70 عاما على النكبة: الهدنة الثانية 1948 (25)

الهدنة الأولى أوقفت الحرب، وأعطت الصهاينة وقتا ثمينا من أجل تحسين موقفهم العسكري، وهذا ما حصل فعلا خلال أربعة أسابيع أخرى، خلال الهدنة، استغلها الصهيوني في تحضير نفسه للمرحلة القادمة من الحرب، بينما لم يفعل العرب شيئا جديا

70 عاما على النكبة: الهدنة الثانية 1948 (25)

مقاتلون عرب في فلسطين 1948

قصة أحداث الهدنة الثانية ومعاركها ١٩٤٨


دخلت الهدنة الثانية موعدها في ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بعد معارك استمرت عشرة أيّام، على طول جبهات فلسطين من شمالها لجنوبها، كانت الخسارة فيها للجيوش العربية، التي كانت تشكل خطرا على وجود الكيان الصهيوني الناشئ، وذلك عندما دخلت الأراضي الفلسطينية في ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨، وخلال معارك استمرت لأسابيع أربعة حققت بعض الإنجازات هنا وهناك، وسيطرت على أقسام واسعة من فلسطين، ولكن الهدنة الأولى أوقفت الحرب، وأعطت الصهاينة وقتا ثمينا من أجل تحسين موقفهم العسكري، وهذا ما حصل فعلا خلال أربعة أسابيع أخرى، خلال الهدنة، استغلها الصهيوني في تحضير نفسه للمرحلة القادمة من الحرب، بينما لم يفعل العرب شيئا جديا يذكر من أجل تحقيق النصر، ما عدا بعض الأشياء البسيطة، مقارنة بحجم التغييرات الكبيرة التي عمل عليها الكيان الصهيوني بدأب وسرعة، والخطط العسكرية المتقنة، التي في مجملها تأخذ بعين الاعتبار غفلة العرب، وضعف تخطيطهم وقلة حيلتهم العسكرية. (انظر /ي الحلقة ٢٠ بعنوان الهدنة الأولى ١٩٤٨).

أبرزت نتائج المعارك التي تلت الهدنة الأولى، القوة العسكرية الصهيونية، خططا وممارسة على أرض الواقع، فخلال عشرة أيّام، سقطت مدينة الناصرة وأجزاء من الجليل الغربي والجليل الأدنى برمته، وسقطت مدينتا اللد والرملة وعدد كبير من القرى في منطقة القدس، وعزز الصهاينة موقفهم العسكري، أمام الجيش المصري في الجنوب، والجيش السوري في الشمال، وأصبح العرب في موقف عسكري لا يحسدون عليه، خاصة بسبب قلة الذخيرة الحية لأن الحصار الأميركي البريطاني على تصدير الأسلحة للأطراف المتحاربة في فلسطين، أُحسن تطبيقه على العرب، وعُمل عكسه لصالح الكيان الصهيوني.

كان العرب يتوقون للهدنة، والتي أعلنتها الأمم المتحدة في ١٥ تموز/ يوليو ١٩٤٨، أكثر من اليهود، وإن كانوا يظهرون عكس ذلك، ويطلقون التصريحات النارية، ويتحدثون عن الانتصارات الوهمية. كان العرب يريدونها هدنة طويلة الأمد، عساها تتحول إلى حل نهائي، يكفيهم شر هزيمة كبيرة أخرى، بعكس الصهاينة الذين أرادوا للمعارك أن تستمر، ولو في بعض المناطق، من أجل الاستمرار في تحقيق الإنجازات العسكرية. وإن وافق الصهاينة على هذه الهدنة، إلا أنهم خططوا لاستغلالها من أجل تعزيز موقفهم العسكري للمرحلة القادمة.

إعلان الهدنة الثانية

تجدد القتال بين العرب والصهاينة في ٨-٩ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بعد هدنة استمرت لأربعة أسابيع، رفض الطرفان تمديدها، وذلك لأن العرب رأوا في مقترحات الوسيط الدولي "الكونت برنادوت" أنها لا تنصفهم، أما اليهود فقد أرادوا أن يحققوا مكاسب عسكرية على الجيوش العربية بعد أن استعدوا جيدا خلال الهدنة الأولى. (انظر /ي الحلقة ٢٠ بعنوان: الهدنة الأولى ١٩٤٨). رغم تجدد القتال إلا أن الكونت برنادوت توجه إلى مجلس الأمن، مطالبا بانعقاده من أجل أن يجبر الطرفين على تمديد الهدنة، حتى يتمكن من تقديم اقتراح مقبول على العرب واليهود، في محاولة لإيقاف القتال تماما، وإعلان وقف لإطلاق النار لمدة غير محدودة. وكان مجلس الأمن قد اجتمع قبل تجدد القتال، وخرج بقرار في ٧ تموز/ يوليو ١٩٤٨ (القرار رقم ٥٣)، يطالب فيه بتمديد الهدنة، ولكن العرب رفضوا ذلك. وكانت قد صوتت ٨ دول لصالح القرار، وامتنعت الصين والأرجنتين عن التصويت، بينما كانت سورية الدولة الوحيدة التي رفضته.

بعد مثول الكونت برنادوت أمام مجلس الأمن في ١٣ تموز/ يوليو ١٩٤٨، تقدمت الولايات المتحدة الأميركية باقتراح قرار يقضي بوقف إطلاق النار لأمد غير محدود، على أن يتم إصدار القرار خلال ثلاثة أيّام فقط، ومن ثم على القرار أن ينفذ خلال ٢٤ ساعة، وعلى مجلس الأمن أن ينفذ عقوبات بحق الطرف الذي يرفض تنفيذ القرار المقترح. أما الوسيط الدولي فقد اقترح إجراء استفتاء عام في أرض فلسطين التاريخية، يشمل العرب واليهود، وذلك حول مسألة الحل المقبول على سكان البلاد، وتعرض للانتقاد الشديد من قبل ممثل الاتحاد السوڤييتي تحديدا، الذي قال إن هذا يمثل خرقا لقرار التقسيم. ولما سأل ممثل الاتحاد السوڤيتي الكونت برنادوت عن المتسبب بخرق الهدنة، أجاب الأخير أن الطرفين خرقاها. وطالب برنادوت بأن يصدر مجلس الأمن قرارا على شكل "أمر" لكل الأطراف المتحاربة، وأن تكون هناك عقوبات دبلوماسية واقتصادية ضد من يخرق القرار حسب المادتين ٤١ و ٤٢ من ميثاق الأمم المتحدة.

بعد يومين من المداولات، وفِي يوم ١٥ تموز/ يوليو ١٩٤٨، أصدر مجلس الأمن قراره رقم ٥٤، وكانت أهم بنوده التالية:

١. وقف إطلاق النار خلال ثلاثة أيّام على الأكثر؛
٢. كل خرق لوقف إطلاق النار يعتبر خرقا للمادة ٣٩ من ميثاق الأمم المتحدة، وسينظر المجلس فورا فيه، ويتخذ إجراءات ضد الخارق حسب الفصل السابع من الميثاق؛
٣. يدعو المجلس جميع الحكومات إلى التعاون مع الوسيط الدولي؛
٤. وقف إطلاق النار في القدس، حالا خلال ٢٤ ساعة من إصدار القرار؛
٥. يواصل الوسيط جهوده من أجل نزع السلاح في القدس؛
٦. تبقى الهدنة نافذة المفعول حتى يتم التوصل إلى تعديل سلمي لمستقبل الوضع في فلسطين.

وبالفعل دخلت الهدنة موعدها في تمام الساعة الخامسة بعد الظهر من يوم ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بعد أن قبلتها اللجنة السداسية العربية المجتمعة في بيروت، إذ صوت الأردن ومصر على قبول قرار مجلس الأمن بشأن الهدنة، فتبعتهما العراق، ورفض ممثلا سورية ولبنان القرار، ولكنهما كانا أقلية، ولذلك قبلت الهدنة عربيا. أما الجماهير العربية فرفضت الموافقة على الهدنة وخرجت المظاهرات في دمشق وبغداد وبيروت والقاهرة وعمان، مطالبة بسقوط الهدنة وسقوط مجلس الأمن الذي أعلنها، واللجنة السداسية العربية التي قبلتها.

كانت الهدنة مليئة بالأحداث الجسام، وكما في حالة الهدنة الأولى كانت الثانية، إذ استفاد الصهيوني منها أيما استفادة، ولَم يفلح العربي في استغلالها لصالحه أبدا.

المثلث الصغير وخرق الهدنة.. "حملة شرطي"

كانت القرى الثلاث: إجزم وعين غزال وجبع، تقع في منطقة الكرمل، من الناحية الشرقية لطريق الشاطئ الذي يوصل مدينة حيفا بيافا، وكانت معا تشكل مثلثًا متساوي الأضلاع تقريبا، طول كل ضلع منه حوالي ثلاثة كيلومترات، بحيث تشكل جبع وعين غزال القريبتان من البحر المتوسط قاعدة المثلث، بينما كانت إجزم البعيدة خمسة كيلومترات عن البحر شرقا تشكل رأس المثلث. دعي هذا المثلث باسم مثلث الكرمل، كما ودعاه الصهاينة "مثلث الرعب" لشدة مقاتلي سكانه، وصمودهم بعد سقوط حيفا لمدة ثلاثة أشهر، ودعي كذلك "المثلث الصغير"، تمييزا له عن المثلث الفلسطيني الكبير والذي تشكله نابلس وجنين وطولكرم.

كانت إجزم أكبر القرى الثلاث، وكان عدد سكانها حوالي ٤٠٠٠ نسمة، ومساحة أراضيها ٤٥ ألف دونم. وعدد سكان عين غزال كان ٣٢٠٠ نسمة، ومساحة أراضيها ٢٣ ألف دونم. وأصغر القرى الثلاث جبع، وعدد سكانها ١٣٠٠ نسمة، ومساحة أراضيها ٧٠٠٠ دونم.

منذ شهر شباط/ فبراير ١٩٤٨، وهذه القرى تواجه هجمات صهيونية، بسبب أنها كانت تقع ضمن القسم اليهودي حسب قرار التقسيم من جهة، وتستطيع السيطرة على الطريق الحيوي الذي يربط حيفا بتل أبيب (يافا)، من جهة أخرى. لكنها بقيت صامدة في وجه الهجمات، حتى بعد أن سقطت حيفا في ٢٢ نيسان/ إبريل، ثم سقطت قرية أم الزينات الواقعة في وادي الملك في ١٥ أيار/ مايو، ثم قرية الطنطورة الواقعة على شاطئ البحر قريبا من القرى الثلاث في ٢٣ أيار/ مايو، ثم قرية الطيرة جنوب حيفا في ١٦ تموز/ يوليو، ثم دخلت الهدنة الثانية دون أن يسقط المثلث الصغير رغم هجومين نفذتهما القوات الصهيونية، ضد القرى الثلاث في ١٨ حزيران/ يونيو و ٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بل إن هذه القرى سيطرت على طريق الشاطئ ونصبت فيه الحواجز وأغلقته أمام السيارات الصهيونية، وحتى أنها حفرت فيه حفرا على عرض الطريق لجعله غير صالح للاستعمال بتاتا.

كان هذا سببا كافيا بل حجةً استندت إليها الدولة الصهيونية من أجل احتلال القرى الثلاث، حتى وإن دخلت الهدنة الثانية حيز التنفيذ، ووجدت السبيل إلى الاحتيال على قرار مجلس الأمن بشأنها، أي الهدنة، فادعت أن هذه القرى جزء من الدولة اليهودية، ولكنها متمردة على القيادة المركزية، ولذلك وجب أن تخضعها بواسطة حملة جهاز الشرطة، فهذا أمر داخلي وليس من شأن للأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو الوسيط الدولي فيه، ولذلك جهزت قيادة الجيش الصهيوني حملة عسكرية، وأسمتها حملة "شرطيّ"، تمويها وتحايلا على قرارات الأمم المتحدة.

خطة حملة "شرطي"

أصبح بن غوريون مهووسا باحتلال القرى الثلاث الصامدة، فبلغت الحكومة الإسرائيلية مُراقِبي الأمم المتحدة، بأن الدولة تريد المحافظة على النظام في هذه القرى، وأن الهجوم عليها هو عبارة عن نشاطات بوليسية فقط. حددت ساعة الصفر بتاريخ ٢٤ تموز/ يوليو ١٩٤٨، في الساعة ٢٢:٤٠. كان هدف الحملة المبيت هو احتلال قرى الكرمل الثلاث، والقضاء على المقاومة فيها.

كان التقدير الصهيوني أن هناك ٨٠٠ مقاتل في هذه القرى، وأن هناك وحدات عراقية نظامية فيها، تستعمل ثلاث مصفحات وراجمات قنابل عيار ٢ و ٣ إنش. ثبت فيما بعد أن هذه التقديرات خاطئة حيث لم تكن هناك مدرعات ولا وحدات عسكرية عراقية، بل إن أهل القرى حاربوا بأنفسهم، وإن كانوا على علاقة بالجيش العراقي المتواجد في جنين، والذي لم يحرك ساكنا من أجل إنقاذ هذه القرى من الاحتلال، التزاما بتنفيذ قرار مجلس الأمن.

كانت الخطة تقضي بأن تقوم كتيبة من لواء "چولاني"، بالخروج من المزرعة السويدية بجانب قرية المزار، متوجهة إلى المنطقة الشمالية لجبع، ثم تسيطر على التلة المطلة على قرية جبع من الشمال الشرقي، وبعدها تقضي على المقاومة المتواجدة على التلة، ومن ثم تدخل القرية. كذلك تنطلق سرية من الكتيبة الثالثة من لواء "اسكندروني"، في نفس الوقت، من "شفيا" وتتجه شمالا، وتحتل التلة المطلة على قرية عين غزال. وتخرج سرية أخرى من لواء "كرملي" من نفس المكان ونفس الزمان، وتحتل تلتين شرقي عين غزال، وبذلك تغلق الطريق على قرية إجزم. أما راجمات القذائف فتتمركز جنوب شرق عين غزال، وتقصف القرى الثلاث طوال الوقت، بينما تتمركز المدفعية عند صرفند، بجانب محطة القطار، البعيدة ثلاثة كيلومترات غربي شارع حيفا، وتقصف قرى المثلث الصغير بكثافة كل الوقت. ثماني مدرعات، تشترك في المعركة، وكان عليها أن تتحرك على شارع الشاطئ من الجنوب إلى الشمال من أجل فتح الطريق، وإلهاء المقاتلين العرب بهذه المدرعات، من أجل فتح الطريق أمام القوى الراجلة. واستعملت جرافة واحدة لجرف العوائق والحواجز. أما الطيران، خاصة قاذفات ١٧-B، فكان عليه أن يقصف القرى الثلاث، ويلقي عليها القنابل من أجل تخويف الناس وإرهابهم وقتل أكبر عدد منهم. ومما يجدر ذكره هنا، أن الطيران الإسرائيلي قام بقصف القرى الثلاث لمدة أسبوعين كاملين قبل الحملة، ففي ١٢ تموز/ يوليو ١٩٤٨، تم إلقاء ٤٢٠ كغم من القنابل على إجزم، وكمية كبيرة من القنابل الاشتعالية. وفِي ١٧ تموز/ يوليو قصفت إجزم مرة أخرى، وفِي ١٩ تموز/ يوليو قصفت القرية مرتين. في ٢٠ تموز / يوليو تم إلقاء أربعة أطنان من المتفجرات على القرى الثلاث، بمشاركة ثلاث طائرات من نوع ١٧-B، وطائرة من نوع "ديكودا".

تنفيذ الحملة واحتلال إجزم وجبع وعين غزال

انطلقت السرايا المهاجمة في موعدها الساعة ٢٢:٤٠، حسب الخطة. قوة "چولاني" التي كانت ستهاجم قرية جبع، واجهت نيرانا كثيفة عندما كانت على بعد كيلومترين منها. حاولت القوة المجربة والمدربة والمجهزة بأحسن الأسلحة صد الهجوم، مرة ومرتين وثلاث مرات، إلا أن المقاومين الأشداء لم ينسحبوا، فوقعت خسائر في القوة المهاجمة، مما اضطر أغلبها إلى الانسحاب، حاملين جرحاهم بعجل، وبقي قسم واحد من القوة يتبادل النيران مع مناضلي قرية جبع حتى طلع الصباح، ومن ثم انسحبت القوة بعد فشلها باحتلال التلة المشرفة على القرية.

بعد منتصف نفس ليلة الهجوم، قام الطيران بإلقاء كميات كبيرة من المتفجرات على القرى الثلاث، وكذلك تم قصف المدافعين بواسطة المدفعية بشكل مكثف، لتسهيل المهمة على القوات الراجلة. وانضمت الكتيبة الخامسة من لواء "اسكندروني" إلى المعركة.

في نفس وقت هجوم قوة "چولاني" آنفة الذكر، تقدمت السرية الأولى من الكتيبة الثالثة "اسكندروني" باتجاه عين غزال، وعلى بعد كيلومترين من القرية، واجهت القوة نيرانا شديدة من المدافعين، ولكنها استطاعت التقدم واحتلال تلة مشرفة على القرية. عند بزوغ الفجر، اكتشفت القوة أنها تقف على التلة الخطأ وليس التي أرادت احتلالها. منذ الساعة السابعة صباحا، تعرضت سرية "اسكندروني" لهجمات عربية قوية، مما جعلها تتجمد في مكانها بانتظار الدعم من قوات أخرى. في الساعة العاشرة انضمت إليها القوة من الكتيبة الخامسة التي قدمت بعد منتصف الليل، من أجل تغيير ميزان القوى في هذه المنطقة.

أما السرية من لواء "كرملي" فقد واجهت دفاعا شرسا من المناضلين، فلم تستطع التقدم حتى الصباح، عندما اكتشفت أن موقعها لا يؤهلها للانتصار على المدافعين، ولم تستطع التقدم وبقيت في مكانها مستعينة بالقصف المدفعي وإلقاء القنابل من الجو، في انتظار هجوم آخر.

أما المدرعات فقد سارت في الطريق بين قرية الفريديس وعين غزال، وعند وصولهن إلى خربة سوامير بجانب عين غزال، تعرضن لإطلاق نار شديد مما تسبب في تخريب عجلات بعضهن، ولَم يستطعن التقدم أكثر.

هذا الأداء الدفاعي الجيد للمقاومين العرب، أدى إلى تكثيف قصف راجمات القنابل وبدقة للقرى الثلاث، خاصة عين غزال وجبع والمدافعين عنهما، وفِي نفس الوقت أضيفت السرية الثالثة من الكتيبة الثالثة "اسكندروني" إلى المعركة، وطلب منها أن تحتل تلال جبع بعد أن تلتف عن قرية عين غزال، من أجل إرباك المدافعين.

في منتصف ليل ٢٥-٢٦ تموز/ يوليو ١٩٤٨، هاجمت السرية الثالثة التلة المواجهة لعين غزال، وكذلك السرية الأولى التي احتلت التلال المواجهة لعين غزال، من الناحية الأخرى، عند الساعة الواحدة صباحا. أما قوة "چولاني" فقامت باحتلال التلة المطلة على جبع. كل هذا حدث بدون مقاومة تقريبا، كما في الليلة السابقة، بسبب أن المدافعين انسحبوا تحت وقع القصف الشديد، الذي ليس لهم به طائل.

عند طلوع الفجر دخلت السرية الأولى من "اسكندروني" إلى عين غزال، ووجدت القرية فارغة من سكانها تقريبا، حيث أنهم خرجوا إلى الحقول القريبة احتماءً من القصف. في الساعة ٠٧:٣٠ من يوم ٢٦ تموز/ يوليو ١٩٤٨، دخلت السرية الثالثة "اسكندروني" إلى قرية جبع، التي غادرها سكانها. بعدها بساعتين ابتدأ قصف مكثف ضد قرية إجزم، حتى ساعات الظهر، حيث جاء مختار القرية ووقع على وثيقة استسلام.

بعد الاحتلال، دمرت القوات الصهيونية جميع بيوت جبع وعين غزال لمنع سكانها من العودة إليها، ثم أجبرت كل سكان القرى الثلاث إلى الهجرة إلى وادي عارة، ونقلتهم بواسطة الباصات إلى هناك بعد رحلة شاقة ومذلة.

تنظيم القوات الصهيونية خلال الهدنة

قامت القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية، باستغلال الهدنة من أجل تحضير الجيش للمعارك القادمة، التي سيكون المبادر إليها، حيث أن الضعف العربي أصبح ظاهرًا كعين الشمس، أما القوة العسكرية الصهيونية التي انتصرت في المعارك الأخيرة، فقد صارت قوة رادعة، عليها أن تنظم نفسها من أجل الاستمرار في هذه الانتصارات.

كان تقدير المخابرات الأميركية للقوات المتحاربة في فلسطين، حال دخول الهدنة، يعطي القوات الصهيونية أفضلية كبيرة من حيث العدد، حيث وصل تعدادها إلى ٩٧،٨٠٠ جندي، بينما كانت الجيوش العربية مجتمعة، داخل فلسطين وبمحاذاتها، لا تتجاوز ٤٧،٠٠٠ جندي، أي أقل من نصف القوات الصهيونية.

المصادر الصهيونية ترجح أن العدد الحقيقي كان ٦٠،٠٠٠ جندي، في بداية الهدنة، وازداد ب ٣٥،٠٠٠ حتى نهايتها. هذا العدد الهائل لجيش تضاعفت أعداده خلال شهر ونيف، كان عليه أن يجدد البناء ليستطيع أن يحارب الجيوش العربية مجتمعة، عن طريق تجميع أربعة ألوية مقابل الجيش المصري، بما أصبح يسمى الجبهة الجنوبية بقيادة يچآل ألون، وأربعة ألوية أخرى في الجبهة الشمالية لمواجهة الجيش السوري بقيادة موشي كرمل، وجبهة الوسط لمواجهة الجيش العراقي بقيادة دان إيڤن، وجبهة القدس بقيادة تسڤي أيلون. أما ألوية الجيش فأصبحت رسميا ١٢ لواءً وهي: "چولاني"، و"كرميلي"، و"الكسندروني"، و"كرياتي"، و"چڤعاتي"، و"عتسيوني"، و"اللواء السابع" (شيڤاع)، و"اللواء الثامن" المدرع (شموني)، و"عوديد"، و"هاريئيل"، و"يفتاح"، و"النقب" (هَنيچڤ).

كذلك تم تزويد كل الألوية المحاربة بكل ما ينقصها من الجنود، بعد ترتيب الجبهات والألوية وتوحيد كتائب معينة. من أجل استكمال التنظيم، تم تبني نظام درجات القيادة في الجيش، وتحديد العلاقة مع القوات الجوية، التي تضاعفت خلال الهدنة الثانية، والقوات البحرية، ومخابرات "الهاغاناه"، والقوات اللوچستية وغيرها، بحيث تحول الجيش حتى شهر تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٧، إلى جيش بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، خاصة بسبب استمرار قدوم الأسلحة إليه من تشيكوسلوفاكيا" وغيرها، وبالأخص وصول قادمين جدد، قسم منهم لديه الخبرة العسكرية، ولذلك انضم هؤلاء إلى وحدات الجيش مباشرة، والقسم الثاني كان في عمر التجنيد، ولذلك انضم إلى معسكرات التدريب من أجل زجه في المعركة بعد انتهاء الهدنة مباشرة.

التزود الصهيوني بالأسلحة

استمر وصول الأسلحة إلى الكيان الصهيوني الناشئ، فعلى سبيل المثال، وصلت دبابات "الهوتشكس" الفرنسية الصنع، و ١٠،٠٠٠ بندقية، و ٣،٠٠٠ مدفع رشاش من "تشيكوسلوفاكيا" عن طريق البحر. وكذلك استمر توصيل الأسلحة عن طريق الجو، في إطار عملية القطار الجوي "بلاك". فوصلت ١٥ طائرة من نوع "ميسرشميدث"، وطائرات "بيزات"، وأخيرا طائرات متطورة من نوع "سبيتفاير" من خلال ما يسمى بعملية "وولووتا"، وفيها أيضا وصلت طائرات من نوع "هدسون". بذلك أصبح الجيش الصهيوني مجهزا بطائرات مقاتلة من أربعة أنواع: "ميسر شميدت" و "سبيتفاير" و "موستينغ" و "هدسون" وهي كافية للحرب ضد الجيوش العربية.

يذكر بن غوريون في مذكراته صفقات الأسلحة: من سويسرا ٥٠ مدفعا ٧٥ ملم، من إيطاليا ٢٥ مدفعا مضادا للطائرات عيار ٢٠ ملم، ١٢ مدفعا بحريا عيار ٣و٤ بوصات، ٤ مدافع بطاريات سواحل. ذخيرة من فرنسا لمدافع ٦٥ ملم، و ١٢ مدفع هاون ١٢٠ ملم، و ٢٠٠ مدفع بيزيه من تشيكوسلوفاكيا، بالإضافة إلى ما تقدم ذكره، و ٤٠٠ طن ت. ن .ت كل هذا في بداية آب/ أغسطس. وفِي ١٧ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، يشير بن غوريون إلى أن مشتريات الطائرات وصلت إلى ١٤٧ قطعة، وصلت منها إلى إسرائيل ١٢١ طائرة.

كل هذا تم تحت رقابة الدول العظمى التي حظرت استيراد الأسلحة، حسب قرار مجلس الأمن رقم ٥٤، وهذه الدول لم تمنع القيادة الصهيونية من جمع الأموال في أوروبا وأميركا خصوصا، من أجل تمويل هذه المشتريات. غولدا مئير، مثلا، عادت إلى البلاد في ٢٩ تموز/ يوليو ١٩٤٨، بعد جمع أكثر من ٥٠ مليون دولارا وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام، حيث أن تكلفة الدبابة الواحدة وزن ١٠ طن كان يصل إلى ٧٥ ألفا فقط، كما أشار بن غوريون في مذكراته.

بالإضافة إلى التجهيزات والمشتريات من أوروبا وغيرها، أصبحت الصناعات الحربية الصهيونية تقوم بتصنيع الذخيرة والبنادق والرشاشات الخفيفة من نوع "ستن". وهذا يذكره بن غوريون في مذكراته أيضا، ففي ١٩ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، يعدد المصنوعات العسكرية الصهيونية من تاريخ ١ حزيران/ يونيو ١٩٤٧ وحتى ٣١ آب/ أغسطس ١٩٤٨، وكانت على النحو التالي: أكثر من ١٥ ألف رشاش خفيف من نوع "ستن"، و ١٠٠ ألف مخزن أسلحة، و ١٥ ألف قنبلة من نوع "ميلس"، و ٢٠٠ راجمة قنابل عيار ٣ إنش، بالإضافة إلى ٨٠ ألف قذيفة، و ٣ ملايين رصاصة ٩ ملم، ومئات الآلاف من المواد المتفجرة كالألغام، والقذائف بأنواعها المختلفة.

الجليل الملتهب في زمن الهدنة

دخلت الهدنة وقد أصبح أغلب الجليل في أيدي القوات الصهيونية، ولَم يبق للعرب منه إلا المنطقة الصغيرة التي يسيطر عليها الجيش السوري في الجليل الأعلى، بينما سيطر جيش الإنقاذ على ما سمته القيادة العسكرية الصهيونية "جيب الجليل"، وهو يشمل قرى البطوف، والشاغور، وجزءا من الجليل الأعلى حتى حدود لبنان. وتنظم جيش الإنقاذ في هذه المناطق بثلاثة ألوية وسميت بلواء اليرموك الأول؛ والثاني؛ والثالث. وكان عدد جنود هذه الألوية مجتمعة يعادل ٣٠٠٠ متطوعا، بحيث تمركز اللواء الأول بقيادة عامر حسك، في المغار، وكفر مندا، وكوكب، وعيلبون، وكفر عنان، ومجد الكروم، وشعب، أما القيادة لهذا اللواء فكان مقرها في فراضية على طريق صفد - عكا. اللواء الثاني بقيادة غسان جديد، تمركز في الجش، وسعسع، والمالكية، وميرون، والصفصاف. اللواء الثالث بقيادة مهدي صالح تمركز في ترشيحا، وخربيطا، وسحماتا، ودير القاسي، ويانوح، ومعليا.

خلال فترة الهدنة كانت وحدات الجيش الصهيوني في الجليل، تكثر من الهجمات على القرى في المناطق التي يسيطر عليها جيش الإنقاذ. وكان الهدف من هذه الهجمات هو تدمير البيوت الباقية في القرى المهجرة، وطرد من تبقى فيها من السكان القلائل، حتى لا تسول للآخرين أنفسهم العودة، كما حدث في هجوم وحدات لواء "كرملي"، على القرى: قبعة، وهونين، وعموقة، وعين التينة، وتل نجاة قرب المطلة، ووادي فجار عند الحولة. سبب آخر لهذه الهجمات هو أن القوات الصهيونية كانت تختبر قوة جيش الإنقاذ، وأساليبه في القتال في هذه المناطق.

كانت الهجمات الصهيونية ليلية بأغلبها، ولذلك فقد كانت مفاجئة، ولَم تتكبد فيها القوات المعتدية الكثير من الخسائر. أما ردود جيش الإنقاذ، على هذه الهجمات، فكانت تأتي نهارا، فتسبب له الخسائر الفادحة، مقارنة بالطرف الآخر.

إحدى القرى التي كانت متأججة طوال فترة الهدنة، هي قرية شعب التي احتلت في ٢١ تموز/ يوليو ١٩٤٨، فقام محاربو القرية بدعم من جيش الإنقاذ باسترداد السيطرة عليها. ولكن اليهود أعادوا الهجوم عليها في ٥ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، وفِي اليوم التالي، ولكن مقاتلي شعب صدوهم على أعقابهم في هاتين المرتين أيضا. خلال فترة الهدنة كلها، بقي الصراع على القرية مستمرا إذ احتلت عدة مرات وتم تحريرها في كل مرة، على يد سكانها والقرى المجاورة بالتعاون مع جيش الإنقاذ، الذي لم يتدخل بصورة مباشرة بادعاء أن هذه القرية خارج منطقة نفوذه.

معركة أخرى يمكن الحديث عنها هنا، وفيها حقق جيش الإنقاذ انتصارا لا بأس به، هي معركة المنارة، أو بالأحرى السيطرة على تلة الشيخ عبّاد، وذلك في ٢٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨. كانت هذه التلة تشرف على مستعمرة "منارة"، وتقع تحت السيطرة العسكرية الصهيونية، ومن خلالها كان اليهود يهاجمون السيارات التي تعبر من المنطقة شمالا، كما وصاروا ينشئون فيها معسكرا، أثار المخاوف لدى القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ، والذي قرر أن يزيل هذا المعسكر عن الوجود.

في صباح ٢٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، قام اليهود بهجوم كبير بالمدفعية عيار ٨١ ملم، على قوات جيش الإنقاذ المتواجدة في قرية الحولة ضمن الأراضي اللبنانية، وكانت معركة عنيفة استطاع فيها جيش الإنقاذ دحر القوة الصهيونية إلى "منارة"، ومن ثم السيطرة على مرتفع الشيخ عباد الإستراتيجي.

حاولت قوة مدرعة صهيونية استرداد المرتفع عبثا، حيث اشتبكت مع قوات جيش الإنقاذ على طريق النبي يوشع- المنارة، وتكبدت خسائر فادحة، اضطرتها إلى الانسحاب، تاركة سيارات الجيب والمدرعات والأسلحة والذخائر في أرض المعركة حيث غنمها جيش الإنقاذ. بعد هذه المعركة أصبحت مستعمرة "منارة" محاصرة بشكل كامل، ولَم يكن باستطاعة الصهاينة تقديم أي عون لها. واستمرت السيطرة العربية على هذه المنطقة حتى المعركة الكبيرة على الجليل فيما بعد.

حملة لتزويد مستعمرات النقب - حملة "أڤاك" (غبار)

دخلت الهدنة الثانية بدون أن تحقق القوات الصهيونية نصرا يمكن ذكره على القوات المصرية، ولَم تستطع أن تحقق هدفها بفتح الطريق إلى مستعمرات النقب المحاصرة من قبل الجيش المصري، وعددها ٢٦ مستعمرة، فبالرغم من احتلالها، أي القوات الصهيونية، لمنطقة جنوب شارع المجدل-الفالوجة، خلال المعارك التي تلت الهدنة الأولى، إلا أن الجيش المصري استطاع أن يسيطر على كل المرتفعات جنوب كرتيا، وأغلق الطريق مجددا في وجه القوات الصهيونية وسكان مستعمرات النقب.

قررت القيادة الصهيونية أن تفتح الطريق بالقوة، ولذلك نفذت حملة عسكرية أسمتها حملة "چ.ي.س ١" وهي مختصر لأسماء الألوية الثلاثة التي اشتركت في الحملة: "چفعاتي" و"يفتاح" و"سيرجي" (كنية للواء "نيچڤ" أي النقب). كانت خطة الحملة تقضي بتسيير قافلة إمدادات إلى المستعمرات المحاصرة في النقب، وإن رفض المصريون أن تمر، ينفذ هجوم كبير على القوات المصرية، وبشكل تظاهري من أجل أن يفهم المصريون أن باستطاعة الصهاينة فتح الطريق بالقوة رغم الهدنة. كان على لواء "يفتاح" أن يحتل الفالوجة، وعلى لواء "چڤعاتي" ان يحتل شرطة عراق سويدان، وأن يقوم لواء "هنيچف" باحتلال المرتفعات الواقعة على شارع الفالوجة - بئر السبع في منطقة بير أبو جابر، أما اللواء الثامن المدرع فكان عليه أن يدخل الفالوجة ردا على أي هجوم مضاد.

نفذ الهجوم في ليل ٢٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، ولكنه فشل بسبب قوة المقاومة المصرية، وتكبدت القوات المهاجمة خسائر في الأرواح والمعدات. هذا الفشل لم يمنع الصهاينة من محاولة إدخال قافلة إمدادات بما سمي حملة "چ.ي.س٢"، والتي نفذت بنجاح في ليلة ٣١ تموز/ يوليو - ١ آب/ أغسطس ١٩٤٨، واستطاعت إيصال الإمدادات إلى النقب، إلا أنها أظهرت الصعوبات الجمة والمخاطرات الكبيرة من أجل تنفيذها، ولذلك تقرر أن يزود النقب وتنقل إليه القوات عن طريق الجو، بعد أن تطور سلاح الجو الصهيوني، وأصبح لديه كمية لا بأس بها من الطائرات.

في ليلة ٢٢-٢٣ آب/ أغسطس ١٩٤٨، انطلقت الطائرة الصهيونية الأولى إلى المطار الجديد الذي أقيم خلال ثلاثة أيّام في منطقة مستوية بين مستعمرتي "روحاما" و"شوڤال" (بالقرب من قرية رهط)، وكان طوله ٣٦٨٠ قدما، وعرضه ١١٥ قدما. كانت الطائرة الأولى محملة بعتاد من أجل صيانة المطار الجديد. على طول مسار هبوط الطائرات وضعت علب مشتعلة مليئة بالنفط من أجل رؤية الطيارين (استبدلت فيما بعد بأضواء كهربائية). أطلق على الحملة اسم "أڤاك" أي غبار باللغة العربية لكثرة الغبار حال هبوط الطائرات وذلك لان المطار لم يكن معبدا.

في الليلة الأولى تم نقل ٢٩ طنا من العتاد، وفِي الليلة الثانية ٧٥ طنا، حيث أن هذه الكمية فاقت كل التوقعات. كانت الطائرات تطير على ارتفاع عالٍ، لا يمكن الدفاعات الجوية المصرية الوصول إليها، حيث وصل ارتفاعها عندما تطير جنوبا ٥ آلاف قدم، وعند السفر شمالا ٦ آلاف قدم.

نقل في هذه الحملة، حتى انتهائها، ٢٢٢٥ طنا من الإمدادات إلى النقب، و ٢٧٠ من النقب شمالا، ونقل ١٩١١ جندي من لواء يفتاح إلى النقب بواسطتها، بينما نقل أكثر من ٥٠٠٠ شخص شمالا. عندما تأكد الجيش الصهيوني من أن الحملة تسير في طريق النجاح، أقام مطارا آخر في الأسبوع الثاني من شهر تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، بجانب مستعمرة "أوريم"، والذي يقع إلى الجنوب من المطار الأول، من أجل التحضير للهجوم المخطط على الجيش المصري.

نجاح هذه الحملة كان مصيريا بالنسبة إلى المعارك التي نشبت فيما بعد مع الجيش المصري، الذي لم يحرك ساكنا طوال الحملة، رغم أن الطائرات كانت تمر من فوق الفالوجة التي كان مسيطرا عليها.

خروقات صهيونية في مناطق الجيش المصري

طوال فترة الهدنة قام المصريون، بإبلاغ مُراقِبي الهدنة من الأمم المتحدة، بأن الصهاينة قاموا بأكثر من ٣٠٠ مخالفة للهدنة، أغلبها كان اختراقا للمجال الجوي، ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن لحملة "أڤاك" حصة الأسد في هذه الاختراقات. ومن بين هذه المخالفات كان أكثر من ٢٢ مخالفة كبيرة، كالاعتداء المباشر عَلى قرى عربية، واحتلال مواقع تكتيكية هامة مقابلة لمواقع الجيش المصري، وتهديدها تهديدا مباشرا.

ومن أجل فهم كمية المخالفات، أسوق إليكم الأمثلة التالية من بداية الهدنة: الهجوم على عسلوج في ١٨ تموز/ يوليو ١٩٤٨، وزرع الغام في سكة الحديد بين رفح والعريش يوم ١٩ تموز/ يوليو، وفتح النار على مواقع غربي الفالوجة يوم ٢٠ تموز / يوليو، واحتلال العسلوج يوم ٢١ تموز/ يوليو، والقيراطية يوم ٢٢ تموز/ يوليو، ويوم ٢٥ تموز/ يوليو هاجم الصهاينة البرير، وبعدها بيومين نفذوا هجوما كبيرا على بيت عفة والفالوجة وعراق المنشية وكراتيا (حملة "چ.ي.س")، وفِي ٢٨ تموز/ يوليو قاموا بقصف الفالوجة، وكذلك في ٣٠ تموز/ يوليو بالإضافة إلى بيت عفة وعراق سويدان، وهاجموا دير إبان في ليلة ١-٢ آب/ أغسطس، وعاودوا الهجوم في ٣ آب/ أغسطس.

وهكذا استمرت العمليات الصهيونية وكأن وقف إطلاق النار لم يعلن عنه بعد، ورغم صمود القوات المصرية أمام هذه الهجمات إلا أنها كانت تكتفي بتبليغ مُراقِبي الهدنة بالأمر، ولَم تجرِ أية محاولة من أجل أخذ زمام الأمور بأيديها، وكان هذا سببا كافيا للصهاينة بتكثيف هجماتهم.

منذ بداية أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، تزايدت الغازات الصهيونية على الجبهة المصرية، من ارتفاعات عالية لا تصلها الدفاعات الجوية المصرية. وكان هدف هذه الغارات هو فحص نظام الدفاع الجوي المصري، وتحديد مواقع الجنود المصريين، وذلك تحضيرا لهجوم كبير كانت القوات الصهيونية تعتزم تنفيذه من أجل إخراج الجيش العربي من فلسطين. في بداية تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، أخذت الهجمات الصهيونية منحى جديدا، حتى من الممكن اعتبارها جزءا من الحملة العسكرية الكبيرة ضد الجيش المصري في منتصف نفس الشهر.

معارك خربة المحجز في النقب

ازدادت وتيرة التحضيرات الصهيونية لهجوم كبير على القوات المصرية، خاصة منذ شهر أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، حيث نقلت قوات من لواء "يفتاح" عن طريق الجو، كما تقدم"، وأخذت مسؤولية الحرب في النقب، نيابة عن لواء "هنيچڤ"، الذي انتقل شمالا من أجل تحضيره للمعارك القادمة. كل هذه التحركات لم تخفَ على قيادة الجيش المصري، كما يشير الأمر التي أصدره المواوي قائد القوات المصرية في فلسطين، وذلك في الأول من أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، ويحتوي الأمر على ضرورة إعادة انتشار القوات المصرية في جنوب فلسطين، من أجل ان تصمد أمام أي هجوم صهيوني قادم.

إعادة الانتشار المصرية ضمن خطة دفاعية بحتة، فسرت على يد القوات الصهيونية بأنها تحركات من أجل هجوم مصري على المطار المسمى "غبار ١" من اجل إيقاف الخرق الصهيوني للهدنة. لذلك قرر الجيش الصهيوني أن يأخذ زمام المبادرة، وابتدأ باحتلال مواقع عسكرية إستراتيجية، فاحتل تلة القنيطرة، وتلة نجيلة، وتلة مليحة في ٧-٨ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨.

في اليوم التالي حاولت قوات مصرية مكونة من قوة راجلة من المتطوعين وست مدرعات، استرداد القرية، واستعملت مدافع هاون وقاذفات القنابل. وصل المتطوعون إلى بعد ٢٠٠ م من القوة الصهيونية على تلة القنيطرة، ولكنها لم تنجح بتحرير التلة، وكذلك فشلت محاولتان للهجوم على التلة في اليوم التالي. فشل هذه المحاولات شجع لواء "يفتاح" الصهيوني على احتلال مناطق أخرى، فقامت قوة منه باحتلال تل الحاسي إلى الغرب من تلة القنيطرة، في ١٦ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، ثم احتلت قوة أخرى قرية خربة المحجز في ٢٩ أيلول/ سبتمبر.

في اليوم التالي، هاجمت قوة من المتطوعين بقيادة الضابط المصري اليوزباشي لطفي واكد، حاكم بيت جبرين، خربة المحجز من أجل استرجاعها، ولكن المحاولة فشلت، ولذلك توجه اليوزباشي، في اليوم التالي، إلى أركان حرب الكتيبة الأولى بنادق مشاة من أجل نجدته في استرداد خربة المحجز، فاتصل هذا بأركان حرب الكتيبة السادسة بنادق مشاة، جمال عبد الناصر، وأبلغه بأمر الهجوم. في الساعة ١١:٥٠ من يوم الأول من تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، تجهزت قوة بقيادة المقدم راغب جرجس والصاغ جمال عبد الناصر، وفصيلة مشاة من السرية الثانية بقيادة ملازم أول كامل الشاهد، وفصيلة مشاة من السرية السودانية بقيادة الملازم أول عبد الله السوداني، وجماعة "فيكرز" بقيادة الملازم أول عبد المنعم صالح، وجماعة هاون ٤،٢ إنش بقيادة الملازم أول محمود حسن فهمي، وجماعة سيارات مدرعة، مكونة من مدرعتين، بقيادة ملازم أول فايز يكن، وجماعتي حمالات رشاشات "برن"، مكونة من ست سيارات، بقيادة الشاويش عبد الفتاح شرف الدين.

عندما وصلت القوة إلى موقع المعركة، كانت قوة اليوزباشي لطفي واكد مشتبكة مع القوة الصهيونية، ووضعها كان حرجا، ولولا النجدة لبدأت بالانسحاب والتراجع إلى الخلف. اشتركت القوات المصرية النظامية في المعركة واستطاعت تحرير التل عند الساعة ١٧:٤٠، واستولت على أسلحة وذخائر للقوة المنسحبة، ومنها مدفع هاون عيار ٨٨ ملم، ومدفع "بيات"، ومدفع هاون عيار ٢ انش.

في الساعة ١٨:٥٠، وصلت الأوامر للكتيبة السادسة، بتسليم خربة المحجز للمتطوعين العرب، وسحب القوة إلى عراق المنشية، وتم الأمر عند الساعة العاشرة مساء.

حالا بعد انسحاب القوة النظامية المصرية، في ليلة ١-٢ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، نفذ لواء "يفتاح" الصهيوني هجوما مضادا، معززا بمدافع عيار ٦٥ ملم، ونجح باحتلال خربة المحجز مجددا. في اليوم التالي، حاولت قوة مكونة من ١٥٠ متطوعا، معززين براجمات القذائف، والمدرعات من استرداد المحجز، ولكن المحاولة فشلت بعد معركة استمرت عدة ساعات. في ٣ تشرين أول/ اكتوبر ١٩٤٨، صدرت أوامر للجيش المصري باسترجاع خربة المحجز مجددا، ولكن الأوامر ألغيت بعد ساعة من الزمن، وتقرر تنفيذ هذا الأمر، مرة أخرى، عن طريق قوة من المتطوعين، معززة بحمالات مدافع رشاشة من نوع "برن"، وفشل هذا الهجوم أيضا.

في اليوم التالي، أي ٤ تشرين أول/ أكتوبر، قاد الهجوم المصري الصاغ زكريا محيي الدين، أركان حرب الكتيبة الأولى، ونجح بتحرير خربة المحجز، بعد هجوم بالمدرعات، سبقه قصف مدفعي شديد. ردت القوة الصهيونية من لواء "يفتاح"، بهجوم مضاد في المساء، واستطاعت احتلال المحجز مرة أخرى.

في الخامس من تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، عادت الكتيبة الأولى والسادسة بقيادة الصاغ جمال عبد الناصر، للهجوم على المحجز لاستعادة السيطرة عليه، ولما أصبحت القوة الصهيونية بخطر، هب إلى نجدتها لواء "چڤعاتي"، الذي وجه مدافعه إلى الكتيبة الخامسة المصرية الموجودة بجت. كانت الأوامر الصهيونية تقضي بفتح النيران بقوة ومن كل أنواع الأسلحة، مما اضطر القوات المصرية المهاجمة لخربة المحجز، بالانسحاب خوفا من هجوم صهيوني كبير عليها، وردت القوات المصرية على القصف الصهيوني، بقصف أقوى منه، ولكنها أوقفت الهجوم على المحجز، وتركت للقوات الجوية المصرية، مهمة قصفه بقوة شديدة، ولكنها لم تستغل هذا القصف من أجل تنظيم هجوم بري كبير كان من شأنه القضاء على القوة الصهيونية في خربة المحجز.

مرة أخرى، وفِي السادس من تشرين أول/ أكتوبر، حاولت قوة مصرية كبيرة بقيادة الجنرال محمد فوزي أن تسترد خربة المحجز، ولكن الهجوم فشل، بسبب شدة نيران المدافعين، التي منعت القوات الراجلة من التقدم، ثم نفذت القوة الصهيونية هجوما مضادا، باستخدام أنصاف المجنزرات الحاملة لمدافع عيار ٢٠ إنشا، مما أدى إلى تدمير مدرعتين مصريتين، ومن ثم جرى انسحاب للقوات المهاجمة.

بقي الحال على حاله في هذه الجبهة، إذ فشلت كل المحاولات المصرية لتحرير خربة المحجز، بل إن القوات الصهيونية قامت بالهجوم على القوات المصرية في أسدود، في ليلة ٨-٩ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، واشتبكت مع القوات المصرية في منطقة كراتيا، وردت القوات المصرية بقصف جوي لمستعمرات "دوروت" و"جالؤون". وكانت هذه هي المحاولة الصهيونية الأخيرة حتى ١٥ تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، عندما ابتدأت الحملة الكبيرة على القوات المصرية والمسماة بحملة "يوآڤ".

 اقتراحات الكونت برنادوت الأخيرة

استمر الكونت برنادوت ومساعده رالف بانش، في محاولاتهما من أجل إنهاء الحرب في فلسطين، والتوصل إلى هدنة دائمة، ولتحقيق هذا الغرض، قام برنادوت بزيارات مكوكية إلى الأردن ومصر وفلسطين وغيرها، والتقى كذلك بممثلي الدول العظمى خاصة ممثلي أميركا وبريطانيا. وفِي نهاية الأسبوع الثاني لشهر أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، وتحديدا في الثالث عشر منه، التقى الوسيط الدولي ونائبه في رودس بممثلي الدولتين العظميين: روبرت مكينتوك من وزارة الخارجية الأميركية، وجون تراوتباك رئيس المكتب البريطاني للشرق الأوسط في القاهرة. 

نتج عن هذا اللقاء، ما سمي فيما بعد باقتراح أو "خطة برنادوت" الثانية، حيث أن الاقتراح الأول كان قد ولد في الهدنة الأولى، ولَم يقبله الطرفان: العرب واليهود على حد سواء (انظر/ ي الحلقة ٢٠ بعنوان: الهدنة الأولى عام ١٩٤٨). كان الاقتراح الأخير مكونا من ٤٠ ألف كلمة، وأتم عمله في ١٦ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، على أن يعرض على مجلس الأمن خلال عدة أيّام من تاريخه، وقد نص الاقتراح على ما يلي:

١. عودة السلام إلى فلسطين، بين العرب واليهود؛
٢. يجب على العرب الاعتراف بالدولة الصهيونية القائمة وهي "إسرائيل"؛
٣. تعين الحدود بين القسمين العربي واليهودي، بموافقة الطرفين ومساعدة وتدخل الأمم المتحدة؛
٤. يجب أن يعود اللاجئون الفلسطينيون، وتعويض من لا يرغب في ذلك؛
٥. تدوّل مدينة القدس، وتعطى مكانة خاصة، على أن تكون جزءًا من القسم العربي؛
٦. يعطى النقب إلى العرب؛
٧. تعود اللد والرملة للعرب؛
٨. يعطى الجليل لليهود؛
٩. يعلن ميناء حيفا، ومعامل التكرير، والخطوط النهائية للأنابيب البترول، منطقة حرة، رغم كونها جزءا من الدولة اليهودية؛
١٠. مطار اللد يصبح منطقة حرة للعرب واليهود.

لم تتحدث الاقتراحات عن دولة فلسطينية، بل إنها كانت ترى بوجوب ضم الأجزاء المخصصة للعرب في فلسطين، إلى دول عربية، فيصبح الجزء الشرقي من فلسطين (الضفة الغربية) والقدس، جزء من المملكة الأردنية الهاشمية، ويضم النقب إلى مصر أو الأردن.

اغتيال الوسيط الدولي برنادوت

عينت جلسة الأمم المتحدة يوم ١٩ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، من أجل بحث اقتراحات الكونت برنادوت، والذي ترك رودس، حيث التقى بممثلي الدولتين الأعظم كما تقدم، وسافر في صباح ١٧ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨، متوجها إلى مدينة القدس، حيث هبطت طائرته في مطار قلندية، جنوب رام الله، عند الساعة التاسعة صباحا، ومن هناك ركب سيارة فرنسية بيضاء، من نوع "ديسوتو"، تحمل لوحة رقم ٨٧٣، وكانت وجهته إلى القسم اليهودي من مدينة القدس. كان معه في رحلته هذه السائق فرانك بيچلي، وهو قائد شرطة نيويورك سابقا، والكولونيل الفرنسي أندريه سارو، وشخص سويدي يدعى آچا لوندستروم.

عند الساعة الحادية عشر يصل برنادوت إلى معبر "مندلباوم"، الذي يفصل بين المنطقة اليهودية والعربية، وهناك ينضم إليه موشيه هيلمان، قائد "الهاغاناه" في المنطقة الشمالية للقدس، ومن هناك يذهبون إلى عمارة جمعية الشبان المسيحية للقاء دوڤ يوسيف القائد العسكري للقدس. بعد اللقاء الذي بحث إمكانية أن يصبح مقر المندوب السامي المهجور، مقرا للوسيط الأممي ورجالاته من أجل حفظ السلام في المدينة، يتفق الاثنان، برنادوت ويوسيف، على أن يذهب برنادوت إلى بيت دوڤ يوسيف في المساء، من أجل ان يقدم له الأخير هدية، هي عبارة عن أسطوانة تحتوي على السمفونية "فينلنديا"، لأن برنادوت يريد أن يسمعها لزوجته في عيد ميلادها بعد عدة أيام، ولذلك كان عليه أن يغير طريقه، ولَم يعلم أحدا بذلك ما عدا مرافقيه، ولذلك تحوم الشكوك حول تورط دوڤ يوسيف في إبلاغ الجناة بهذا الأمر.

بعد الساعة الواحدة والنصف، يترك برنادوت بناية جمعية الشبان المسيحية، ويتوجه إلى مقر المندوب السامي، مصاحبا معه سيارتين أخريين، وهناك يلعب مع مرافقيه البلياردو لمدة ساعتين على الأقل، ثم يتجه إلى بيت دوڤ يوسيف في حي "رحاڤيا" في الناحية الجنوبية للقدس اليهودية، ليحصل على الأسطوانة الموعود بها.

في السيارة الأولى، جلس القنصل البلجيكي نيونهويز والكولونيل لندستروم، وفِي السيارة الثالثة جلس بعض المراقبين الدوليين، وضابط الاتصال اليهودي موشيه هيلمان. أما برنادوت فقد جلس في السيارة الثانية برفقة الفرنسي أندريه سارو.

عندما وصلت القافلة بجانب البيت رقم ١٨، في شارع "الپلماح"، تظهر أمامها، فجأة، سيارة جيب بيضاء، مسروقة من الأمم المتحدة وفيها أربعة أشخاص من منظمة "الليحي" (شتيرن)، وهم: يهوشع كوهن، وزوجته، لاحقا، نحما، وشخصان آخران. قامت سيارة الجيب بإغلاق الطريق أمام القافلة، ونزل منها ثلاثة أشخاص، وقاموا بقتل برنادوت وأندريه سارو، بواسطة سلاح أوتوماتيكي من نوع "شمايتسر" الألماني، حيث أنهم وجدوا فيما بعد، أكثر من خمسين رصاصة في جثة برنادوت بعد موته.

قام بن غوريون، رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، باستغلال اغتيال الوسيط الدولي من أجل حل منظمة "الليحي" ومنظمة "الإيتسل" وضمهما إلى الجيش الصهيوني، وأخرجهما عن القانون لئلا تسول لقيادتهما أن تعود إلى بنائهما من جديد. أما الذين اغتالوا الكونت برنادوت، فلم يتم اعتقالهم حتى اليوم، بل إن يهوشع كوهن المتهم الرئيسي في مقتل الوسيط الدولي، أصبح فيما بعد صديقا حميما لبن غوريون.

انتهاء الهدنة بقرار صهيوني

كما حصل في الهدنة الأولى، حدث في الثانية، إذ استغلها الكيان الصهيوني استغلالا كبيرا، في تحضير نفسه عسكريا بصورة جيدة، من أجل استكمال انتصاراته التي حدثت في أيام المعارك العشرة التي تلت الهدنة الأولى. فهذه الانتصارات عززت الثقة الصهيونية بنفسها، وصارت تهتم لأمور، غير عسكرية، لم تعرها أي اهتمام قبل ذلك، فصارت تهتم بمساحة الأراضي الفلسطينية التي تركها أهلها، وكيفية إدارتها، وصارت تناقش وتنفذ الطرق اللازمة لمنع الفلسطينيين من العودة، وتدمير القرى المهجرة التي لم تدخلها القوات بشكل فعلي.

صارت القيادة الصهيونية، تتعامل مع الكيان الناشئ، على أساس أنه دولة قائمة يجب أن ترسي قواعدها السياسية والاقتصادية بالإضافة إلى القواعد العسكرية، وكانت الهدنة الثانية مهمة جدا من أجل تحقيق ذلك.

من ناحية أخرى، أبقت القيادة الصهيونية، كافة الجبهات ملتهبة، كما رأينا فيما تقدم، وحتى جبهة القدس، والتي لم تذكر في هذه العجالة، بسبب أن المعارك الأساسية التي حصلت بعد الهدنة حتى نهاية الحرب، تمت في جبهة الجيش المصري وجبهة جيش الإنقاذ، وما كانت معارك خربة المحجز، ومعارك المنارة، إلا مقدمة لهذه المعارك، وكانت تشهد مناوشات مع العرب، بل حتى معارك قوية، من أجل تثبيت التواجد الصهيوني في القدس، بل حتى تعزيزه. كل هذا كان يكلف خزينة الدولة الجديدة مبالغ طائلة، بسبب قلة الإنتاج لأن قسما كبيرا من الأيدي العاملة، مشغول بالمعارك، والإبقاء على أكثر من ١١٠ آلاف جندي مكلف للغاية، ولذلك فإن استمرار هذا الحال إلى الأبد، أو إلى فترة طويلة، من شأنه أن يؤدي إلى الإفلاس، رغم الحجم الهائل للمساعدات الخارجية التي تتلقاها إسرائيل. من أجل حل هذه المعضلة كان على القيادة الصهيونية أن تختار أحد الخيارين: خيار الحرب، أو السلم وقبول مقترحات برنادوت، فاختارت أن تكون البادئة للحرب، وتُجدّد المعارك من أجل احتلال مناطق أخرى من فلسطين، وطرد الجيوش العربية منها، وكان هذا في منتصف شهر تشرين أول/ أكتوبر ١٩٤٨، بهجوم كبير على الجيش المصري في النقب.


المصادر:

١. موقع الأمم المتحدة، قرارات مجلس الأمن؛
٢. جريدة "داڤار"، العدد ٦٩٩٦، ١٤ تموز / يوليو ١٩٤٨؛
٣. جريدة "داڤار"، العدد ٦٩٩٩، ١٨ تموز / يوليو ١٩٤٨؛
٤. موقع سلاح الجو الإسرائيلي؛
٥. جريدة "داڤار"، العدد ٧.٥٣، ١٩ أيلول/ سبتمبر ١٩٤٨؛
٦. عوفر ريچڤ، أمير القدس، إصدار "پورات" ٢٠٠٦؛
٧. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود؛
٨. بيني موريس، ١٩٤٨ تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛
٩. چوشون ريڤلين وتسڤي سيناي، محرران، لواء اسكندروني في حرب الاستقلال ١٩٤٧-١٩٤٩؛
١٠. إيلان پاپه، التطهير العرقي في فلسطين؛
١١. أحمد خليفة، مترجم، حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٩، الرواية الإسرائيلية الرسمية؛
١٢. إيهود عين چيل، التمرد العربي الصغير، موقع صحيفة "هآرتس"؛
١٣. بنيامين عتسيوني، طريق معارك لواء "چولاني"؛
١٤. بروفيسور مصطفى كبها، مثلث الكرمل (مقالة)، مؤسسة فلسطين للثقافة ٢٣ تموز / يوليو ٢٠١٧؛
١٥. نتانائيل لورخ، سيرة حرب "الاستقلال"؛
١٦. داڤيد بن غوريون، يوميات الحرب ١٩٤٧-١٩٤٩؛
١٧. أبراهام سيلع، جيش الإنقاذ في الجليل خلال حرب ١٩٤٨، نشرت في كتاب: حرب "الاستقلال" ١٩٤٨-١٩٤٩، نقاش مجدد، تحرير ألون كديش؛
١٨. الدكتورة خيرية قاسمية، معدّة، فلسطين في مذكرات القاوقجي؛
١٩. تسادوك إيشل، لواء "كرملي" في حرب "الاستقلال"؛
.٢. موشي كرمل، معارك الشمال؛
٢١. د. رفعت سيد أحمد، وثائق حرب فلسطين، الملفات السرية للجنرالات العرب؛
٢٢. إبراهيم شكيب، حرب فلسطين ١٩٤٨، رؤية مصرية؛
٢٣. أبراهام أيلون، لواء "چڤعاتي" في مواجهة الغازي المصري.

التعليقات