20/11/2009 - 10:44

مخاض الخروج من المأزق../ عوض عبد الفتاح

مخاض الخروج من المأزق../ عوض عبد الفتاح
يستشعر البعض بإرهاصات مرحلة جديدة ربما قد بدأت، هي مرحلة الإستعداد للخروج من المأزق الخانق الذي دخلته الحركة الوطنية الفلسطينية منذ سنوات، ومراجعة مجمل مسيرة التسوية ومسار هذه الحركة الوطنية منذ عقدين من الزمن. ويأمل الكثيرون ممن ملـّوا من التحذير والصراخ ودفعوا ثمنًا باهظًا من هذه المسيرة الكارثية، أن يكون مخاض الإفلات من هذه المرحلة قد بدأ سواء بقي محمود عباس في منصبه أو ترجّل. فالمسألة ليست مرتبطة بشخص، بل بنهج وبطريق.

ورغم كل النقد، الصحيح في غالبه، على نهج الرئيس الفلسطيني الراحل، الشهيد ياسر عرفات، في إدارة الحركة الوطنية الفلسطينية، والإنزلاق إلى مغامرة أوسلو، فإن استحضار موقفه التاريخي في مؤتمر كامب ديفد 2 الذي صمد فيه أمام ضغوط أكبر قوة عالمية، والمهيمنة على النظام العالمي بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وعدم تخليه عن خيارات أخرى حين تقتضي الحاجة، ضروري ومفيد. وذلك لإعادة الإعتبار للموقف الوطني، موقف حركة تحرر وطني، الذي لا يجوز التفريط به أو المساومة عليه مهما كانت الضغوط. وبنظري كان هذا الموقف تكفيرًا عن قبوله الدخول في فخ أوسلو الذي شقّ الساحة الفلسطينية أفقيًا وعاموديًا.

ويذكر أن بعض المحيطين به، والذين استمرت أدوارهم مع رئيس السلطة الفلسطينية الحالي أبو مازن، حمّلوا ياسر عرفات المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع فيما بعد بسبب رفضه العرض الأمريكي-الإسرائيلي الظالم آنذاك. وكما هو معروف فقد جاء أبو مازن مهندس عملية أوسلو ومنظـّرها، كمطلب أمريكي وبتغطية عربية رسمية. وظنّ أن الخضوع للشروط الأمريكية والإسرائيلية في عملية التفاوض أو أن نظرية "المفاوضات والمزيد من المفاوضات" البائسة ستؤدي إلى تحقيق الأهداف الفلسطينية أو بالأحرى بعضها، إذ أن مسألة اللاجئين وعودتهم إلى ديارهم لم تكن ضمن هذه الأهداف.

لقد تغلغلت الدعاية الأمريكية والإسرائيلية في عقول الطبقة السياسية الفلسطينية الحاكمة وعلى رأسها أبو مازن وكأن المقاومة (التي توصف بـ"الإرهاب")، وغياب المؤسسات هو الدافع وراء الرفض الإسرائيلي للحقوق الفلسطينية والمتمثلة بإنهاء المشروع الكولونيالي الإحتلالي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحق العودة. وبالتالي كان على سلطة الحكم الذاتي أن تقبل الوصاية الأمنية الأمريكية وتدريب قوات الأمن الفلسطيني بحيث تكون مهمتها استئصال المقاومة وقلب المعادلة السياسية الطبيعية؛ من مقاومة الإحتلال إلى التعاون معه، مع ما يترتب على ذلك من تدمير منهجي للحركة الوطنية ولقيمها وأخلاقياتها. وهذا السلوك لم تعهده الحركة الوطنية الفلسطينية، وهو سلوك غريب ومشين سياسيًا وأخلاقيًا، بل وصمة عار في تاريخها.

لقد كان التهاون والتساهل الفلسطيني الرسمي مع تنكر الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية لنتائج الإنتخابات التي فازت فيها حماس، جزءً من التجاوب مع الشروط المهينة وغير الوطنية. ولا يجوز النظر إلى عملية الحسم العسكري الذي نفذته حركة حماس عام 2007 والفظاعات التي ارتكبها أفرادها المسلحين بحق العشرات من الكوادر الفتحاوية إلا نتيجة منطقية محزنة للتآمر على المقاومة ونتاج لمسيرة التسوية. فمن يستعين بالعدو على خصمه السياسي يدفع هذا الخصم للدفاع عن نفسه، وقد يرتكب أخطاءً أخلاقية واستراتيجية أثناء عملية الدفاع هذه وبعدها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الخلاف مع حماس كان بداية حول نهج سلطة رام الله قبل أن يتحول إلى صراع على السلطة.

باختصار، إن النهج الذي سار عليه فريق السلطة الحالي، لم يؤدّ إلى فشل وإخفاقات فحسب، بل أدى إلى عملية تخريب واسعة على المستوى السياسي، والإقتصادي، والثقافي والأخلاقي. وليس بالإمكان التعويض عن هذا التخريب إلا عبر اتخاذ سلسلة من الخطوات أولها الإعتراف العلني بفشل هذا النهج، أي نهج المفاوضات بمعزل عن الخيارات الأخرى، ونهج التعاون الأمني الوثيق في ملاحقة المقاومين، مع الأمر الذي لا يستطيع الفلسطيني العادي أن يشرحه ويفسّره ذلك أمام مناصري النضال الفلسطيني العادل على الساحة الدولية.

نقول ذلك لأنّ هناك من انبرى، ومنهم من تحول إلى موظفين تابعين من قادة أحزاب عرب الداخل لدى سلطة أبو مازن، إنبروا يدافعون عن نهجه بأثر رجعي وكأنه لم يتنازل عن شيء.. وكان تراجعه عن فضيحة غولدستون تمت بإرادته وليس بفضل الهبة الشعبية العارمة ضده. ليس لدى أحد موقف شخصي ضد الرئيس والمحيطين به، والجميع كان يرغب بأن يتوقف هذا النهج وحسنًا فعل أبو مازن ما فعله بشرط أن لا تكون ردة فعل. فخطوة صحيحة متأخرة وضرورية وطنيًا، أفضل من لا شيء، كما يقول المثل الشعبي. إن إضفاء الصمود على مواقفه طيلة الفترة الماضية لا تفيد عملية المراجعة أو عملية إطلاق مبادرة وطنية شاملة جديدة.

إن المتفائلين بإمكانية البدء بتطليق هذا النهج يستمدون تفاؤلهم من جملة من التطورات؛ أولاً فضيحة غولدستون؛ سواء فيما يتعلق بتكشف ضعف رئاسة السلطة الفلسطينية أمام الجانب الأمريكي حتى الإدارة الحالية من جانب، ومن جانب آخر إستعادة الحركة الفلسطينية الشعبية لقدرتها على ردع القيادة عن الإيغال في الإنحراف، وما يفتح ذلك من آفاق وآمال لاستنهاض الشارع مجددًا وإعادته إلى مسيرة الكفاح الوطني-الشعبي. أو فيما يتعلق بإمكانية تطور جبهة عالمية ضد إسرائيل التي تدهورت صورتها أمام أصدقائها بصورة غير مسبوقة.
من أجل تحقيق هذا الإنتقال، الضروري والملحّ، لا بدّ من إحداث القطيعة نهائيًا مع النهج الراهن، وأن تستكمل عملية النقد والإدانة له. وتعميم القناعة لدى الطبقة السياسية الفلسطينية التي قادت هذا النهج، أو لدى الشرائح الشعبية التي ضُللت به، بضرورة اعتماد الخيارات الأخرى إلى جانب المفاوضات.

من أجل تحقيق هذا الإنتقال لا بدّ من الخطوات السياسية والفكرية والتنظيمية التالية:

أولاً: إعادة العلاقة بين الشعب الفلسطيني والمشروع الإحتلالي الكولونيالي إلى إطارها الطبيعي: هي علاقة تناقض وصراع رئيسي، أي إعادة الإعتبار لثقافة المقاومة الشعبية.

ثانيًا: وقف نهج الإستقواء بالإحتلال لحسم صراع سياسي داخلي، واعتبار ذلك خطًا أحمر لا يجوز تجاوزه، بل أمرًا محرمًا وطنيًا وأخلاقيًا، مهما وصل حجم الخلافات.

ثالثًا: وقف عملية تفكيك القضية والشعب الفلسطيني وضرورة إعادة ترسيم هذه الوحدة بحيث تشمل قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، والشتات، وعرب الـ48.

رابعًا: إعادة بناء المرجعية الفلسطينية الجامعة وإشراك كافة مركبات وفصائل الحركة الوطنية والشعب الفلسطيني في عملية إعادة بناء هذه المرجعية، بما فيها التيار الوطني بين عرب الداخل.

خامسًا: إعادة الوعي بأن القضية الفلسطينية هي قضية عربية وبضرورة التصرف على هذا الأساس.

سادسًا: بحث الخيارات السياسية الأخرى، مثل الدولة الواحدة بصورة جدية بعيدًا عن التكتيك والمناورة.

تزداد القناعة لدى أبناء الشعب الفلسطيني، بأن السلطة الفلسطينية، تحولت منذ اغتيال ياسر عرفات على يدّ الصهاينة إلى سدٍّ منيعٍ أو حاجزٍ بين شعبنا والإحتلال، لدرجة أن إسرائيليين معارضين للاحتلال وصفوها بأنها مقاول ثانوي للجهاز الأمني الإسرائيلي ووصفها فلسطينيون مؤثرون في الرأي العام بأنها غطاء للاحتلال.

في الواقع لم تكن السلطة حتى في زمن عرفات مؤسسة جذابة للشعب الفلسطيني، بل كانت نظامًا فاشلاً، نخرها الفساد. ولكن الفرق بين نهج الشهيد عرفات ونهج حلفائه، هو في إدارة العملية السياسية مع الإحتلال وفي طريقة التعامل مع حركة المقاومة حماس، إذ لم يسعَ إلى كسر شوكتها، وحافظ عليها كورقة ضغط على إسرائيل، رغم ما سببته له من إحراجات في طريقة وطبيعة وتوقيت عملياتها، خاصة تلك الموجهة إلى المدنيين.

بمعنى آخر، لم يتخلّ عرفات عن ورقة المقاومة إذ كان بحسّه الفطري وتجربته الطويلة يدرك إمكانية فشل خيار المفاوضات السلمية، على أثر استمرار المشروع الإستيطاني المتسارع في القدس والضفة. هذا لا يعني أن تلك الفترة، أي فترته، وحتى بما يتعلق بموقفه من ورقة المقاومة وطريقة إدارته لمقاومة الإحتلال. كانت خالية من الثغرات. وقد ساهمت قيادة حماس في تعميق الأزمة، رغم توجيهها ضربات موجعة للإحتلال. وهي أيضًا تتحمل المسؤولية عن سوء إدارة الصراع والإنتفاضة ضد الإحتلال بسبب الفوضى، وغياب التنسيق، غياب الإستراتيجية الواحدة الموحدة.

إذًا ماذا يحتاج الشعب الفلسطيني عشيّة المرحلة الجديدة المحتملة؟ هل لا زال يحتاج إلى السلطة القائمة وهل كان يحتاجها أصلاً؟ هل يلجأ إلى المطالبة بحلّها؟ وهل لا يستحيل إقامة المرجعية الوطنية السياسية والميدانية بوجود السلطة؟ وهل أصلاً يحتمل الشعب الفلسطيني تبعات حل السلطة بعد أن ارتبط بها في مختلف مجالات حياته؟ هل يحتاج الشعب الفلسطيني إلى انتخابات أصلاً فيما لو حسم أمره باتجاه استراتيجية الجمع بين المقاومة والمفاوضات بصورة صحيحة؟ أسئلة كبيرة ومسؤوليات ثقيلة تطرحها المرحلة الراهنة، لا بدّ من الدفع باتجاه الإجابة عليها. يجب أن يكون حلّ السلطة مطروحًا بصورة جدّية.

الحقيقة أن الجهود النظرية للإجابة عليها لم تتوقف، بين الدوائر الأكاديمية خاصة منذ سنوات، ولكن ما أصبح مطلوبًا هو أن تقوم تلك النخب المقربة من المؤسسة الفسطينية الرسمية في رام الله، يسارًا ويمينًا، بالضغط على هذه السلطة لإعادة تصويب المسار لا الاكتفاء بإصدار الموقف والإجتهادات، كما لا بدّ من أن ينطبق هذا الأمر على النخب المقربة من سلطة حماس وعلى قيادات حماس في قطاع غزة لإعادة النظر في الكثير من سلوكياتها وتوجهاتها.. بحيث تنسجم مع إستراتيجية وطنية شاملة وموحدة.

لا يجوز السماح للفترة الضبابية والغامضة الراهنة الناتجة على مجمل التطورات سالفة الذكر، أن تطول. لا بدّ من إطلاق المبادرات العملية نحو إعادة تجميع شتات الحركة الوطنية الفلسطينية. لن تكون مرحلة سهلة ولن تكون قصيرة وستكون زاخرة بالآلام والعذابات. المسؤولية التاريخية تقتضي أن نضع استراتيجية كفاحية طويلة الأمد تنسجم مع قدرة تحمل الشعب.

التعليقات