01/06/2009 - 09:42

في مفهوم الأمن الثقافي/ د.عبد الإله بلقزيز

-

في مفهوم الأمن الثقافي/ د.عبد الإله بلقزيز
اقترن استعمال مفهوم الأمن الثقافي بميلاد ظاهرة العولمة في فجر عقد التسعينات من القرن الماضي . وهو اقتران ذو دلالة من وجهين: من حيث إن الثقافة ما عانت كثيراً مشكلات أمنها الذاتي حيث كان نطاقها القومي مدار اشتغالها وفاعليتها، ومن حيث إن العولمة نفسها ما صارت كذلك- أي عولمة- إلا حيث حملت على ركاب ثقافي وأنتجت ثقافتها العابرة للحدود . والوجهان معاً يتضافران للتعبير عن حالة من التلازم بين العولمة والثقافة على نحو لا يقبل الفك ويتجافى تماماً مع النظرة الاقتصادية- والتقنوية- التبسيطية للعولمة .

لندع إلى حين مسألة الصلة، التكوينية والاشتغالية، بين العولمة والأمن الثقافي ولنلق نظراً على بعض ما يحتمل أن يحمله من التباسات في المعنى لدى من ينكرون عليه شرعيته الفكرية والإجرائية .

قد يوحي الحديث عن أمن ثقافي بأن في العبارة قدراً من التناقض والتجافي لا يستقيم معها معنى دقيق لها، ففيما تميل لفظة الثقافة إلى معنى يرادف- أو يجانس- الإبداع والانفتاح والتفاعل، تحيل لفظة الأمن إلى معنى يقارب الدفاع ويجانس الانكماش والتقوقع . حين تبحث ثقافة عن أمنها، بهذا المعنى، تبحث عما يعزلها عن غيرها من الثقافات- وبالتالي- تسعى بنفسها نحو إفقار نفسها، بل نحو الانقلاب على ماهيتها كثقافة أو قل نحو انتحار بطيء يأخذها إلى حتفها .

لا بدّ من بناء معنى إيجابي لمفهوم الأمن الثقافي يتبدد به التباسه، وهو ما سنحاوله هنا مطلين على وجهين من المفهوم أو قل على ديناميتين في الثقافة يتأسس بهما معنى الأمن الذي تنشده .

من وجه أول يكتسب المفهوم معنى بنائياً، تراكمياً، إن حسبنا الأمن مرادفاً في الدلالة لتحقيق الإشباع الذاتي من الحاجات الثقافية . أمن ثقافة، بهذا المعنى، هو قدرتها على توفير حاجاتها، على الإنتاج والتراكم ومغالبة الندرة والخصاص والحاجة، ورفع خطر الخوف من العجز وفقدان القيم الثقافية والرمزية التي تجيب عن مطالب المجتمع والفكر والوجدان والذوق . إن دافعيته، في هذه الحال، إيجابية، وتمثل نداءً عميقاً ينشد التطور والتقدم والإبداع، ولا يدعو إلى الارتكاس .

يصدق على الأمن الثقافي، بهذا الحسبان، ما يصدق على الأمن الاقتصادي والأمن الغذائي والأمن المائي . جميع هذه الأنواع من الأمن يفرض استراتيجيات إنتاجية وعقلانية في إدارة الموارد المادية من أجل حماية حق جماعي في التنمية والغذاء وإشباع الحاجات، لا أحد يتهم دولة بالانكفاء حين ترسم سياساتها على مقتضى استراتيجية الأمن الاقتصادي والغذائي لأن دعوتها إلى الأمن على هذا المستوى مشروعة، ولأن الأمن الاقتصادي والغذائي وحده يحميها من التبعية وفقدان القرار، أو يحد من ذلك، ويعزز استقلالها الوطني واستقلال إرادتها . وليس من باب التعسف في المقارنة أن نقول إن أمن ثقافة ما هو ما يحميها من التبعية، والتبعية ليست الانفتاح على الآخر والانتهال منه والتثاقف، كما أنها ليست في الاقتصاد والغذاء- التعاون مع الآخرين والاستثمار المشترك وتبادل المنافع، وإنما هي الارتهان للآخر والعيش على منتوجه، والتوقف عن إنتاج ما يشبع الحاجات والسقوط في نزعة استهلاك ما لا تنتج، ناهيك بالذيلية لمن تستهلك إنتاجه والانتظام في بنيته .

بين المنتج والمستهلك، إذن، بون متسع في الاقتصاد والغذاء والتقانة والثقافة هو عينه البون بين السيد والعبد، بين من يملك ومن لا يملك، بين من يوفر أمن حاجاته وبين المستباح أمنه، بين من يفرض شروطه على الضعيف ومن ينصاع لشروط القوي، يبدو هذا الدرس جلياً في الاقتصاد والتقانة والقيم المادية . لكنه قطعاً- عند من يقاربون الثقافة بأدوات التحليل الاستراتيجي- ليس أقل وضوحاً في حال الثقافة والقيم الرمزية لأن التشابه في العلة متقرر بين الأمنين إن استعرنا مفردات علماء أصول الفقه .

هذا وجه أول لمفهوم الأمن الثقافي، وصفناه بالقول ان المفهوم يكتسب فيه معنى بنائياً وتراكمياً، وقصدنا به القول إن الأمن يرادف الإنتاج في هذه الحال ولا ينطوي على أية دلالة سلبية من قبيل الدفاع الانكفائي على نحو ما قد يظن أو ما قد توحي به عبارة الأمن . على أن حمل عبارة الأمن على معنى الدفاع وهو المشهور المتقرر بقوة أحكام اللغة والتداول والاصطلاح- ليس مما يجوز فيه الطعن والانكار بداهة في حال الثقافة، لأن في القول بأمن ثقافة بهذا المعنى الدفاعي ما يبرره في عالمنا المعاصر وفي الجاري من تحولاته وتحديات حقائقه الجديدة، وهذا ما سنطرقه سريعاً في الحديث عن الوجه الثاني للمفهوم .

يتصل هذا الوجه الثاني بمعنى دفاعي صرف على نحو ما يكونه أي أمن استراتيجي آخر يدخل في نطاق الأمن القومي . مثلما قد يتعرض أمن بلد لخطر العدوان أو التهديد بالعدوان فيسارع إلى تعبئة قواه العسكرية والسياسية والاقتصادية لرد ذلك العدوان إن وقع أو درء خطر وقوعه إن أوشك أن يحل، قد يتعرض أمن ثقافة ما لخطر الاستباحة والعنف الرمزي من مصدر من مصادر التهديد خارجي فيحمل المجتمع الثقافي على استنفار قواه ودفاعاته الذاتية لصون أمنه ومجاله الرمزي السيادي من خطر العدوان . وكما أن الدفاع عن سيادة الدولة وأمن المجتمع حق مشروع حين يتعرضان للخطر، كذلك الدفاع عن أمن الثقافة حق مشروع حين يراد بها إلحاق الضرر . إذ العلاقة بين الثقافات تنتظمها الديناميات عينها التي تنتظم العلاقة بين المجتمعات، وبين الدول، بعضها البعض: ديناميات التعايش والتجاور والتفاعل الإيجابي والاعتماد المتبادل، ثم ديناميات الصراع والاحتكاك العدواني والصدام . حين تترجح كفة الأولى، تنفتح المجتمعات والدول والثقافات على بعضها من دون هواجس أو تحوطات متوجسة . أما حين يميل الميزان إلى كفة التناقض والصراع، ينكفئ كل منها على نفسه ويتموقع في خندق دفاعي مستنفراً لديه حاسة البقاء والأمن .


"الخليج"

التعليقات