70 عاما على النكبة: سقوط توأمي فلسطين (اللد والرملة) 1948 (22)

كانت مدينتا اللد والرملة جزءا من الدولة العربية حسب قرار تقسيم فلسطين، والذي أقرته الأمم المتحدة عام 1947، وبقيتا خارج حدود الاحتلال الصهيوني بعد انتهاء المعارك بين الكيان الصهيوني، الناشئ، وبين الجيوش العربية، حتى إعلان الهدنة الأولى في حزيران 1948

70 عاما على النكبة: سقوط توأمي فلسطين (اللد والرملة) 1948 (22)

حملة "داني" الصهيونية في منطقة المركز والقدس 1948
 


كانت مدينتا اللد والرملة جزءا من الدولة العربية حسب قرار تقسيم فلسطين، والذي أقرته الأمم المتحدة في ٢٩ تشرين ثانٍ/ نوڤمبر ١٩٤٧، وبقيتا خارج حدود الاحتلال الصهيوني بعد انتهاء المعارك بين الكيان الصهيوني، الناشئ حديثا، وبين الجيوش العربية، حتى إعلان الهدنة الأولى في ١١ حزيران/ يونيو ١٩٤٨. هذا الوضع لم يرق لبن غوريون والقيادة الصهيونية، فبالنسبة لهم فإن وضع اللد والرملة كمدينتين عربيتين، فيهما قوات أردنية ومناضلون فلسطينيون، يشكل خطرا على تل أبيب من جهة، وعلى القدس الغربية والطريق إليها من جهة أخرى، فالعرب من شأنهم اتخاذ المدينتين أو إحداهما كنقطة انطلاق من أجل الهجوم على تل أبيب، المدينة الصهيونية الأهم، ولذلك وضع قادة الكيان الصهيوني خططا عسكرية بهدف احتلال اللد والرملة بعد تجدد القتال مع الجيوش العربية فور نهاية الهدنة.

كان الاعتقاد الصهيوني، بل قل الذريعة الصهيونية، أن الجيش الأردني يحتفظ بقوات كبيرة داخل هاتين المدينتين، يقدر تعدادها بما يتجاوز ألف جندي، بل ويصل إلى ١٥٠٠، بينما لم يكن فيهما أكثر من ١٥٠ فقط. ولأن الجيش الأردني، متمركز أيضا في منطقة اللطرون، ويحكم سيطرته على الطريق إلى القدس من تل أبيب، ابتدأت القيادة الصهيونية بالإعداد لهجوم كبير، تكسر فيه شوكة الجيش الأردني من جهة، وتتخلص من "الشوكتين" العالقتين في جسم الدولة الصهيونية، كما وصف "بن غوريون" مدينتي اللد والرملة، وقدر أيضا أنهما "خطيرتان من كل النواحي"، وكتب في يومياته أنه يجب "هدم هاتين المدينتين".

اللد والرملة في سطور

مدينة اللد كانت موجودة قديما منذ العهد الكنعاني، وقد ذكرت ضمن قائمة "تحتمس الثالث" في بلاد كنعان عام ١٤٦٥ قبل الميلاد. أما مدينة الرملة فقد بناها الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك عام ٧١٦ ميلادية، عندما كان واليا على جند فلسطين في عهد أخيه الخليفة الوليد بن عبد الملك، وقد اختار لها أن تكون على بعد ثلاثة كيلومترات فقط من مدينة اللد العريقة. قام سليمان بن عبد الملك بتحويل الرملة إلى عاصمة فلسطين، أما اللد فقد تضررت من هذا، وهجرها معظم سكانها بسبب ذلك، واستمرت الرملة على هذه الحال حتى عام ١٠٩٩ م عندما سقطت في يد الصليبيين.

بلغ عدد سكان اللد عام ١٩٤٦ ما يقارب ١٨،٢٥٠ نسمة، كلهم من العرب الفلسطينيين. أما أراضي اللد  فكانت تصل إلى ١٩،٨٦٨ دونما. أما الرملة فوصل عدد سكانها عام ١٩٤٥ ما يقدر بــ ١٥٢٠٠ نسمة، أيضا كلهم من العرب. ووصلت مساحة أراضي الرملة إلى ٣٨،٩٨٣ دونما.

بعد سقوط مدينة يافا وتهجير سكانها وسكان القرى المحيطة بها، انتقل الكثيرون منهم إلى اللد والرملة بحيث وصل عدد السكان في المدينتين معا ما بين خمسين حتى سبعين ألفا.

تكمن الأهمية الإستراتيجية لهاتين المدينة، بسبب وجودهما في وسط فلسطين، وكان فيهما مطاران، عسكري في الرملة، ومدني كبير في اللد، وكان يعتبر أحد أهم المطارات في الشرق الأوسط. كما أن السكتين الحديدتين الأهم في فلسطين، القدس- يافا وحيفا القنطرة، كانتا تلتقيان في اللد. كما أن معسكر صرفند العسكري كان يقع بالقرب من الرملة.

قوام الجند العربي في المدينتين عشية احتلالهما

وقع إهمال كبير بحق اللد والرملة بعد قرار التقسيم، من قبل اللجنة العسكرية في دمشق، حيث لم يقم أي من أعضاء اللجنة بزيارتهما وتفقد أحوالهما، وما عملته فقط كان مجرد إرسال سرية من المجاهدين المتطوعين إلى اللد والرملة في ٢٣ شباط/ فبراير ١٩٤٨، بقيادة الملازم أول عبد الجبار العراقي، وفصيلا من المتطوعين المصريين، حتى تكون هذه القوة تحت قيادة الشيخ حسن سلامة القائد العسكري لقطاع الوسط المعين من قبل المفتي الحاج أمين الحسيني، واعترفت اللجنة العسكرية بهذا التعيين، وقد استشهد الشيخ حسن سلامة في معركة رأس العين التي كانت بين قوات "الهاغاناه" ومناضلي الجهاد المقدس في ٢٨-٢٩ أيار/ مايو ١٩٤٨، حيث أصيب في المعركة، وفارق الحياة في اليوم التالي.

كان في اللد، بعد قرار التقسيم، ٧٥ مقاتلا من جماعة الجهاد المقدس بقيادة الشيخ حسن سلامة، و ٢٥٠ من رجال الحرس المدني، و ٣٥٠ من البدو المتطوعين. أما عندما دخل الجيش الأردني إلى فلسطين في ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨، فقد وضع فيها أربعين جنديا نظاميا فقط. كان عتاد المناضلين والجيش الأردني في المدينة على النحو التالي: ١١ مصفحة، و٣ مدافع مورتر، ومدفعان كبيران، و ٤ مدافع مضادة للدبابات، ومدفعان صاروخيان، و ٢٥ برن، و ٧ ستن، و ١٥٠ بندقية، و ٤ مدفع رشاش "هوشكس". 

أما في الرملة فكان هناك ٣٠٠ مناضل، ٥٠ من فرقة الجهاد المقدس، و ٢٥٠ من رجال الحرس البلدي. كان لدي المناضلين ٤٠٠ بندقية إنجليزية وألمانية، وبضع رشاشات من نوع برن، ومدفع رشاش من نوع "فيكرز" وثلاثة مدافع من نوع "هوشكس"، ومدفع واحد مضاد للطائرات، وأربع مصفحات. قام الجيش الأردني بإرسال سرية مصفحات إلى مدينة الرملة، يقودها ضابط إنجليزي، وكان قوامها ثلاث مصفحات و ٤٠ مقاتلا، ثم استبدلها خلال الهدنة الأولى بسرية مشاة مكونة من ١٢٥ جنديا، بقيادة الرئيس أديب القاسم والذي قسم السرية بين المدينتين، فوضع في اللد خمسين جنديا، وفِي الرملة ٧٥. كان الجيش الأردني مزودا بأربعة مدافع من نوع "فيات"، وبنادق من نوع "تومي" و"ستن"، ومدافع رشاشة.

بالإضافة لهذه القوة تمركزت كتيبة أخرى من الجيش الأردني في معسكر بيت نبالا في الشمال الغربي لمدينة اللد.

التخطيط الصهيوني للحملة العسكرية

ابتدأت القيادة العسكرية الصهيونية بالتفكير باحتلال اللد والرملة منذ الأيام الأولى للهدنة الأولى، حيث وضعت خطة عسكرية من أجل فتح الطريق إلى القدس، عبر احتلال المدينتين، وسميت الحملة المقترحة حملة "لودر" (من لّد أو لود بالعبرية ورملة)، وكان ذلك في ٢٠ حزيران/ يونيو ١٩٤٨. بعدها بعدة أيّام وبتاريخ ٢٦ من نفس الشهر، تقرر أن تشمل الحملة منطقة اللطرون ومدينة رام الله، من أجل توجيه ضربة قاصمة للجيش الأردني، ولذلك تغير اسم الحملة إلى "لرلر"، وهذا الاسم مكون من الأحرف الأولى لأهداف الحملة لّد-رملة-لطرون-رام الله. ولكن الاسم تغير فيما بعد على يد قائد الحملة المعين، يچئال ألون، والذي أسماها حملة "داني" على اسم قائد قافلة إمدادات إلى "چوش عتسيون"، والتي تعرض لها، أي القافلة، المناضلون العرب، وأبادوا جميع من كان فيها من جنود "البلماح".

كان التخطيط يقضي بالهجوم فورا بعد انتهاء الهدنة الأولى، على أمل أن تستمر فترة القتال إلى أكثر من ثلاثة أسابيع من أجل إتمام كل أهداف الحملة.

كانت منطقة الحملة المخططة على شكل قمع (مُحقان)، بابه الواسع يبدأ من منطقة الساحل في الغرب، يضيق على شكل مخروط كلما اقترب من سفوح جبال القدس، وهناك يصبح كأنبوب خرطومي ضيق حتى يصل مدينة القدس.

كان التفكير العسكري الصهيوني، يعتقد أن باب القمع أو المحقان، كان من الممكن أن تتعرض مناطقه للهجوم من جهة الطريق الرئيسي بين يافا والقدس بجانب محطة القطار، ومن جهة مطار اللد من قرية يهودية إلى جنوب تل أبيب، ومن جهة رأس العين باتجاه "بيتح تكڤا" وتل أبيب. كان الصهاينة يخافون من تعاون أردني عراقي حيث أن العراقيين كانوا في رأس العين، لأن الأراضي من جهة يهودية كانت سهلة لهجوم أرضي.

في مقابل ذلك، كان التفكير الصهيوني يرى في فتحة القمع أو المحقان الكبيرة فرصة من أجل هجوم مباشر على اللد والرملة، وهجوم من الجانب الشمالي على بيت نبالا، أو الجانب الجنوبي على مجدل يابا أو رأس العين، حيث يتواجد الجيش العراقي.

أما خرطوم القمع أو المحقان والذي يضم الطريق إلى القدس من منطقة اللطرون، ويضم طريق "بورما" التي شقها الصهاينة في فترة الهدنة كطريق بديلة من أجل الوصول إلى القدس، دون المرور عبر اللطرون التي يسيطر عليها الجيش الأردني، هذا الخرطوم من الممكن أن يتعرض لهجوم أردني من منطقة اللطرون، حيث تستطيع قوة ماشية أن تتوجه جنوبا بشكل مباشر، وبذلك تستطيع ضرب القوة الصهيونية بسهولة، ومن الممكن أن يساعده الجيش المصري من الخليل شمالا.

أهداف وخطة تنفيذ حملة "داني"

كانت خطة "داني" تهدف إلى احتلال مدينة ومطار اللد، واحتلال مدينة الرملة، والهجوم واحتلال منطقة اللطرون، واحتلال تلة الرادار والنبي صموئيل وبيدو، واحتلال بيتونيا رام الله.

كان التخطيط أن تنفذ الحملة على مرحلتين، في المرحلة الأولى تتم مهاجمة ومحاصرة القوات العربية في رأس العين، محاصرة قرية اليهودية وويلهالما، مهاجمة واحتلال مطار اللد والتمركز فيه، التموية بحصول هجوم مباشر على مدينة اللد من أجل إشغال القوة العسكرية العربية فيها، واحتلال المواقع المتقدمة في المدينة، التمويه بهجوم مباشر على الرملة ومشاغلة مقاتليها، استمرار مشاغلة قرية رأس العين، الهجوم على اليهودية وويلهالما واحتلالهما، هجوم خلفي على مدينة اللد واحتلالها، خروج قوة صهيونية من مستعمرة "بيت شيمن" القريبة وتهاجم بيت نبالا لإشغال القوة الأردنية فيها، استمرار محاصرة وإلهاء مقاتلي الرملة. من أجل منع إحضار قوات دعم أردنية من منطقة رام الله. كانت الخطة في هذه المرحلة تقضي بالتمويه بهجوم على بيدو، واختراق ليلي ووضع كمية كبيرة من الألغام في طريق رام الله - بيت غور التحتا، وكذلك إلهاء القوة العسكرية الأردنية في منطقة اللطرون.

المرحلة الثانية كانت تقضي بمحاصرة القوة الأردنية في اللطرون والقضاء عليها، واحتلال سلفيت وبيت نوبا، وهجوم مباشر على الجيش الأردني في بيدو وتلة الرادار، ثم هجوم برأسين على رام الله عن طريق بيدو وبيت نوبا، واحتلال بيتونيا، ومن ثم احتلال رام الله، على أن تقوم القوات التالية بتنفيذ الحملة الكبيرة، كتيبتان من لواء "كرياتي" (٢٠٠٠ جندي)، وكتيبة من لواء "إسكندروني" (١٥٠٠ جندي)، وكتيبتان من لواء "يفتاح" (من البلماح- ١٨٠٠ جندي)، وكتيبتان من لواء "هاريئيل" (من البلماح- ٢٢٠٠ جندي)، وكتيبتان من لواء "شموني" (أي ٨ بالعربية- ١٠٠٠ جندي)، وفصيلان من جنود الهندسة، وقوات المدفعية (٥٠٠ جندي) والطيران، وبهذا كان مجموع الجنود الصهاينة ٩٠٠٠ جندي.

وتكون مسؤولية تنفيذ الخطة على النحو التالي: مشاغلة رأس العين واحتلال اليهودية وويلهالما تقع على عاتق قوات "إسكندروني"، احتلال مدينة ومطار اللد تقع على عاتق قوات "يفتاح" و"كرياتي" و"شموني"، احتلال الرملة تقوم بها قوات "يفتاح" و"كرياتي"، صد ومشاغلة بيت نبالا تقع على عاتق قوات "كرياتي" ومقاتلي مستعمرة "بيت شيمن"، أما تنفيذ الهجوم في المرحلة الثانية في منطقة اللطرون ورام الله والنبي صموئيل وبيدو فتقوم بها قوات "هاريئيل".

وعين الجنرال يچئال ألون قائدا للعملية في السابع من تموز/ يوليو ١٩٤٨، أي يومين فقط قبل بدء المعارك، وعين إسحاق رابين نائبا له وضابطا للعمليات العسكرية. تكمن أهمية هذه الحملة الكبيرة، بالنسبة لحرب ٤٨، في أنها كانت المرة الأولى التي يشترك فيها أكثر من لواء واحد (حصل سابقا في الهجوم الأخير على اللطرون قبل الهدنة الأولى، عندما اشترك لواء "يفتاح" مع لواء "هاريئيل" في تنظيم الهجوم، ولكن ليس بهذا المستوى من التخطيط والتنظيم الدقيق)، بل عدة ألوية معا، تحت قيادة واحدة، مما ينبئ رسميا بتحول الألوية العسكرية الصهيونية إلى جيش نظامي بكل ما تعني الكلمة، بعد أن كانت قد تحولت من عصابات مسلحة إلى فرق عسكرية منظمة.

انتهاء الهدنة الأولى وبدء الهجوم

ابتدأت المرحلة الأولى لحملة "داني" في ساعات الصباح الأولى ليوم ١٠ تموز/ يوليو ١٩٤٨، حيث انقسمت القوة المهاجمة إلى قسمين هدفهما محاصرة اللد والرملة من جهة الشرق. من الناحية الشمالية كان على الكتيبة الثالثة من لواء "إسكندروني " (كتيبة ٣٣)، أن تحتل قريتي رنتية وويلهالما، ومحاصرة قرية اليهودية من الخلف. وتعمل القوة المدرعة من لواء "شموني" جنوب شرق كتيبة ٣٣، كان على الكتيبة التاسعة /"شموني" (كتيبة ٨٩)، أن تنطلق من خط رنتية -"كفار سيركين" نحو سكة الحديد، وتقوم باحتلال قريتي طيرة دندن وقولة، خلفها تسير الكتيبة ٣٣، وتتحضر الكتيبة ٨٩ للانطلاق من الطيرة إلى بيت نبالا. الكتيبة الثانية/"شموني" (كتيبة ٨٢) والتي تعمل مع الكتيبة الرابعة/"كرياتي" (كتيبة ٤٤)، تهاجم في نفس الوقت من كفر عانا إلى مطار اللد، معتمدة على كتيبة ٣٣ وكتيبة ٨٩، اللتين تحميان جناحها الشمالي. تستمر الكتيبة ٨٢ شرقا لدير طريف ولبيت نبالا، تاركة كتيبة ٤٤ للمحافظة على المنطقة المحتلة، وبعدها تنطلق مع الكتيبة ٨٩ باتجاه "بن شيمن"، وبذلك تفك الحصار المفروض على هذه المستعمرة منذ بدء المعارك في أيار/ مايو ١٩٤٨.

في الجناح الجنوبي للهجوم، تقوم الكتيبتان الثانية والثالثة/ "كرياتي" (الكتيبتان ٤٢ و ٤٣)، بالاقتراب من الناحية الغربية للرملة، أي حي سكنة فانوس، وتقوم بعملية إلهاء وعزل هذه الناحية، عندها يخرج لواء "يفتاح" من قرية البرية بجانب "چيزر" إلى عنابة وبعدها لخروبة ثم إلى جمزو ومن ثم إلى دانيال، وهناك يستمر بالتقدم إلى خربة الظاهرية، ويصل بعدها إلى "بن شيمن"، ويلتقي مع اللواء "شموني". الكتيبة الأولى/ "يفتاح" تبقى على أهبة الاستعداد لأي هجوم من ناحية جمزو-"بن شيمن"، بينما تنضم الكتيبة الثالثة/ "يفتاح" إلى القوة التي ستقوم بمهاجمة اللد.

انطلقت القوة الأولى للهجوم وهي السرية ب من الكتيبة ٣٣ عند الساعة ٠١:٤٥ من يوم العاشر من تموز/ يوليو ١٩٤٨.

كان كل هذا الهجوم المنظم جيدا، من الممكن له أن يبوء بالفشل لو أن الجيش الأردني كان جاهزا بقوات كبيرة في المنطقة، ولكن كما تقدم لم يكن أكثر من سرية واحدة مقسمة على المدينتين، وكتيبة واحدة في بيت نبالا، وهذه القوات ليس باستطاعتها الصمود أمام الجيش الكبير الذي يهاجم المدينتين. وكان چلوب باشا قائد الجيش الأردني قد أصدر أوامره للكتيبة الأولى المدرعة، والتي كانت تحمي اللد والرملة، للانتقال إلى منطقة طوباس المشرفة على الغور من أجل مراقبة التحركات الصهيونية النشطة في هذه المنطقة، والتي كانت ناقوس خطر بالنسبة لقيادة الجيش الأردني، تنذر بأن الخطة الصهيونية كانت تهدف إلى قطع المواصلات الخلفية للجيش الأردني عن طريق محاصرته من الخلف، ونسف المعابر إلى شرق الاْردن. هذه الأوامر يعتبرها بعض الضباط الأردنيين خاصة عبد الله التل بأنها مكيدة "دبرت بليل" بمشاركة إسرائيل وبريطانيا، وأن "چلوب باشا" متورط في ذلك، خاصة أن الأوامر صدرت في الثامن من تموز/ يوليو ١٩٤٨، أي قبل بدء القتال بيوم واحد فقط. بينما يرجح المحللون الصهاينة أن التحركات النشطة في منطقة الغور كانت عبارة عن تحرك للقوات التي تنطلق شمالا لتنفيذ حملة "ديكل" من أجل مهاجمة جيش الإنقاذ في منطقة الناصرة.

انتصارات سريعة ومقاومة ضعيفة

خرجت الكتيبة ٣٣ من "كفار سيركين" باتجاه رنتية وويلهالما بعد منتصف ليل ١٠ تموز/ يوليو ١٩٤٨، السرية الثالثة تجهزت عند الساعة ٠٢:١٥، أما السرية الأولى فكانت جاهزة عند الساعة ٠٢:٥٠، والسرية الثانية من نفس الكتيبة فكانت سرية احتياط. السرية الثالثة احتلت قرية رنتية عند الساعة ٠٥:٤٠، أما السرية الأولى فاحتلت ويلهالما عند الساعة ٠٦:١٥. لم تكن هناك مقاومة كبيرة في القريتين.

انتظرت الكتيبة ٨٩ بقيادة موشي ديان انتهاء عمليات الكتيبة ٣٣، ثم انطلق بكتيبته المدرعة من "بيتح تكڤا" إلى ويلهالما، وعبر سكة الحديد واحتل تلة راس أبو اسماعيل، الواقعة بين طيرة دندن وقولة، عند الساعة ٠٧:٠٠، في الساعة ٠٨:٣٠ احتلت السرية الأولى من الكتيبة ٨٩ قرية طيرة دندن، وفِي نفس الساعة ابتدأ هجوم السرية الثانية على قولة، واستطاعت احتلال القرية عند الساعة ١١:٣٠، بعد مقاومة ضعيفة من المقاتلين العرب في القرية. في الساعة ١٣:٠٠ استلمت القرية السرية الثالثة من كتيبة ٣٣، واستلمت السرية الأولى من كتيبة ٣٣ قرية طيرة دندن عند الساعة ١٨:٠٠.

تعرضت السرية الأولى من الكتيبة ٣٣ إلى قصف مدفعي من بيت نبالا عند الساعة ٠٧:١٥ صباحا، بعد احتلالها لويلهالما بساعة تقريبا، وبعدها بربع ساعة قامت المصفحات الأردنية بهجوم على القرية المحتلة، ولكن الهجوم لم يثمر شيئا، وانسحبت المدرعات الأردنية إلى مواقعها بعد فترة قصيرة.

في الساعة ٠٦:٤٥ صباحا، انطلقت الكتيبة ٨٢ المدرعة معززة بالدبابات، وعند الساعة ٠٧:٢٠ فتحت نيرانها على القوات المدافعة عن مطار اللد، واستطاعت الدبابات أن تدخل المطار عند الساعة ٠٧:٤٥. وبعدها بساعتين دخلت سرية من الكتيبة ٤٤ وتحصنت في المطار، لمنع أي هجوم معاكس. بعدها انطلقت الكتيبة ٨٢ باتجاه دير طريف ولكنها لم تصلها إلا عند الساعة ١٥:٣٠ وذلك لأن الكتيبة سلكت مسارا خاطئا باتجاه رنتية وويلهالما، وهناك أطلقت النار بالخطأ على القوات الصهيونية التي احتلت ويلهالما، واستمر القصف لمدة نصف ساعة. في الساعة ١٦:٤٥ كانت الكتيبة ٨٢ قد أتمت احتلال دير طريف بمساندة من الكتيبة ٤٤، بعد مقاومة ضعيفة، ثم تحولت باتجاه بيت نبالا، وهناك تعرضت لهجوم من قبل الكتيبة الأولى المدرعة الأردنية، وهذا أدى إلى فشل القوات الشمالية من الوصول إلى "بن شيمن" كما كان مقررا حسب الخطة.

الجناح الجنوبي للهجوم يحقق الهدف

أصبح هناك خطر حقيقي على الجبهة الأردنية بأكملها، بسبب اندفاع القوة المدرعة الصهيونية، أي الكتيبة ٨٢، نحو بيت نبالا، حيث أن هذه القوة من شأنها استغلال الثغرة بين دفاعات الجيش العراقي في مجدل يابا، وموقع الدفاعات الأردنية في بيت سيرا، وطول هذه الثغرة ١٥ كيلومترا خاليا من أي قوات نظامية، ولذلك تم استدعاء الكتيبة المدرعة الأولى من طوباس لأجل سد هذه الفجوة. وعند وصولها اشتبكت مع الكتيبة ٨٢ وأوقعت بها خسائر فادحة، وأجبرتها على التراجع إلى الخلف، ولكنها لم تنفذ هجوما مضادا بل اتخذت مواقع دفاعية فقط.

هذا ما كان في الجناح الشمالي للهجوم، أما في الجناح الجنوبي فقد انطلقت الكتيبة الأولى/ "يفتاح" من البرية إلى عنابة، وابتدأ هجومها عليها بقصف مدفعي عند الساعة ٠٢:٠٠ من يوم ١٠ تموز/ يوليو ١٩٤٨، وتم احتلال القرية عند الساعة ٠٣:٠٠ بسبب قلة المدافعين عنها، وعددهم ستون مناضلا محليا. وبعد الظهر احتلت الكتيبة قرية خروبة، وبعدها خربة قنيصة.

الكتيبة الثالثة/"يفتاح"، انطلقت في الصباح من النعاني إلى عنابة التي احتلت باكرا، وهاجمت قرية جمزو بالمدفعية، وأتمت احتلالها عند الساعة ١٨:٠٠، وكان فيها ٤٠ مقاوما فقط، ثم توجهت الكتيبة غربا، واحتلت قرية دانيال عند الساعة ٢٠:٠٠،  وعند الساعة ٢١:٠٠ احتلت خربة الظاهرية، ومن هناك انطلقت القوة إلى "بن شيمن"، وأنهت اليوم الأول للعمليات بنجاح.

استمرار العمليات واحتلال دير طريف

في ليلة ١٠-١١ تموز / يوليو ١٩٤٨، قامت الكتيبة ٤٢ من كرياتي بالهجوم وقصف مدينة الرملة من الناحية الجنوبية، عند حي سكنة فانوس، عن طريق السرية الثالثة، التي لم تقتحم الحي بعد تعرضها لإطلاق نار ومقتل أحد جنودها. أما السرية الأولى فسيطرت على مقر قيادة حسن سلامة، وصارت تقصف المدينة براجمات الصواريخ عيار ١٢٠ملم و ١٥٠ ملم، للتغطية على تقدم السريتين الأخريين للكتيبة، الثالثة عند سكنة فانوس والثانية التي تقدمت باتجاه البرج الأبيض.

في الساعة ٠٧:٠٠ انطلقت السرية الأولى المدرعة للكتيبة ٨٩، والسرية الثانية بسيارات الجيب، باتجاه دير طريف، وقامت بقصفها واحتلالها، ومن ثم احتلال بعض المواقع غرب القرية، تطل على بيت نبالا.

في الساعة ١٥:٥٠، انطلقت الكتيبة ٨٩ باتجاه "بن شيمن" جنوبا، وفِي الطريق واجهت هجوما من قبل بعض مدرعات الجيش الأردني، والتي كان باستطاعتها صد القوة الإسرائيلية ولكنها انسحبت بعد معركة قصيرة، وهاجمت شمالا دير طريف، وكبدت السرية الأولى الباقية هناك خسائر فادحة، مما أدى إلى انسحابها إلى قرية طيرة دندن.

حاولت السرية الثالثة من الكتيبة ٤٤ أن تساعد السرية الأولى من الكتيبة ٨٩،  في احتلال دير طريف مرة أخرى ولكن القوة الإسرائيلية ردت على أعقابها عند حلول الظلام.

في صباح اليوم التالي، الموافق ١٢ تموز/ يوليو ١٩٤٨، وعند الساعة ٠٧:٣٠، هاجمت الكتيبة ٨٢، بمساعدة كتيبة ٤٤ بنادق، وسرية واحدة من كتيبة ٣٣ قرية دير طريف، واشتبكت مع الجيش الأردني حتى ساعات بعد الظهر، وتمكنت القوات الصهيونية من احتلال دير طريف مجددا عند الساعة ١٥:٣٠، وكذلك أتمت احتلال شيخ علي، بعد معركة مع الجيش الأردني حتى المساء، وانسحاب المدرعات الأردنية إلى الخلف. 

رغم أن الجيش الأردني انسحب من دير طريف، كما تقدم، ودخلتها الكتيبة ٨٢ في ساعات المساء، إلا أنه استمر في دورياته في المنطقة، وبذلك لم تستطع القوات الصهيونية فتح الطريق إلى "بن شيمن"، وبقي هناك خطر بأن تهاجم الكتيبة المدرعة الأولى الأردنية القوات الصهيونية وتصل إلى اللد، ولكن ذلك لم يحصل، ورغم ذلك بقيت الكتيبة ٨٢ مكانها في دير طريف بهدف التصدي لمدرعات الجيش الأردني إذا هاجمت هذه القوات الصهيونية المحتلة.

بدء الهجوم على مدينة اللد

في يوم ١١ تموز/ يوليو ١٩٤٨، صدرت الأوامر للكتيبة الثالثة/ "يفتاح" بالتحرك باتجاه مدينة اللد والالتحام مع حاميتها العربية من الجهة الجنوبية الشرقية.

في الساعة ١١:٣٠ تحركت السريتان الأولى والثانية من دانيال باتجاه اللد. تعرضت السرية الثانية لهجوم من قبل مدرعات أردنية كان تأتي من داخل بساتين الزيتون القريبة وتهاجم ثم تنسحب، ثم تعود من جهة أخرى، مما صعب على المهاجمين إصابة المدرعات بمدافع "الفيات". أما السرية الأولى فقد تعرضت لإطلاق نار كثيف بالأسلحة الخفيفة من المدافعين العرب، مما منعها من التقدم باتجاه اللد. وأصبحت السريتان في وضع صعب، ولَم تستطيعا تحقيق أي تقدم باتجاه المدينة، ورغم الدعم المدفعي من قرية دانيال بمدافع عيار ٦٥ ملم، إلا أنهما لم تستطيعا التغلب على المقاومة، بل على العكس أصبح وضعهما خطيرا، فابتدأتا بالتحصن في المكان والتخندق من أجل الدفاع أمام أي هجوم مضاد.

أمام هذا الوضع، قرر قائد الحملة يچئال ألون، أن تنضم الكتيبة ٨٩، وهي كتيبة الكوماندو مع سيارات الجيب بقيادة موشي ديان، إلى الهجوم المباشر على اللد، على أن تدخل إلى مركز المدينة، وتتمركز هناك بانتظار وصول الكتيبة الثالثة/"يفتاح" إليها. 

كانت الكتيبة ٨٩ قد غنمت مدرعة أردنية مع مدفعية عيار رطلين، انقلبت في معارك دير طريف ورأس علي، بعد تعرضها لإطلاق النار ولكنها بقيت سالمة، فقرر "موشي ديان" أن تستعملها كتيبة الكوماندو في هجومها عَلى اللد، وقرر أن يكون الهجوم من جهة بيت نبالا، أي من الناحية التي يتمركز فيها الجيش الأردني، وذلك لأن المدافعين لن يتوقعوا أن يكون الهجوم على المدينة من الشرق. توقع ديان أن تكون الدفاعات ضعيفة في هذه الناحية، وأن الانقضاض على اللد منها سيشكل مفاجأة كبيرة.

وحدة الكوماندو تصعق المدينة

انطلقت كتيبة الكوماندو رقم ٨٩، بعد ظهر يوم ١١ تموز / يوليو ١٩٤٨، من "بن شيمن" إلى اللد، تقودها المدرعة الأردنية (أطلق عليها موشي ديان اسم  "النمر الرهيب")، ثم تسير خلفها سرية العربات النصف مجنزرة، ثم سيارات الجيب. وتم التنسيق بينها وبين قوات المشاة من "يفتاح" التي تخندقت في الحقول القريبة من اللد، بحيث يمتنع جنود المشاة من الاقتراب إلى الطريق التي تسلكها كتيبة الكوماندو.

كانت الخطة تقضي بأن تقوم وحدات الكتيبة بتجاوز أي مركبة تتعرض للإصابة بحيث لا تعوق مسيرتها، وعند دخولها اللد تقوم الكتيبة بالانقسام بحيث تسير السرية الأولى في الشارع الرئيسي شمالا، والثانية جنوبا، وتفتح السريتان النار بكثافة على جميع الجهات بدون تمييز. كل من يكون في مرمى نيران الكتيبة سيكون مصيره الموت المؤكد. أما سيارات الجيب فتسير في الخلف من أجل حماية المؤخرة، وعليهن ان يختبئن من خلف الجدران الإسمنتية أو ساحات البيوت.

عند اقتراب الكتيبة من مدينة اللد، تعرضت لوابل من رصاص المدافعين، ولكن المدرعة أو "النمر الرهيب" استطاعت أن تسكت النيران، بعدها بعدة مئات من الأمتار، وصلت الكتيبة إلى أطراف المدينة، وهنا كان الرصاص عليها كزخ المطر، ولكن ذلك لم يؤثر في المدرعة، أما سيارات الجيب ففتحت النار في كل الاتجاهات، مما كان له أكبر الأثر على المدافعين، اللذين لم يتعرضوا لحالة كهذه من قبل. استمرت المدرعة بالتقدم، واستطاعت أن تدمر التحصينات الأمامية بواسطة مدفعها عيار الرطلين، مما فتح الطريق أمام باقي الكتيبة، فانطلقت أنصاف المجنزرات والجيبات من خلف المدرعة، تطلق نيرانها بكثافة وفِي كل الاتجاهات، وباتجاه شبابيك البيوت وكل ما يتحرك، إذ أن القوة أصبحت الآن داخل المدينة.

عند مركز شرطة اللد، والذي ما زال يحتوي على جنود أردنيين، تعرضت الكتيبة المقتحمة لنيران قوية جدا، واشتبكت المدرعة المغتنمة مع القوات المدافعة عن المركز، بينما انطلقت كل القوة معا باتجاه الجنوب، والمدرعة وحدها شمالا، وليس كما كان مخططا. استمرت القوة في التقدم بعد أن صعق المدافعون عن المدينة من هذا الهجوم المفاجئ، وتوقف إطلاق النار باتجاه الكتيبة ٨٩، حتى وصلت القوة الصهيونية إلى مركز الشرطة الموجود على طريق اللد - الرملة، ثم استمرت في طريقها حتى وصلت إلى محطة القطار في مدينة الرملة.

هنا جمعت الكتيبة ٨٩ جرحاها وقتلاها، وعادت من نفس الطريق الذي اقتحمت منه المدينة، ومرة أخرى تعرضت لهجوم عند مركز شرطة اللد، ولكنها نجحت في الوصول إلى مدخل المدينة، وهناك كانت بانتظارها كتيبة "يفتاح" مستعدة لاستلام المدينة المصعوقة إلى درجة أن مقاومتها خبت وانتهت.

استمرت العملية من أولها إلى آخرها، مدة ٤٧ دقيقة فقط، وتكبدت فيها القوة الصهيونية تسعة قتلى وسبع عشرة جريحا، بينما سقط من العرب ما بين ١٠٠ إلى ١٥٠ شهيدا. حسم هذا الهجوم أمر المدينة فسقطت في يدي الكتيبة الثالثة من "يفتاح"، التي تمركزت في وسط المدينة، رغم أنها لم تحتل مركز الشرطة الذي أطلقت منه النيران عليها مما أدى إلى مقتل جنديين اثنين منها وجرح خمسة. جمع الضباط الصهاينة وجهاء المدينة عند الكنيسة وطلبوا منهم المساعدة في وقف إطلاق النيران فورا من مركز الشرطة، ولما حاول هؤلاء ذلك وعند اقترابهم من مركز الشرطة، أطلق عليهم الجنود الأردنيون النار فأصيب رئيس البلدية وخر صريعا.

استسلام الرملة ومجزرة في اللد

في ليلة ١١-١٢ تموز/ يوليو ١٩٤٨، وبعد أن انسحب الجنود الأردنيون من الرملة، وبسبب القصف الشديد لها، ومحاصرتها من جهة الشرق، بحيث أصبحت في وضع حرج، توجه وجهاء الرملة إلى الجند الصهاينة في البِرْيِة، وهؤلاء أخذوهم إلى مقر قيادة لواء "يفتاح" في مستعمرة "ياعن"، وهناك وقعوا على وثيقة استسلام مدينة الرملة، على أن يبدأ تنفيذ الاتفاق عند الساعة ١٠:٠٠ من يوم ١٢ تموز/ يوليو ١٩٤٨. نصّ الاتفاق على المحافظة على سلامة الباقين في المدينة، وكل من ليس في جيل الجندية، له الحرية في ترك الرملة أو البقاء، على شرط بأن يُسلّم كل المقاتلين المتطوعين من خارج المدينة. في ساعات الصباح الباكر دخلت الكتيبة ٤٢ من لواء كرياتي إلى مدينة الرملة وفرضت منع تجول لسكانها.

حتى الآن لم تستسلم مدينة اللد، رغم دخول الكتيبة الثالثة من لواء يفتاح إليها في اليوم السابق، ودعمها بسرية من الكتيبة الأولى/ "يفتاح"، من أجل السيطرة على المدينة. كان إطلاق النار يسمع في أغلب أحياء المدينة، إذ ما زال المقاومون يطلقون النار من أسلحتهم الخفيفة، لعل وعسى تأتيهم النجدة من القوات الأردنية إذا صمدوا يوما أو أكثر، خاصة أن القوة الأردنية المتواجدة داخل مركز شرطة اللد، ما زالت هناك تطلق نيرانها على القوات الصهيونية، وتنجح في إيقاع خسائر في الأرواح بها.

في نفس اليوم، وعند الساعة ١١:٣٠، دخلت مدرعتان أو ثلاث للجيش الأردني إلى داخل مدينة اللد، واشتبكت مع قوات "يفتاح"، فقتلت جنديين وجرحت ١٢، وبعد نصف ساعة من تبادل إطلاق النار، انسحبت المدرعات إلى خارج المدينة. اعتقد مناضلو المدينة بأن ما يحدث، ما هو إلا هجوم أردني معاكس، فهب الكثير منهم إلى القتال رغم حظر التجول، وصاروا يطلقون النار على القوات المحتلة والتي تقدر ب ٥٠٠ جندي. كانت الأوامر الصهيونية تقضي بإخماد المناوشات بكل شراسة وبلا رحمة، ولذلك ابتدأ الجنود الصهاينة يطلقون النار بشكل عشوائي على الناس الذين خرقوا حظر التجول، وعلى البيوت ورباتها، ورمى الجند قنابل متفجرة داخل الدور، وهذا أدّى إلى هروب الناس من بيوتها إلى الشوارع، منا أدّى إلى وقوعها في براثن الجنود الصهاينة الذين عمدوا فورا إلى قتلهم عند خروجهم من بيوتهم، ونتيجة لذلك وقع اكثر من ٢٥٠ شهيدا في شوارع وبيوت المدينة.

إتمام المجزرة وتهجير السكان

كان الجنود الصهاينة عند احتلالهم اللد، قد جمعوا عددا كبيرا من السكان داخل الجامع الكبير وكنيسة الخضر، وكان هناك الكثير من السكان الذين تواجدوا بأوامر من المحتلين بجانب الجامع والكنيسة، وتعرض هؤلاء السكان إلى إطلاق النار، وقتل الكثير منهم عندما ابتدأت الأحداث المذكورة أعلاه. لكن هذا لم يشفِ غليل الجنود الصهاينة، الذين تلقوا أوامر صارمة بقتل كل من يتحرك وكل من تسول له نفسه أن يكون خارج بيته، ولذلك هرب الكثير من السكان إلى داخل جامع دهمش لظنهم أن ذلك سيحميهم من انتقام الجنود الصهاينة، ولكن وجودهم داخل الجامع لم يشفع لهم، إذ دخل الصهاينة إلى الجامع، وقتلوا أكثر من ١٧٦ شهيدا، وجرحوا عددا كبيرا من الناس، وبهذا وصل عدد شهداء اللد إلى أكثر من ٤٢٦ شخصا، قتلوا جميعا بدم بارد، وخلال عدة ساعات فقط، مما أرهب الناس وأرعبهم، وجعلهم يفكرون في مصيرهم إذا بقوا في ظل هذا الاحتلال الشرس، وهذا بالضبط ما خطط له قادة الكيان الصهيوني للتخلص من سكان مدينتي اللد والرملة.

صدرت الأوامر من قبل إسحاق رابين قائد العمليات في حملة "داني"، بطرد سكان المدينتين المحتلتين، وذلك بعد أن حصل على موافقة بن غوريون، حيث أشار هذا بيده نحو الشرق، عندما اجتمع مع قائد الحملة يچئال ألون ونائبه رابين في مقر قيادة الحملة، قائلا: يجب طردهم، قاصدا أهالي اللد والرملة.

في اليوم التالي، أي ١٣ تموز/ يوليو ١٩٤٨، ابتدأ الجنود الصهاينة، لواء "يفتاح" في اللد ولواء "كرياتي" في الرملة، التي وصلتها أخبار المجزرة في اللد، بالدخول إلى البيوت في المدينتين وحثّ السكان بل أمرهم بترك مدينتهم والتوجه شرقا نحو بيت نبالا ومنها إلى رام الله، أو قل "إلى الملك عبد الله، ليهتم بكم، فليس لكم مكان هنا". خلال يومين قام الجنود بطرد أكثر من ٥٠ ألفا، ويقال ٧٠ ألفا، من سكان اللد والرملة بالقوة.

كان ذلك في شهر تموز/ يوليو، حيث درجات الحرارة عالية جدا، وكان ذلك في شهر رمضان أيضا، وكان على كل السكان المهجرين أن يذهبوا إلى رام الله مشيا على الأقدام، ولذلك مات العشرات منهم في الطريق من العطش والجوع. كان الناس وهم في طريقهم نحو الشرق، يلقون ما بأيديهم شيئا فشيئا كلما تقدموا في مسيرتهم وذلك من أجل تخفيف حملهم، حيث لا طائل لهم بالأحمال الثقيلة في هذا الحر الشديد، ثم يبدأون بعدها بالسقوط صرعى، على قارعة الطريق.

كان الجنود الصهاينة يوقفون الفلسطينيين المهجرين، ويأخذون منهم عنوة حاجياتهم الثمينة في إحدى أكبر عمليات السرقة في حرب ٤٨، وكان الجنود يطلقون النار من فوق رؤوس الناس من أجل أن يستمروا في طريقهم بدون توقف، فكلما توقفوا أو ارتاحوا كانت النار تطلق من فوقهم من مدفع رشاش لترهيبهم وحثّهم على الإسراع في الهرب. كان المنظر رهيبا، حيث أن الشوارع كانت مليئة بعشرات الآلاف من الناس المتوجهة نحو الشرق، مما اعتبره يچئال ألون جزءا من الخطة العسكرية أو الاستغلال العسكري لهذا الوضع، إذ أن وجود هذا العدد الهائل من الناس على الطرقات من شأنه الحد من تحرك الجيش الأردني، فليس باستطاعته تنفيذ هجوم مضاد، بسبب الطرقات المزدحمة بالناس، وكذلك عليه أن يهتم بإحضار اللوازم الأساسية لهم، ولمن توجه إلى مدينة رام الله. لَم تسلم بيوت السكان المهجرين من سرقات الجنود، الذين اعتبروا محتويات البيوت غنائم سهلة لهم، وعملوا خلال مدة طويلة على سرقة كل ما يقع في أيديهم من طيبات وخيرات هذه البيوت.

بقية الحملة العسكرية وقدوم الهدنة الثانية

في الشمال الشرقي للد، قام لواء إسكندروني باحتلال رأس العين ومجدل يابا، واللتين كانتا تحت سيطرة الجيش العراقي، وكان ذلك بتاريخ ١١ تموز/ يوليو ١٩٤٨، فيما سمي بحملة "بتاك" وهي جزء من حملة داني. كذلك خاض اللواء الأول الأردني معارك ضارية مع لواء إسكندروني للسيطرة على قرية قولة، وانتقلت القرية من يد إلى أخرى، حتى سقطت نهائيا في يد القوات الصهيونية في ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨.

في الأيام ١٤-١٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨، احتل اللواء "يفتاح" ولواء "كرياتي"، القرى رفيليا وسلفيت والبرج وشلتا. كما واحتل لواء "هريئيل" القرى صوبة وستاف وخربة اللوز وخربة دير عمرو وعكور في منطقة القدس في يومي ١٣-١٤ تموز/ يوليو ١٩٤٨. واحتل كذلك القرى كسلا وبيت ام الميس وبيت تول وصرعة ودير رأفت وعسلين واشوع وعرطوف في يومي ١٧-١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨. وقام "الإيتسل" مع لواء "عتسيوني" باحتلال القرى بيت صفافا وعين كارم والمالحة.

في ١٦ تموز/ يوليو ١٩٤٨، فشل لواء "هريئيل" باحتلال التلال الشرقية لمنطقة اللطرون بعد اشتباكه مع الجيش الأردني، كما وأن هجوما مباشرا على مركز شرطة اللطرون قبل دخول الهدنة الثانية بساعتين أي مساء ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، فيما سمي بحملة "ميمي"، فشل فشلا ذريعا. كذلك فشل هجوم نفذه لواء "عتسيوني" بمشاركة "الإيتسل" و"الليحي"، في ليلة ١٦-١٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨، على مدينة القدس القديمة. 

دخلت الهدنة الثانية مساء يوم ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، منهية حربا حقيقية من الجهة الصهيونية، حققت مكاسب كبيرة جدا وبسرعة قياسية، متخلصة من "الشوكتين" اللتين أراد بن غوريون أن يهدمهما. كل ذلك مقابل حرب وهمية في الجانب الآخر، فلا الجيش العراقي حاول أن يقوم بأي هجوم مضاد على القوات الصهيونية، ولا الجيش الأهم في هذه المنطقة، أي الجيش الأردني الذي انسحب من اللد والرملة وتركهما فريسة سهلة في براثن الجيوش الصهيونية الغازية، ولَم يجرب أن يقوم بمعارك هجومية كبيرة في المنطقة، ما يعتبره الكثيرون مشاركة في المؤامرة، بينما يعزوه البعض إلى نقص الذخيرة والعتاد لدى الجيش الأردني بسبب الحظر الأمبركي والبريطاني لبيع الأسلحة للعرب، أو هذا ما ادعاه قائد الجيش الأردني في تلك الأيام، وهو البريطاني چلوب باشا. 

هذا الرأي أو ذاك، لا يغيران من الحقيقة القائلة إن القوات التي أعدها الكيان الصهيوني أكبر بكثير من طاقة القوات الأردنية في المنطقة، وإن هذه الحملة حولت الكيان الناشئ حديثا إلى قوة عسكرية منظمة لا يستهان بها، وأعطت قادته الثقة المطلوبة بالقدرة على كسر الجيوش العربية الضعيفة، والتي تعمل بدون أدنى تنسيق، وتعتبر بعيدة جدا عن التخطيط والتنفيذ الدقيقين كما حصل في الأيام الأولى لحملة "داني".


المصادر:

١. حامد خطيب، قصة مدينة الرملة، إصدار دائرة الثقافة في م.ت.ف؛

٢. عبد الرازق أبو ليل، قصة مدينة اللد، إصدار دائرة الثقافة في م.ت.ف؛

٣. إسبير منير، اللد في عهدي الانتداب والاحتلال، إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية؛

٤. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود، ١٩٤٧-١٩٥٢؛

٥.  "بيني موريس"، ١٩٤٨ تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛

٦. "ألحنان أورن"، في الطريق إلى المدينة، حملة "داني"، إصدار الجيش الإسرائيلي؛

٧. أحمد خليفة، حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٨، الرواية الإسرائيلية الرسمية، مترجم عن تاريخ "الهاغاناه"؛

٨. "بيني موريس"، ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين؛

٩. عبد الله التل، مذكرات، كارثة فلسطين؛

١٠. صادق الشرع، حروبنا مع إسرائيل ١٩٤٨-١٩٧٣، معارك خاسرة وانتصارات ضائعة؛

١١. "موشي ديان"، كتيبة الكوماندو "تهتك" اللد، مجلة "معرخوت"، العدد ٦٢-٦٣ تموز/ يوليو ١٩٥٠.

التعليقات