجدران الإسمنتية المحصنة.

أعطت المعركة على مركز الشرطة نفسا للقوات المنسحبة، فأقامت خطا دفاعيا مؤقتا جنوب غرب سمخ من أجل منع تقدم السوريين، ولكن القصف السوري كان شديدا عليهم مما أدى إلى مقتل نائب قائد كتيبة غولاني المسؤول عن الوحدة التي جاءت لنجدة قوات سمخ.

استمر القصف السوري للمنسحبين وإسقاط القتلى والجرحى منهم حتى صدرت الأوامر بوقف القصف حالا للمحافظة على الذخيرة، ولولا ذلك لكانت خسارة "الهاغاناه" أكبر من ذلك بكثير.

بلغ عدد القتلى من المدافعين ٥٤ قتيلا حسب المصادر الصهيونية، بينما ترجح المصادر العربية أن عدد القتلى اليهود كان ١١٣ وعشرين أسيرا، كما غنمت القوات السورية مصفحات وهاونات وقنابل صاروخية ضد المدرعات وكمية كبيرة من الرشاشات.

في المساء ابتدأت الاستعدادات الصهيونية لهجوم مضاد على القوات السورية في سمخ، وخوفا من هجوم سوري على مستعمرة "شاعر هچولان" تم إخلاؤها في نفس الليلة، هي ومستعمرة "مسّاده" (مسعده)، الواقعتين شرق نهر اليرموك، فاحتلهما الجيش السوري بدون مقاومة.

الهجوم على "دچانيا أ" و"دچانيا ب"

في ليلة ١٨-١٩ أيار/ مايو ١٩٤٨، وصلت إلى المنطقة سرية "يفتاح" من "الپلماح"، وقامت هذه القوة بعملية مضادة ضد القوات السورية المرابطة في سمخ، فاحتلت المدرسة القريبة من مركز الشرطة، وعندما اقتربت منه أمطرها السوريون بوابل من القذائف من المدرعات، مما اضطرها إلى الانسحاب، وبذلك فشل الهجوم المضاد على سمخ مما أثر سلبا على معنويات الجنود الصهاينة من جهة، وأعطاهم فرصة ليوم آخر من أجل تقوية تحصينات المستعمرات الأخرى، تحسبًا للهجوم السوري عليها، من جهة أخرى.

كانت معلومات السوريين عن المنطقة شبه معدومة، وذلك لأن الخطة العسكرية الأصلية لم تكن تقضي بأن يكون الهجوم من منطقة جنوب بحيرة طبرية، بل من شمالها، كما تقدم في بداية هذه العجالة، ولذلك كانت معلوماتهم عما خلف أشجار السرو الكثيفة التي تحجب مستعمرتي "دچانيا أ" و"دچانيا ب" معدومة، فلم يعرفوا موقع المستعمرتين بدقة، وحتى أنهم كانوا يجهلون إذا كانت المستعمرتان خلف نهر الاْردن أو قبله، ولَم يكن لديهم خرائط للمواقع التي سيهاجموها.

كما أنه لم تكن لديهم معلومات دقيقة عن أسلحة "الهاغاناه"، بل كان باعتقادهم أن الصهاينة لا يملكون أية أسلحة ثقيلة بإمكانها أن يصل مداها إلى مواقعهم التي تمركزوا فيها بعد احتلال سمخ وغيرها.

رغم كل ذلك، صدرت الأوامر باحتلال مستعمرتي "دچانيا أ" و"دچانيا ب"، في يوم ٢٠ أيار/ مايو ١٩٤٨، وابتدأ الهجوم في الساعة الرابعة صباحا، على أن يبدأ الهجوم بقصف مدفعي لمدة ربع ساعة، ثم تقوم الدبابات بالتقدم نحو "دچانيا أ"، ويأتي خلفها الفوج الثالث للمشاة بقيادة المقدم أمير شلاش، باقي المصفحات تهاجم مستعمرة "دچانيا ب" ويأتي خلفها فوج المشاة الأول، أما الفوج الثاني للمشاة فيبقى احتياطيا على تل ناقص ٩٨.

فشل ذريع وانسحاب إلى الخلف

بعد قصف استمر لربع ساعة للمستعمرتين من مدافع عيار ٧٥ ملم و ٢٥ رطلا ومدافع هاون عيار ٦٠ و ٨١ ملم ومدافع رشاشة من مركز شرطة سمخ، تقدم فوج المشاة الثالث بثلاثة صفوف، بمؤازرة ١٢ دبابة من نوع "رينو ٣٥"، وعشرين مصفحة، وقامت الدبابات والمصفحات بالتقدم نحو مستعمرة "دچانيا أ" تقدما مباشرا باتجاه المستعمرة وكان خلفها جنود المشاة، واستطاعت الدبابات اختراق السياج الخارجي للمستعمرة واقتحامه بدون أن تتعرض لألغام أرضية.

حتى الآن كانت المعركة مضمونة النجاح، وأصبح بإمكان الدبابات السورية سحق المهاجمين تحت جنازيرها، ولكن إحدى الدبابات تعرضت لقذيفة ضد المدرعات من نوع "فيات"، ثم أصاب مدفع عيار ٢٠ ملم مصفحتين أخريين، ثم التهمت النيران دبابتين أخريين تعرضتا للقنابل وقنابل المولوتوف. باقي الدبابات والمصفحات استمرت بالقصف ولكن وحدة المشاة خلفها تعرضت لنيران كثيفة ووقعت بينها خسائر فادحة، ولذلك توقفت عن التقدم، وبقيت خلف جدران المستعمرة، وابتدأ جنودها بالتخندق بهدف المحافظة على الأرض التي سيطر عليها الجيش السوري من أجل تنسيق الهجوم مجددا، حتى الساعة ٠٧:٣٥ كان الهجوم على "دچانيا أ" قد توقفت حدته وبقي الطرفان في مواقعهما بدون حدوث اَي تقدم لصالح أحد الطرفين.

على جبهة "دچانيا ب"، قصف السوريون المستعمرة، وعند الظهر ابتدأوا بالتقدم نحو المستعمرة، ووصلت الدبابات إلى بعد ١٠٠ م عن سياج المستعمرة واستمرت بالقصف، وتقدم المشاة خلفها بسريتين، ووصل هؤلاء إلى مسافة ثلاثين مترا عن المستعمرة، ولكن النيران الكثيفة للمدافعين منعتهم من التقدم، ولَم ينجح الاقتحام فجرت محاولة أخرى بواسطة ١٢ دبابة، ولكن هذا الهجوم فشل أيضا، فبقي السوريون يمطرون المستعمرتين بقذائف المدافع والسلاح الخفيف.

بقي الوضع متوازنا بين الطرفين حتى الساعة ١٣:٢٠ ظهرا، إذ ابتدأت خمس مدافع صهيونية من نوع "نابوليونتشيكيم" عيار ٦٥ ملمًا، بقصف القوات السورية في سمخ، فهذه المدافع أرسلت على وجه السرعة من ميناء تل أبيب، ضمن صفقة الأسلحة التشيكية، وهي مدافع جبلية قصيرة المدى ولكن فعاليتها كبيرة، وبسببها تغير ميزان القوى لصالح قوات "الهاغاناه".

ابتدأت هذه المدافع التي نصبت على مرتفعات "يڤنيئيل"، في قصف شديد للقوات السورية في سمخ، ثم حولت نيرانها إلى قوات المشاة والمدرعات المتمركزة بين سمخ ومستعمرتي "دچانيا"، فنشبت النيران في الحقول وابتدأت الخسائر السورية بالوقوع، وكانت هذه مفاجأة كبيرة للسوريين من جهة، وضربة عسكرية قوية من جهة أخرى، أدت إلى تغيير جذري في موازين القوى، حيث أن المدافع الصهيونية الجديدة زرعت الموت بقذائفها المباشرة التي وصلت إلى القوات السورية في كل المنطقة، فانسحب السوريون تحت وقع قذائفها إلى الشرق، وكان الانسحاب عشوائيا بسبب هول المفاجأة والحرائق المنتشرة في الحقول، مما أدى إلى زيادة الضحايا والشهداء من الجيش السوري، والذي استمر في انسحابه مذهولا حتى تل ناقص ٩٨، تاركًا خلفه سمخ و"شاعر هچولان" ومسعده، وعشرات الشهداء.

كانت الهزيمة كبيرة، مما أدى إلى استقالة وزير الدفاع آنذاك، أحمد الشراباتي، وتمت إقالة الضباط الكبار الذين خططوا للمعركة، ومنهم الزعيم عبد الله عطفة، والعقيد عبد الوهاب حكيم، والعقيد جميل برهاني. وفِي المقابل تسلم الزعيم حسني الزعيم رئاسة أركان الجيش السوري بالوكالة، وتم تعيين العقيد أنور بنود قائدا للواء الأول بدلا من عبد الوهاب حكيم، وعين العقيد توفيق بشور آمرا للواء الثاني، بدلا من جميل برهاني. وحدثت كل هذه التعيينات والإقالات بين التواريخ ٢٢-٢٤ أيار ١٩٤٨.

انتقال المعارك شمالا

بعد استلام حسني الزعيم قيادة أركان الجيش السوري، قرر تغيير الخطة التي فرضت عليه من قبل القوات العربية الموحدة، وقرر مهاجمة مستعمرة "مشمار هيردين" (عكوش) الواقعة جنوب بحيرة الحولة، عن طريق جسر بنات يعقوب، ومن ثم إلى مستعمرة "روشبينا" (الجاعونة)، وهناك يلتقي مع قوات جيش الإنقاذ والتي تدخل من شمال فلسطين.

كانت الخطة تقضي بانطلاق الهجوم في الخامس من حزيران/ يونيو ١٩٤٨، ولذلك تم سحب سرية الدبابات من القطاع الجنوبي (منطقة جنوب بحيرة طبرية)، بتاريخ ٢٥ أيار/ مايو إلى القنيطرة، وهناك تم إصلاح المعطوب منها وتسليحها من أجل المعركة الجديدة. وتم تنسيق الهجوم مع الجيش اللبناني بأن يهاجم هذا قرية المالكية في نفس يوم الهجوم عَلى "مشمار هيردين"، وكانت هذه هي المعركة الوحيدة التي خاضها الجيش اللبناني في حرب ١٩٤٨. (تناولت هذه المعركة في الحلقة الخامسة بعنوان "سقوط المالكية").

تم زج وحدات اللواء الثاني في المعركة، وعززته القيادة بالمدفعية والدبابات والمصفحات ووحدات الهندسة، بالإضافة إلى وحدات اللواء الأول تحت قيادة العقيد أنور بنود.

في الساعة ١٠:٠٠ صباحا، ابتدأ فوج مشاة سوري بالتقدم باتجاه مستعمرة "مشمار هياردين"، ولأن جسر بنات يعقوب كان مهدما، فإن القوة قامت بعبور النهر من منطقة "قصر عطرة"، وبعد ثلاث ساعات كانت القوة على بعد كيلومتر واحد عن الحد الشرقي للمستعمرة، وعندما تقدمت القوة أكثر جوبهت بنيران كثيفة من التحصينات داخل مستعمرة "مشمار هياردين"، عندها توقفت القوة وطالبت المدفعية بالتدخل، فقامت هذه بقصف المستعمرة بشكل محدود لتوفير القذائف.

عند الساعة ١٤:٠٠ وصلت نجدات صهيونية إلى المستعمرة، وتوسعت رقعة المجابهة، ولأن الأرض التي تقدمت منها وحدة المشاة السورية كانت مسطحة ومكشوفة، ولا وجود لساتر يقيهم من القذائف، ولأن الشمس صارت تميل إلى الغروب، وتواجه مباشرة وجوه المهاجمين، أصبح من الصعوبة بمكان أن يتقدموا أكثر، ولذلك قام قائد فوج المشاة بإعطاء الأوامر بالانسحاب لتفادي وقوع عدد كبير من الشهداء كما حصل في معارك سمخ ودچانيا، وانسحب الجيش بعد خسارته أكثر من عشرة شهداء.

احتلال مستعمرة "مشمار هياردين" وتل أبو الريش

في مساء الثامن من حزيران / يونيو ١٩٤٨، بدأت القوات السورية هجوما جديدا على "مشمار هياردين"، ابتدأ الهجوم بقوة فرسان من المغاوير، والتي قامت بالعبور من مقبرة بنات يعقوب، واتجهت شمالا إلى مستعمرة "مشمار هياردين"، ووصلت بعد منتصف الليل وأشتبكت مع المدافعين عن المستعمرة، في قتال استمر حتى ساعات الفجر، مدعمة بقصف مدفعي مكثف على مركز المستعمرة، وحتى ساعات الفجر الأولى تم أسر أكثر من عشرين من محاربي المستعمرة، واستطاع الجيش السوري السيطرة عليها بالكامل، بعد انسحاب باقي المدافعين إلى خارج المستعمرة، وصاروا يطلقون النار على الجنود السوريين من مراكزهم في أطراف "مشمار هياردين"، مما أدى إلى قصفهم من قبل المصفحات السورية بقيادة الرئيس صبحي عبارة، وذلك بواسطة مدافع "المارمون" الفعالة، وحتى الساعة السادسة صباحا انتهت المقاومة، وأصبحت المستعمرة بكاملها في أيدي القوات السورية، التي تحصنت من جهة الشرق والغرب والجنوب منعا لأي هجوم مضاد.

قامت قوات "الهاغاناه" بعد هزيمتها في "مشمار هياردين" بإرسال قوات إلى المنطقة من أجل منع تقدم القوات السورية إلى "روش بينا"، وتمركزت هذه القوات على المرتفعات المطلة على المستعمرة. وكان أعلى هذه المرتفعات تل "أبو الريش"، والذي قرر الجيش السوري السيطرة عليه وإلا تعرضت قواته لهجومات من هذا التل تعرض أرواح الجنود للخطر، ومن الممكن أن تؤدي إلى خسارة الإنجاز الذي تحقق باحتلال مستعمرة "مشمار هياردين".

في الساعة السادسة صباحا من يوم العاشر من حزيران / يونيو ١٩٤٨، ابتدأ الهجوم عَلى تل أبو الريش بوحدة دبابات وسرية مشاة، وصارت الدبابات تقصف القوات المتمركزة في التل بمدافع عيار ٣٧ ملم، مما أدى إلى إخلاء المرتفعات الواقعة بين تل أبو الريش ووادي شبعين، مما سهل على الدبابات مهمة التقدم، ولكنها تعرضت لانفجار ألغام تحتها مما أدى إلى قطع جنازيرها، ولكنها استمرت بقصف القوات الصهيونية من موقعها، وبقيت دبابة واحدة قادرة على التقدم، والتي استمرت في صعود التل رغم المقاومة الشديدة، حتى استطاع ان يصل إلى قمته عند الساعة العاشرة صباحا.

استمرت المعارك الدائرة بين الدبابات السورية والقوات الصهيونية المدعمة بمدافع "البازوكا"، حتى دخول الهدنة الأولى بين الجيوش العربية وإسرائيل، وذلك في الساعة الحادية عشرة من صباح من يوم ١١ حزيران / يونيو ١٩٤٨. وبذلك دخلت الهدنة الحربية والتي استمرت لمدة أربعة أسابيع والجيش السوري متمركز في المنطقة محتلا لمشمار هايردن (كعوش) وتل أبو الريش، ومتأهب للانطلاق إلى "روش بينا" (الجاعونة) واحتلالها.


المصادر:

١. حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٨، الرواية الإسرائيلية الرسمية، مترجم عن كتاب تاريخ "الهاغاناه"؛

٢. "بِني موريس"، ١٩٤٨ قصة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛

٣. موقع وزارة الدفاع في الجمهورية السورية، دور الجيش السوري في حرب فلسطين ١٩٤٨؛

٤. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود ١٩٤٧-١٩٥٢.

التعليقات