72 عاما على النكبة: معارك في النقب وسيناء (30/1)

الهدنة الثالثة: اجتماعات عربية وحملات صهيونية 1948 | ترتيب الجبهة المصرية بعد حملة "يوآڤ" | مؤتمر العسكريين العرب لإنقاذ الموقف | حملة "لوط" لاحتلال شرق النقب | البرلمان المصري يلخّص الموقفين: العسكري والسياسي

72 عاما على النكبة: معارك في النقب وسيناء (30/1)

تعزيزات العصابات الصهيونية إلى النقب (أ ب)

(أهدي هذه السلسلة لروح صديقي المرحوم هاشم حمدان، الذي كان له الدور الأكبر في تشجيعي على الاستمرار بكتابتها)


الهدنة الثالثة: اجتماعات عربية وحملات صهيونية 1948

بعد الحملتين العسكريّتين الكبريين اللتين شنّهما الكيان الصهيوني في تشرين أول/أكتوبر 1948، أي حملتي "يوآڤ" في النقب ضد الجيش المصري (انظر/ي الحلقات 26/1 حتى 26/4) و"حيرام" في الجليل ضد جيش الإنقاذ (انظر /ي الحلقتين 27/1 و27/2)، أصبحت النتائج النهائية لحرب عام 1948 موصومة بانتصار صهيوني كبير، وهزيمة عربية واضحة وضوح الشمس، وإن كان الإعلاميون والسياسيون العرب ما زالوا يحاولون إخفاء ذلك عن الشعوب العربية، في محاولة لتجميل الهزيمة برتوش الصمود في معارك أو مواقع هنا وهناك، أو تضخيم حجم خسائر الجيش الصهيوني في الأرواح والمعدات، بما لا يقاس مع حجمها الحقيقي. فمصر مثلًا، وهي الدولة التي تحملت العبء الأكبر للحرب وقدّمت التضحيات الأكثر من الشهداء والجرحى والأسرى، كانت تتغنى بالصمود الأسطوري للواء المصري الرابع في جيب الفالوجة (انظر/ي الحلقتين 29/1 و29/2)، هذا الصمود الذي منع إسرائيل من الوصول إلى الحدود المصرية، أو تطويق كافة وحدات الجيش المتواجدة في النقب، مما منع هزيمة أكبر وأقسى من الهزيمة التي حصلت خلال حملة "يوآڤ".

لم يبقَ، في تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، من الجيوش العربية ما ينغّص على الصهاينة فرحتهم بنصرهم الكبير على العرب إلا الجيش المصري الذي ما زال موجودا بقوات كبيرة في النقب، في المنطقة الواقعة جنوبي مدينة بئر السبع حتى رفح غربًا وفي منطقة غزة وجيب الفالوجة. حيث أنّ الجيش السوري يتواجد في شمال شرقيّ الجليل في منطقة صغيرة بجانب الحولة، دون أي تواصل جغرافي مع جيوش عربية أخرى، ما يمنعه من البدء في أي هجوم على وحدات الجيش الصهيوني القوية في الشمال خوفا من هزيمة ساحقة. أما جيش الإنقاذ، فانسحب بشكل كامل من فلسطين، بعد أن مني بهزيمة كبيرة في الجليل في حملة "حيرام"، ولذلك أصبح خارج دائرة الحرب تمامًا. أما الجيشان العراقي والأردني فقد اكتفيا بما استطاعا احتلاله خلال الفترة الأولى من الحرب، وكان همّهما الوحيد هو كيفية المحافظة على مواقعهما، والبقاء في الأراضي التي سيطرا عليها، بل إنّ الجيش الأردني كان قد بدأ بإجراء مفاوضات مع الجيش الصهيوني في القدس عبر القيادات الميدانية، بهدف الوصول إلى هدنة عسكرية بين الطرفين.

من جهة أخرى، عدمُ تحقيق أهداف حملة "يوآڤ" المعلنة بشكل كامل، وأولها القضاء على الوجود العسكري المصري في فلسطين، أدى إلى بقاء القسم الأكبر من أرض النقب في أيدي القوات المصرية، ما أثار المخاوف الصهيونية من احتمال تنفيذ هجوم مصري كبير بهدف تحرير مدينة بئر السبع أو توسيع الرقعة التي يسيطر عليها الجيش المصري بهدف تخليص الجنود المحاصرين في جيب الفالوجة. هذا الأمر كان يحتّم على القيادة العسكرية الصهيونية بأن تبقي قواتها بالكامل على أهبة الاستعداد والترقب، ما يثقل على عاتق خزينة الدولة الحديثة العهد. كان قرار مجلس الأمن رقم 61 والصادر في الرابع من تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، (والذي دعا كل طرف من مصر واسرائيل، للعودة إلى موقعه قبل 15 تشرين أول/أكتوبر 1948، ما يعني إلغاء كافة الانتصارات والاحتلالات التي حققها الجيش الصهيوني خلال حملة "يوآڤ" وما بعدها) يزيد من مخاوف "بن غوريون" وصار يطالب بالضغط على الأمم المتحدة من أجل تغيير هذا القرار من جهة، والتحضير عسكريا لحملة كبيرة أو حملات صغيرة من أجل تغيير الواقع على الأرض، بحيث يتحول القرار 61 إلى حبر على ورق، أو تجبر مصر على الدخول في مفاوضات وقف دائم لإطلاق النار، خاصة بعد أن أثمر الضغط الصهيوني على مجلس الأمن، الذي سرعان ما أصدر القرار 62 في 16 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، بضغط أميركي، داعيًا إلى "هدنة دائمة في جميع قطاعات فلسطين" وذلك "من أجل إزالة التهديد للسلام في فلسطين، ولتسهيل الانتقال من الهدنة الحاضرة إلى السلام الدائم في فلسطين"، كما جاء في القرار.

كان هذا القرار بمثابة حجر الزاوية للخطة الصهيونية من أجل الوصول إلى مفاوضات ومن ثم إلى هدنة دائمة مع الدول العربية، تجعل من دولة إسرائيل حقيقة واقعة، تحظى بموافقة الدول العربية وليس فقط الأمم المتحدة. كانت العقبة الكأداء في هذه الفكرة، هي الدولة العربية الكبرى، أي مصر، والتي ما زالت ترفض أن تدخل في مفاوضات مع الكيان الصهيوني، بل استمرت في المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 61، والقاضي بانسحاب صهيوني من كل المواقع التي احتلت خلال وبعد حملة "يوآڤ". كان الرفض المصري لمبدأ المفاوضات هو الحجة الصهيونية من أجل خرق الهدنة، والاستمرار في الحرب حتى تتحمل مصر عواقب إصرارها على الصمود، وتقبل أخيرًا بالأمر الواقع لتدخل في مفاوضات للوصول إلى هدنة دائمة.

استلزم هذه الأمر القيام بحملة عسكرية كبيرة لم تشهدها حرب 48 من قبل، بدأت القيادة العسكرية الصهيونية بالتحضير لها منذ بدايات تشرين ثانٍ/نوفمبر عام 1948، وإن بدأ التنفيذ متأخرًا في الأيام الأخيرة لنفس العام، في ما سميّت بعدها بحملة "حوريڤ"، وهو أحد الأسماء العبرية لجبل سيناء، وذلك لأن الجيش الصهيوني دخل إلى شبه جزيرة سيناء خلال الحملة. كان الاسم الأصلي للحملة هو "ع" بسبب وجود حرف العين في أسماء المواقع الأساسية التي استهدفتها الحملة وهي: عوجا، وبير عسلوج، وأبو عجيلة، والعريش، وغزة (اسمها بالعبرية "عزة").

ترتيب الجبهة المصرية بعد حملة "يوآڤ"

بعد نجاح العمليات العسكرية الصهيونية خلال حملة "يوآڤ"، تقلّصت مساحة الأراضي التي تسيطر عليها القوات المصرية، حيث أن هذه القوات كانت قد انسحبت من المجدل وأسدود العربيتين والمستعمرات الصهيونية التي احتلتها سابقًا، وهي "نيتسانيم" و"يد مردخاي" (دير سنيد)، وبذلك بقيت المناطق التالية فقط تحت السيطرة المصرية، وهي: المنطقة الساحلية من غزة حتى رفح وتمتد على طول 37 كيلومترًا، والمنطقة الداخلية أو منطقة الحدود المصرية من رفح إلى العوجة ويبلغ طولها 67 كيلومترًا، ومنطقة العوجة-بير عسلوج-تباب الشريف ويبلغ طولها 40 كيلومترًا، ومنطقة الخليل وبيت لحم ويبلغ طولها 50 كيلومترًا، ومنطقة الفالوجا وعراق المنشية والتي كانت محاصرة تمامًا من قبل الجيش الصهيوني (عنها انظر/ي الحلقتين 29/1 و 29/2).

بناءً عليه، تم تنظيم القوات المصرية من جديد بحيث تعزّز الدفاعات عن غزة ورفح والعوجة وبير عسلوج، وجعل منطقة الخليل وبيت لحم قاعدة لتموين قوات جيب الفالوجا المحاصرة، وحماية خطوط المواصلات بين رفح وغزة، والإبقاء على قوة عسكرية في مكان يتوسط المناطق، وذلك لصد أي هجوم كبير.

أمّا توزيع القوات فكان على النحو الآتي: في قطاع غزة تمركزت أربع كتائب مشاة بما فيها الاحتياط (الكتيبة الثالثة والسابعة مشاة، والكتيبة الثالثة والثامنة احتياط)، وخمس سرايا سعودية، والكتيبة التاسعة مشاة المحمولة على عربات، وبطارية مدافع هاون 81 مم، وجماعتا مدافع ماكينة، وجماعة مدفعية مضادة للطائرات. أمّا خط المواصلات من غزة إلى رفح، فقد تواجدت في قطاع دير البلح الكتيبة الخامسة مشاة وسريتان من الكتيبة الرابعة مشاة، والكتيبة الرابعة المحمولة على عربات مصفحة، وبطارية مدافع هاون 81 مم، وجماعتا مدافع ماكينة، وجماعة مدفعية مضادة للدبابات. في قطاع خانيونس تمركزت أيضًا الكتيبة الثانية عشرة مشاة وسريتان من الكتيبة الرابعة احتياط، والكتيبة الحادية عشرة مشاة المحمولة على عربات، وبطارية مدافع هاون 81 مم، وجماعتا مدافع ماكينة، وجماعة مدفعية مضادة للدبابات، وجماعة مدفعية مضادة للطائرات. في قطاع رفح تواجدت اربع كتائب مشاة (الكتيبة الخامسة والسادسة والتاسعة احتياط، وكتيبة مرابط) كقوة احتياط مع كل الأسلحة المعاونة والإدارية اللازمة لها. في قطاع العوجة - بير عسلوج تواجدت سرية من الكتيبة الحادية عشرة احتياط، وثلاث سرايا من الكتيبة العاشرة مشاة، وسريتان من الكتيبة الأولى احتياط، وسرية من الكتيبة الخامسة مشاة، وثلاث فصائل مدافع ماكينة متوسطة، وثلاث جماعات هاون 81 مم، وفصيل حدود، والكتيبة العاشرة مشاة، والكتيبة الرابعة احتياط، وسريتان من كتيبة المرابط. أمّا في قطاع الخليل وبيت لحم فقد تمركزت فيه قوات المتطوعين ووحدات إدارية. في الفالوجة وعراق المنشية كانت هناك ثلاث كتائب محاصرة ومنضوية جميعها تحت إمرة لواء الفالوجة. القاعدة الرئيسية للجيش المصري في فلسطين كانت متمركزة في مدينة العريش في سيناء، مع كتيبة احتياط للحراسة ومدفعية مضادة للطائرات.

مؤتمر العسكريين العرب لإنقاذ الموقف

اجتمعت قيادات الجيوش العربية، على أعلى مستوياتها، في القاهرة ابتداءً من يوم الأربعاء 10 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948. حضر الاجتماع كل من: اللواء عثمان المهدي، رئيس هيئة أركان الجيش المصري بالنيابة، واللواء إسماعيل صفوت، نائب رئيس هيئة أركان الجيش العراقي، والزعيم العام فؤاد شهاب، رئيس هيئة الجيش اللبناني، والزعيم حسني الزعيم، رئيس هيئة أركان الجيش السوري، والقائمقام سعيد الكردي من الجيش السعودي، والقائمقام أحمد صدقي الجندي من الجيش الأردني، والبكباشي علي الحديدي من الجيش الأردني أيضا، والعقيد محمد الهندي من جيش الإنقاذ. كما حضرت الاجتماع مجموعة كبيرة من الضباط الكبار للجيش المصري، مثل مدير المخابرات العسكرية، ومدير العمليات الحربية، ومدير السلاح الجوي، وضباط من السلاح البحري وغيرهم.

وبحث الاجتماع العسكري الوضع في فلسطين من جميع وجوهه، وانتهى المؤتمر بعدها بيومين، رافعًا توصياته للجنة السياسية لجامعة الدول العربية من أجل العمل حسب وجهة نظر المؤتمرين

اما توصيات مؤتمر العسكريين العرب، بالنسبة لحالة الجيوش العربية فكانت على النحو الآتي: 1. القوات الصهيونية متفوقة على القوات العربية عمومًا من حيث العدد، ومتفوقة على الجيش المصري في التسليح؛ 2. يفتقد الجيش المصري إلى الذخيرة، خاصّة ذخيرة المدفعية؛ 3. فقدت القوات الجوية العربية، والمصرية خصوصًا، تفوقها الذي كان في بداية الحرب، على سلاح الجو الصهيوني؛ 4. لا ذخيرة كافية لدى الجيوش العربية، مقابل ذخيرة بكميات كبيرة لدى القوات الصهيونية، بفضل الإمدادات الكثيرة التي حصلت عليها خلال فترات الهدنة؛ 5. ليس لدى الجيوش العربية قوة موحدة، بينما يحظى الصهاينة بقيادة واحدة وتعاون وثيق بين الجبهات المختلفة؛ 6. هناك تفوق واضح للقوات البحرية الصهيونية.

أمّا ما يجب على الجيوش العربية أن تقوم به في هذه المرحلة، بناءً على ما تقدم، فهو سد النقص في الذخيرة والعتاد، من أجل أن تستمر في الدفاع عن مواقعها الحالية، ومن ثم الانتقال إلى الحالة الهجومية أو ستكون خسارة الحرب حتمية.

أمّا عن الأسباب الرئيسية لسوء الوضع العربي في الحرب، فقد لخّصها المؤتمر في الأمور الآتية: 1. عدم الاستعداد الكافي للجيوش العربية لهذه الحرب؛ 2. عدم تحشيد القوات الكافية للتغلب على القوات الصهيونية، وعدم توفير الأسلحة والذخائر المطلوبة للانتصار في الحرب؛ 3. الدول العربية استخدمت قسمًا قليلًا من مواردها ومقدّراتها لأجل الحرب؛ 4. عدم تشكيل قيادة موحدة للجيوش العربية، بحيث يستفاد من القوات جميعًا كقوة واحدة، تتنقل حسب مقتضيات المعركة؛ 5. استفاد الصهاينة من أيام الهدنتين الأولى والثانية، بحيث استطاعوا سد النواقص في العدة والعتاد والجند، في مقابل فشل عربي كبير في ذلك.

في النهاية، أوصى المؤتمر الحكومات العربية بأن تعالج الموقف العسكري الخطير بحيث يتم تنفيذ الأمور الآتية: 1. سد النقص في الأسلحة والذخائر والطائرات والقوة البحريّة، مهما كلّف الأمر من جهد وتضحيات؛ 2. تسخير كل ما أمكن من موارد وإمكانيّات الدول العربية لأجل الحرب؛ 3. إعطاء العسكريين حرية العمل في ميادين المعارك، وحصر جهود الدول العربية في توفير وتعبئة القوى والموارد لصالح الجيوش العربية؛ 4. على السياسيين أن يتشاوروا مع العسكر قبل اتخاذ أيّ قرار سياسي من شأنه التأثير على نتائج المعارك.

لكن سرعان ما أصبحت توصيات المؤتمر حبرًا على ورق، إذ أنّ قائد القوات الأردنية في القدس عبد الله التل، اجتمع بـقائد القوات الصهيونية في القدس، موشيه ديان، وذلك في 18 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، لتهيئة الجو نحو الوصول إلى اتفاقية وقف إطلاق نار في جبهة القدس، وبالفعل تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في المدينة بدءًا من الأول من كانون أول/ديسمبر 1948. تضمن هذا الاتفاق وقفًا لكل العمليات الحربية من الطرفين ويشمل ذلك التحصينات والقنص والقصف مدفعي، وأن لا يتعرض أي طرف لتحركات الجنود لدى الطرف الآخر ما دامت باقية في الناحية الأخرى.

تكررت الاجتماعات بين العسكريين الأردنيين والصهاينة في 11 كانون أول/ديسمبر 1948، ثم في 13 و14 و30 من نفس الشهر مع انضمام سياسيين من الطرفين. وخلال هذه الاجتماعات تم إرسال رسالة من رئيس الدائرة العربية في الوكالة الصهيونية، إلياهو ساسون، إلى الملك عبد الله، ملك الأردن، بواسطة عبد الله التل، الذي استلم الرسالة من ديان في العاشر من كانون أول/ديسمبر 1948. وتخللت هذه الرسالة توجهًا من ساسون إلى الملك عبد الله، يدعوه فيها إلى إرسال شخص ليقابله في القدس من أجل التوصل إلى اتفاقية سلام بين الطرفين الأردني والصهيوني.

وجرى اللقاء الأول بين الدكتور شوكت باشا، مندوب الملك عبد الله، وساسون في يوم 11 كانون أول/ديسمبر. ثم كان الاجتماع الثاني بعدها بيومين، أما الاجتماع الثالث فكان بعد عودة الدكتور شوكت من عمّان مع موافقة مبدئية من الملك عبد الله على إجراء مفاوضات لوقف دائمٍ لإطلاق النار، مع الموافقة على تبديل القوات العراقية في فلسطين بقوات أردنية، والسعي إلى سحب القوات المصرية من النقب وجنوب فلسطين. أمّا الطرف الصهيوني فقد أعرب عن تأييده ودعمه لضم الأراضي الفلسطينية التي يحتلها الأردن إلى المملكة الهاشمية. وهكذا استمرت اللقاءات بين الطرفين حتى بدء محادثات رودوس لوقف دائم لإطلاق النار في فلسطين.

حملة "لوط" لاحتلال شرق النقب

وبينما كان العرب في "حيصهم وبيصهم"، ينتظرون حلًّا من "السماء" عن طريق الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كانت القيادة الصهيونية تخطّط لتوسيع رقعة دولتها الفتية. كان احتلال مدينة بئر السبع في اليوم الأخير لحملة "يوآڤ" قد جلب لها الفرصة ونقطة الانطلاق نحو النقب الجنوبي والشرقي. ولما كان الجيش المصري ما زال موجودًا جنوب غربي المدينة محتفظًا بخط بير عسلوج - العوجة، اختار الصهاينة في هذه المرحلة أن يتوسعوا نحو الناحية الجنوبية الشرقية حتى يصلوا إلى ضفاف جنوب البحر الميت، إلى أسدوم، وتوسيع حدود الدولة اليهودية مائة كيلومتر جنوبًا، كما جاء في الأمر الذي أصدرته قيادة الجيش من أجل تنفيذ ما سمي بحملة أو عملية "لوط"، على اسم النبي لوط الذي عاش في المنطقة المستهدفة من قبل جنود الحملة.

كان يعيش في أسدوم العشرات من العمال الصهاينة في مصنع البوتاسيوم، الذي تأسس في أواسط الثلاثينات من القرن العشرين. وبعد بدء معارك حرب 1948، تواجد فيها، أي إسدوم، أكثر من 500 شخص جُلّهم من المقاتلين الذي تجاوز عددهم الـ380 جنديًا، وهو عدد كبير للتواجد في منطقة نائية وخالية من السكان.

كان الادّعاء الصهيوني بضرورة احتلال النقب الشرقي وصولًا إلى البحر الميت وأسدوم، مرتكزًا على تخصيص هذه المنطقة للدولة اليهودية حسب قرار التقسيم من عام 1947، وبأن الجيش الأردني سيتقدم من منطقة الخليل جنوبًا، لاحتلال راس زويرة ومن ثم احتلال مركز الشرطة الصحراوي في كل من كرنب والنقب الصافي، وبذلك يتم ربط قواته المرابطة في أم الرشراش ورأس النقب بالقوات الشمالية المتواجدة في منطقة جبال الخليل.

بدأ التحضير الصهيوني لحملة "لوط" فورًا بعد احتلال بئر السبع، إذ خرجت قوة استطلاع من الكتيبة السابعة من لواء "هنيغيف"، في الثالث من تشرين ثانٍ/ نوفمبر 1948، من بئر السبع باتجاه أسدوم، ووصلت حتى تل المليحة وراس زويرة. وفي اليوم التالي استمرت في طريقها حتى وصلت أسدوم دون أن تواجه أيّة قوة عربية من شأنها أن تؤثر على مجرى الأمور، بل ووجدت الطرق صالحة للوصول إلى أسدوم عند شنّ الحملة عبر المركبات العسكرية. في 14 تشرين ثانٍ/ نوفمبر 1948، انطلقت قوة استطلاعية أخرى من بئر السبع باتجاه عين حصب، عن طريق وادي الفقرا. وصلت القوة إلى مركز شرطة عين حصب، بعد منتصف الليل، فوجدته خاليًا من أي تواجد عسكري، إذ كان الجيش الأردني قد أخلاه سابقًا، تاركًا هناك مستندات هامة وخرائط لمركز الشرطة نفسه، ومواقع حقول الألغام في المنطقة.

بعد هذين الاستطلاعين، أصبحت القيادة العسكرية الصهيونية شبه متأكدة أن المهمة المنوطة بها من أجل توسيع رقعة الدولة اليهودية ستكون سهلة، ولن تعترض جنودها أيّة قوة عسكرية عربية أردنيةً كانت أو مصريةً، ولذلك صدر الأمر في يوم 18 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، ببدء ما سمي بحملة "لوط"، وحدّد هذا الأمر أن على قوات لواء "هنيغيف" احتلال القرى عين البيضا، وعين حصب، وراس زويرة، وتل الملح، وكرنب، والسيطرة خلال ذلك على مركز شرطة كرنب، على أن يتمركز فيه فصيل مشاه من الكتيبة السابعة/"هنيغيف" معزّزة بمدافع رشاشة وأسلحة مضادة للدروع، واحتلال مركز شرطة عين حصب وأن يتمركز فيه فصيلا مشاة من الكتيبة التاسعة/"هنيغيف" معزّزان بمدافع رشاشة ومدافع هاون عيار 81 مم وأسلحة مضادة للدروع. كان على القوات التوجه جنوبًا حتى عين غديان كحد أقصى، حيث كانت هناك قوة من الجيش الأردني تقوم بحراسة الطريق حتى أم الرشراش والعقبة.

العصابات الصهيونية مندفعة لمواجهة الجيش المصري (أ ب)
العصابات الصهيونية مندفعة لمواجهة الجيش المصري (أ ب)

انطلقت العملية عند الساعة العاشرة صباحًا من يوم 23 تشرين ثانٍ/ نوفمبر 1948، حيث خرجت قوة من الكتيبة السابعة/"هنيغيف" من بئر السبع، ووصلت إلى محطة شرطة كرنب عند الساعة 15:30، وقامت باحتلالها بدون مقاومة. في نفس ساعة البداية، خرجت قوة من الكتيبة التاسعة/"هنيغيف" من شرقي بئر السبع، بحيث كانت القوة مكونة من كل سرايا هذه الكتيبة. تحرّكت هذه القوة بواسطة سيارات الجيب وسيارات عسكرية كبيرة ومدرعات، وحملت معها الكثير من المؤن للقوات الصهيونية المتواجدة في أسدوم. وصلت هذه القوة إلى مركز شرطة عين حصب في الساعة 08:30 من صباح اليوم التالي، بدون أن تعترضها أيّة قوة عربية. قامت القوة بإبقاء فصيلين منها في المكان حسب الخطة المعدة سلفًا، ومن ثم استمرت في سيرها باتجاه أسدوم عن طريق وادي القطيف، ومن ثم وصلت إلى عين البيضا في ساعات الظهر، وبقيت القوة هناك حتى أزيلت كل الألغام في الطريق إلى أسدوم، والتي وصلت إليها القوة، في صباح اليوم التالي أي 25 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، عند الساعة 08:30، بعد أن مرت عن طريق وادي العروس. في اليوم التالي صباحا، انطلق فصيل سيارات جيب من أسدوم إلى الجنوب واحتلّ مركز شرطة عين ويبا المهجور. وفي اليومين التاليين استمرت القوة الصهيونية في استكشاف معالم المنطقة، لضمان احتلال أكبر مساحة ممكنة من الأرض، دون أن تواجه أو تحارب أي قوة أردنية متواجدة في المنطقة.

البرلمان المصري يلخّص الموقفين: العسكري والسياسي

عقد البرلمان المصري، في الثلاثين من تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، جلسة سرّيّة لتلخيص الموقفين العسكري والسياسي بما يخص حرب فلسطين، بحضور أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، ورئيس الوزراء، فهمي النقراشي باشا.

استُهلَّ الاجتماع ببيان من رئيس الوزراء حول مجمل الأحداث العسكرية والسياسية منذ بداية الحرب في 15 أيّار/مايو 1948 حتى انعقاد الاجتماع. واستعرض الاجتماع كل فترات الحرب السابقة: الفترة الأولى حيث استطاع الجيش المصري احتلال مساحات واسعة من فلسطين حتى امتدت خطوط قواته إلى أكثر من 400 كيلومتر. وقبول العرب بالهدنة الأولى لإظهار حسن النية وتأكيدًا على الرغبة في التعاون مع الأمم المتحدة، لإيجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن العرب كانوا غير مطمئنّين إلى احترام الصهاينة لشروط وقف إطلاق النار. وقد قُطع الشك باليقين عندما قاموا، أي الصهاينة، بخرق وقف إطلاق النار أكثر من مرة، ورغم ذلك آثر العرب أن يصبروا على مضض لإفساح المجال لعمل الوسيط الأممي.

بعدها تحدث عن تجدد المعارك، وكيف احتل العصابات الصهيونيّة اللد والرملة حيث تواجد الجيش الأردني، وقامت بتشريد سكانهما. أمّا عن القوات المصرية فقال إنها قامت بصدّ الهجمات الصهيونية عليها، وكبّدتها خسائر فادحة، بل وإنها طردت الصهاينة من القرى العربية التي احتلت خلال الهدنة الأولى.

واستعرض رئيس الوزراء خطّة الوسيط الدولي بعد بدء الهدنة الثانية في 18 تموز/يوليو 1948، وكيف قام الصهاينة باغتياله كون خطته لا تتلاءم مع متطلباتهم وأطماعهم. وادّعى رئيس الوزراء أن الجيش المصري كان قد صمد أمام الهجمات الصهيونية التي بدأت في 14 تشرين أول/أكتوبر 1948، واحتفظ الجيش بكيانه سليمًا، وأن الانسحابات التي نفذها الحيش كانت وفقًا لخطة معدة سلفًا وليس بسبب قوة الهجوم الصهيوني، رغم إقراره في نفس الجلسة بأنّ الجيش المصري المتواجد في الفالوجة أصبح محاصرًا بالكامل من قبل القوات الصهيونية.

لم يخلُ بيان النقراشي من المقاطعات من أعضاء البرلمان الذين شدّدوا على أن الجيش المصري دخل الحرب في اللحظة الأخيرة، حيث أنّ قرار المشاركة في الحملة العسكرية وقع قبل ثلاثة أيام فقط من الانسحاب البريطاني من فلسطين. كذلك طرح النواب موضوع عدم استغلال الفترة الواقعة بين قرار التقسيم حتى بدء الحرب، لشراء الأسلحة وتزويد الجيش بمتطلباته لحرب طويلة الأمد. كذلك تحدّث بعض النواب عن أن المعارك الأخيرة كانت بمثابة خسارة للجيش المصري الذي أُجبر على الانسحاب، بعد تراجعه أمام الهجمات الصهيونية، ما تسبّب بفتح الطريق إلى مستعمرات النقب التي كانت محاصرة.

وخلال البيان السياسي، عرض رئيس الوزراء المصري، ثلاثة مقترحات قدمت إلى اللجنة التي أوكلت إليها مهمة الوصول إلى هدنة في فلسطين، من قبل مجلس الأمن وحسب قراره في 16 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1948، والذي طالب بتحديد خطوط دائمة للهدنة لا تتعداها القوات المسلحة، وسحب وخفض حجم القوات العسكرية من الطرفين، بما يضمن الانتقال إلى سلم دائم في فلسطين. اما المشروعات التي عرضها فهي: المشروع البريطاني وقدم في 18 تشرين ثانٍ/نوفمبر، والذي يتبنى مقترحات برنادوت (الوسيط الأممي) مع إدخال بعض التعديلات. والمشروع الأميركي وقدم في 20 تشرين ثانٍ/نوفمبر، ويعتبر هذا الاقتراح مشروع برنادوت أساسًا للتفاوض، على أن يتم التمسك بحدود الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم. أمّا المشروع الثالث فكان أستراليًا وقدم في 23 تشرين ثانٍ/ نوفمبر وينص على تأسيس لجنة خماسية تهيّئ السبيل أمام العرب واليهود للوصول إلى اتفاقية سلام، مستندة إلى قرار التقسيم بالنسبة لحدود الدولة اليهودية، وتخطيط حدود المناطق العربية حسب رغبات السكان. كما أنّ هذا المقترح يحض مجلس الأمن على قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة.

بعد بيان رئيس الوزراء، جرى نقاش حاد حول بعض القضايا الهامة مثل: قضية اللاجئين الفلسطينيين وعددهم (أشار رئيس الوزراء في كلمته إلى أنّ عدد المهجرين إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش المصري بلغ 250 ألفًا)، وعدم التنسيق بين الدول العربية في الحرب، ونقص الذخيرة والعتاد لدى الجيش المصري، وتكلفة الحرب حتى عقد الاجتماع، وعدد الشهداء ونسبتهم من الجنود المشاركين في الحرب، ولماذا وافق العرب على الهدنة الأولى، ودور سلاح الجو المصري في المعارك.

ما عدا النقاش حول ما كان في الحرب حتى الآن، وعن التحركات السياسية بشأن التوصل إلى هدنة دائمة في فلسطين، لم يتوصل الاجتماع، ولم يناقش أصلًا، خطة معينة للخروج من المأزق الحالي للجيش المصري في فلسطين، ما عدا تقديم الشكر للجيش على بسالته في الدفاع عن شرف العرب عمومًا والشعب المصري خصوصًا.

الجيش المصري يبني خطًا دفاعيًا والصهاينة يطلقون حملة "أساف"

ورغم أن الجيش الصهيوني كان قد فشل في محاصرة الجيش المصري في منطقة غزة، خلال حملة "يوآڤ"، إلا أنّ نجاحه في قطع الطريق على وحدات الجيش المصري المتمركزة في أسدود والمجدل، ما اضطرها إلى الانسحاب عبر شاطئ البحر إلى منطقة غزة، جعل قيادة الجيش المصري تعتقد بأن الصهاينة ما زالوا يخططون إلى محاصرة جيشهم في أي معارك قادمة، ولذلك قررت هذه القيادة أن تبني خط دفاع متقدم عن مراكز تواجد الجيش المصري الرئيسية في البريج ودير البلح وخانيونس. كان هذا الخط، الممتد من تبة الشيخ نوران شمالا إلى رفح جنوبًا، من واجبه أن يكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أي عملية خاطفة من الممكن أن تنفذها القوات الصهيونية، كما أن موقع تبة الشيخ نوران يحمي الطريق الرئيسي إلى رفح.

بدأت القوات المصرية في بناء خط الدفاع المتقدم إلى الشرق من قواتها في منطقة غزة، في أواخر شهر تشرين ثانٍ 1948، حيث شرعت بالتخندق على تبة الشيخ نوران، وهي التبة الأكثر ارتفاعًا بين الهضاب الموجودة في المنطقة، وفِي خربة معين، وتل جمّا، وتل الفارعة، وقرية شعث، وأبو معيلق. وبذلك أصبحت لديها السيطرة على الطريق من شرق خان يونس إلى بلدة بني سهيلة، ومن بني سهيلة إلى خزاعة وخربة أبو ستة. كما أنّ هذا الخط الدفاعي من الممكن أن يشكّل نقطة انطلاق للتحكم بالطرق المؤدية إلى المستعمرات الصهيونية: "نيريم" والعمارة ("أوريم" الآن) و"باري".

وبالنسبة لقيادة الجيش الصهيوني، خاصة قائد المنطقة الجنوبية للجيش، يغئال ألون، فاعتبرت الخطة الدفاعية المصرية خطرًا محدقًا بالمستعمرات المذكورة أعلاه وغيرها، كما اعتبرتها نقطة انطلاق للجيش المصري من أجل الانقضاض على مدينة بئر السبع واحتلالها مجددًا. وفي نفس الوقت، رأت في المواقع المصرية فرصة سانحة من أجل تنفيذ مخططات معدة سلفًا لاحتلال قسم كبير من النقب الغربي، بحجة أنّ مصر تعد العدة لهجوم مستقبلي، ما يعتبر خرقًا لوقف إطلاق النار، ولذلك بدأت القيادة العسكرية الصهيونية، بإعداد العدة للهجوم على وحدات الجيش المصري المتمركزة في المواقع والتلال الواقعة شرق منطقة غزة، ومن ثم احتلال هذه المواقع والتحصن فيها، واستغلالها في هجمات مستقبلية ضد الجيش المصري. بناءً على ذلك، صدرت أوامر العملية العسكرية المسماة "أساف" في الأول من كانون أول/ديسمبر عند الساعة 00:40، وأوكلت مهمة تنفيذ هذه العملية إلى الكتيبة المدرعة "شموني" على أن تشاركها في المعركة وحدات من لواء "غولاني"، بحيث تقوم المدرعات ووحدات الجيب باحتلال موقع تبة الشيخ نوران وخربة معين، وتسلمها لوحدات "غولاني" والتي عليها أن تقوم ببناء تحصينات في هذه المواقع بعد احتلالها من أيدي القوات المصرية، والتمركز فيها لمواجهة أي هجوم مصري مضاد.

انسحاب سريع بعد هجوم خاطف

استعجلت قيادة المنطقة الجنوبية للجيش الصهيوني الهجوم على خطوط الجيش المصري الجديدة، وقرّرت أن تبدأ هجومها فورًا وآثرت عدم الانتظار حتى الحملة الكبيرة المزمع تنفيذها ضد الجيش المصري، وذلك لضرب عصفورين بحجر واحد؛ فمن جهة تستغل ضعف التحصينات المصرية لهذا الخط، بسبب عدم استكمالها حتى الآن، إذ أنّها كانت ما زالت في طور البناء، ومن جهة أخرى فإنّ الهجوم على القوات المصرية والسيطرة على مواقعها، سيؤديان إلى بناء خط دفاعي يمتد من مستعمرة باري حتى مستعمرة نيريم، وبذلك يتم إبعاد أي قوة عسكرية متواجدة شرق هذا الخط، وكذلك يمكن السيطرة على كل المساحة الواقعة بين هذا الخط وبين القوات المصرية في غزة، وكل الطرق الموجودة في هذه المنطقة.

خُصصت لتنفيذ حملة "أساف" الكتيبة التاسعة من لواء "شموني"، معززة بمجنزرتين مزودتين بمدفعي 6 أرطال من الكتيبة الثانية من نفس اللواء، والكتيبة الثالثة من لواء "غولاني"، معززة ببطارية مدفعية عيار 65 ملم، وبطارية مدفعية "كروپ" عيار 75 ملم، وبطارية هاون عيار 120 ملم. وأوكلت قيادة الحملة لقائد اللواء "شموني"، الضابط يتسحاك ساديه، الذي كان قائدًا للقوة الضاربة للهجاناة (الپلماح).

كانت خطة الحملة تقضي بأن تحتل الكتيبة التاسعة/"شموني" قرية شعث في 5 كانون أول/ديسمبر 1948، ثم تهاجم تبة الشيخ نوران فتحتلها وتترك بها قوة صغيرة، وتواصل إلى خربة معين وتحتلها. بعدها تستلم الكتيبة الثالثة/"غولاني" الموقعين، وتبني تحصيناتها حتى تتمكن من المحافظة على مواقعها مقابل هجوم مصري مضاد. كتيبة "غولاني" تتلقى دعمًا من بطارية مدفعية عيار 65 ملم تتمركز على تبة الشيخ نوران. في اليوم التالي، تقوم الكتيبة الثالثة/"غولاني" باحتلال تل الفارعة بعد قصفها بمدفعية هاون عيار 120 ملم.

بدأت الحملة في الساعة 12:00 من يوم 5 كانون أول/ديسمبر 1948، حيث انطلقت 11 مجنزرة من السرية الأولى والثانية للكتيبة التاسعة/"شموني"، مع بطارية مدفعية عيار 65 ملم وسيارات جيب ومصفحات، حتى وصلت إلى قرية شعث، فوجدتها فارغة من الجند، ومن هناك تحركت الحملة نحو الشيخ نوران عند الساعة 14:00. في هذه الأثناء تم قصف تل الفارعة بالمدفعية، ما أدّى إلى انسحاب القوة المصرية منها باتجاه الشيخ نوران. ولكن المدرعات الصهيونية هاجمت موقع الشيخ نوران من الخلف، أي من الجهة الغربية، ما أدّى إلى ارتباك القوة المصرية، وانسحابها على عجل بدون أن تواجه القوة المحتلة، والتي تمركز جزء منها على التلة بينما استمر القسم الأكبر إلى خربة معين وقام بالسيطرة عليها عند الساعة 16:00 بدون أي مقاومة تذكر.

وفورًا، بدأت قوات من الكتيبة الثالثة /"غولاني" بالتمركز على تلة الشيخ نوران، حيث بدأ فصيل معزز بمدافع 65 ملم بحفر الخنادق وبناء جدران شائكة في انتظار هجوم مصري مضاد. في خربة معين، تمركز فصيلان من الكتيبة نفسها، مع مدافع مضادة للدروع، وتمركزت حظيرتان فقط في تل الفارعة.

فشل مصري في استرداد السيطرة على الشيخ نوران

وفي الساعة 09:00 من صباح يوم 6 كانون أول/ديسمبر 1948، استمرت القوة الصهيونية في حملتها، إذ توجهت المجنزرات نفسها من اليوم السابق، باتجاه تل جما لاحتلاله، وفِي نفس الوقت تمت مهاجمة القوة المصرية في عبسان، ولكن هذه القوة ردت بنيران قوية على القوة الصهيونية التي سرعان ما ارتدّت على أعقابها دون أن تدخل عبسان. أمّا تل جما فتم احتلاله بدون مقاومة عند الساعة 11:00، حيث كان خاليًا من القوات المصرية، إلا أن هذه، أي القوات المصرية، كانت قد بدأت هجومًا مضادًا بهدف استرجاع السيطرة على الشيخ نوران، ولذلك تعرضت القوة التي احتلت تل جما إلى قصف عنيف من المدفعية المصرية.

كانت القوات المصرية المشاركة في الهجوم المضاد مقسومة إلى قسمين، القسم الأول الذي يهاجم من ناحية اليمين، وكان مكونًا من مجموعة دبابات من نوع "لوكاست"، واللواء الثاني سيارات حدود ما عدا كتيبة واحدة، وجماعة مدافع ماكينة، وجماعة مدفعية مضادة للدبابات، وسرية من الكتيبة السابعة مشاة، وباقي الكتيبة السابعة، ما عدا سرية واحدة، كقوة احتياطية. أمّا القسم الثاني، والذي يهاجم من الناحية اليسرى، فكان مكونًا من جماعة دبابات من نوع "لوكاست"، وكتيبة سيارات حدود من اللواء الثاني، وجماعة مضاد للدبابات، وسرية من الكتيبة السابعة مشاة، وفصيل حمالات.

بدأت المدفعية المصرية بقصف المواقع في الشيخ نوران وخربة معين وتل جما، بمدافع الهاون عيار 81 ملم، عند الساعة 10:50، ثم تبعها تقدم الدبابات إلى الشيخ نوران من القوة الأولى، ومن خلفها كتيبة السيارات، بعدها تقدمت السرية الأولى مشاة من الكتيبة السابعة. تقدّمت القوة الثانية المصرية بنفس ترتيب القوة الأولى، باتجاه كرم أبو ستّة واحتلته بسهولة، وفي الساعة 11:40، قامت دبابات هذه القوة بالتحرك نحو خربة أبو ستة، من أجل تنفيذ حركة التفاف على الجانب الأيمن للشيخ نوران، واستمرت في حركتها حتى وصلت إلى جهة مقابلة للشيخ نوران، وتوقفت هناك وبدأت بقصف القوة المتمركزة على التل، دون أن تتقدم باتجاهه. دبابات القوة الأولى لم تقم باقتحام مواقع كتيبة "غولاني"، حيث أنّها أرادت الالتفاف من الجانب الأيسر للقوة، ولكنّها تعرضت لقصف بواسطة المدفعية المضادة للدبابات، فتعطلت ثلاثة منها على بعد 400 م إلى الغرب من مواقع كتيبة "غولاني" في الشيخ نوران. عندها، تقدّمت كتيبة السيارات واتخذت مواقع دفاعية وبدأت تطلق نيران رشاشاتها الخفيفة والمتوسطة ومدافع الهاون على مواقع الجيش الصهيوني، لإسكات المدافع الرشاشة التي تطلق على القوة المتقدمة بكثافة كبيرة.

في ساعات بعد الظهر، كانت الدبابات المصرية ما زالت قريبة من تل الشيخ نوران، بل أنّ المصريين استطاعوا تدمير المدفعين المضادين للدبابات، واقترب المشاة خلف الدبابات حتى مسافة 150 مترا من الجنود الصهاينة، وذلك عند الساعة 15:00، وكان وضع الجنود المدافعين حرجًا، ولكن المشاة لم يقوموا بالتقدم أكثر، بل تجمدوا في أماكنهم بفعل النيران الكثيفة من المدافع الرشاشة الصهيونية. قوة المشاة المصرية من جهة اليسار حاولت، أيضًا، أن تتقدّم من خلف الدبابات عند الساعة 12:40، إلا أنّها تجمدت أيضًا ولَم تحاول أن تخترق الدفاعات الصهيونية، حيث أن الأسلحة الآلية كانت شديدة إلى درجة كبيرة، واستمر الحال على نفسة حتى الساعة 16:00. أخيرًا وفِي الساعة 17:00، تقدمت دبابة مصرية من الجناح الأيمن، واخترقت التحصينات الصهيونية، واستطاعت أن تصل إلى مركز التلة، ولكن الدبابات الأخرى لم تتبعها، وأصبحت وحيدة أمام وابل من الرصاص، ومن ثم أصيبت بقذيفة من مدفع "بيات"، ما أحدث عطلا كبيرًا في جنزيرها. ورغم ذلك، استطاع قائدها أن ينزل بها من التل، وجاءت دبابة أخرى وسحبتها إلى الخلف.

في هذه اللحظة، صدر أمر ميداني مصري بالانسحاب من المعركة، تحت ستار كثيف من المدفعية على الشيخ نوران، واكتمل الانسحاب عند الساعة 20:30. خسرت مصر في هذا اليوم 5 دبابات "لوكاست" من أصل 12، بينما كانت الخسائر الصهيونية في موقعي خربة معين والشيخ نوران خمسة قتلى و 28 جريحًا.

هجوم مضاد ضد الهجوم المصري المضاد

كان الانسحاب المصري وعدم الاستمرار في المعركة خطأً كبيرًا، وتبينت فداحته في اليوم التالي، أي يوم 7 كانون أول/ديسمبر 1948، حيث أن الجيش المصري الذي ما زال مصرًا على استرداد تبة الشيخ نوران، نفذ هجومًا مضادًا آخر، أول قُل، جدد هجومه في صبيحة اليوم التالي. ويكمن الخطأ في إعطاء الفرصة للجنود المتمركزين على التلة أن يعزّزوا تحصيناتهم ويتزودوا بالذخيرة الحية التي تنقصهم. والأنكى من ذلك، أن الكتيبة "شموني" المدرعة أعدت، بعد فشل الهجوم المصري المضاد في اليوم الأول، خطّة محكمة من أجل تحقيق ضربة قاصمة للجيش المصري، وذلك بواسطة جرّه إلى منطقة مكشوفة تمكن النيران الصهيونية من اصطياد جنوده، ومن ثم تنفيذ هجوم مضاد حاسم وسريع، قبل أن يتحضّر الجيش المصري بشكل كافٍ للمعركة الفاصلة، على أن يكون الهجوم مفاجئًا من الأطراف، مع استعمال المصفحات والمجنزرات بشكل فعال.

في الصباح الباكر، خرجت الكتيبة التاسعة من لواء "شموني" من قرية شعث، واختبأت سراياها في البساتين القريبة من القرية، في انتظار الهجوم المصري المرتقب. كان تحت تصرف الكتيبة 11 مجنزرة، و20 سيارة جيب، ومصفحتان مزوّدتان بمدفع رشاش لكل منهما، ومصفحة مزودة بمدفع 37 ملم، ومجنزرة مع مدفع 20 ملم، ومجنزرة مع مدفع 6 أرطال، ومصفحة مزودة بمدفع 6 أرطال أيضًا.

أمّا القوة المصرية، فكانت مكونة من كتيبتي مشاة وحوالي 20 دبابة ومصفحة، وكان مقررًا أن تقوم هذه باقتحام موقع الشيخ نوران معززة بسيارات حرس الحدود التي كان منوطا بها تطويق القوة الصهيونية وبعد احتلال التل يتم تسليمه للسرية الثالثة مشاة. عند الساعة 11:00 صباحًا، بدأت القوة المصرية بالتقدم نحو تبة الشيخ نوران. فِي البداية احتلت القوة مواقع في خربة أبو ستة، ومن ثم تقدمت من أجل احتلال بضعة بيوت في كرم أبو ستة. لم تعترض القوات الصهيونية تقدم القوة المصرية حتى وصلت إلى بعد أقلّ من 150 مترًا من البيوت التي كانت حولها أسلاك شائكة، وعندها افتتح الجنود الصهاينة المختبئون نيرانهم بكل قوة، ما منعها من التقدم.

في هذه الأثناء، بدأت مجنزرات الكتيبة التاسعة من لواء "شموني" بالتقدم، بدون أن تلحظها القوة المصرية بسبب اختبائها وراء الستار الترابي لسكة الحديد التركية. في نفس الوقت فتحت المدافع الصهيونية نيرانها على القوات المصرية المهاجِمة، ما تسبّب بزيادة مشاكلها، وتسمرها في مكانها بدون أن تسنح لها الفرصة بالهجوم أو الانسحاب تحت وقع القذائف المدفعية.

عند الساعة 16:00، هجمت القوة الصهيونية المدرعة على القوة المصرية المكشوفة، وأعملت فيها القتل حتى أن بعض المجنزرات قام بدهس عدد من الجنود تحت عجلاتها. وقصفت مدافع المجنزرات عيار ستة أرطال المصفحات المصرية، فأعطبت بعضًا منها، أمّا مدفع إحدى المجنزرات عيار 37 ملم فقد أعطب إحدى الدبابات المصرية.

في هذه الأثناء، بدأت المدفعية المصرية بقصف القوة المهاجمة الصهيونية، وذلك للتغطية على انسحاب القوات المصرية بشكل فوضوي، ما زاد من حجم الخسائر في الأرواح والتي قدرت بأكثر من 100 شهيد. وتركت القوة المصرية خلفها الكثير من الغنائم للقوة الصهيونية، من أسلحة وذخيرة حية وسيارات.

كانت هذه هي نهاية حملة "أساف"، التي اعتبرت نصرًا ساحقًا من حيث السيطرة على مواقع إستراتيجية جديدة، من شأنها أن تستعمل كقاعدة مستقبلية في المعارك القادمة، ناهيك عن الخسائر البشرية الفادحة التي مني بها الجيش المصري، بالإضافة إلى الخسائر في المعدات، خاصة دبابات "لوكاست"، التي استعملت لأوّل مرة في معارك عام 1948، واعتبرتها مصر قبل هذه المعركة سلاحًا سريًا ذا قيمة إستراتيجية هامة، من شأنه أن يغيّر مجرى المعارك الميدانية.

(يتبع...)


المصادر:

  1. د. رفعت سيد أحمد، "وثائق حرب فلسطين - الملفات السرية للجنرالات العرب".
  2. اللواء د. إبراهيم شكيب، "حرب فلسطين 1948، رؤية مصرية".
  3. اللواء حسن البدري، "الحرب في أرض السلام، الجولة العربية الإسرائيلية الأولى".
  4. نتائيل لوراخ، "سيرة حرب الاستقلال".
  5. عبد الله التل، "كارثة فلسطين".
  6. ق. يورام، "لواء النقب في المعركة"، إصدار الجيش الإسرائيلي.
  7. موشيه غفعاتي، "في طريق الصحراء والنار، سيرة الكتيبة التاسعة".
  8. أردون كوهين وآخرون، "لواء النقب في حرب الاستقلال".
  9. ألون قديش، "حملة أساف، من حركة تكتيكية ليغئال ألون إلى عملية منهجية"، مقالة في مجلة "يسودوت"، إصدار قسم التاريخ في الجيش الإسرائيلي.
  10. بنيامين عتسيوني، "طريق معارك لواء غولاني".
  11. نتانئيل لوراخ، "سيرة حرب الاستقلال".
  12. وليد خليفة، مترجم، "حرب فلسطين 1947-1949، الرواية الإسرائيلية الرسمية".

التعليقات