تزايدت خلال الأسبوعين الماضيين التصريحات والمواقف الإسرائيلية الداعية للقيام بعملية عسكرية واسعة في قطاع غزة بحجة تفكيك البنى التحتية والحد من وتيرة التسلح التي تقوم بها فصائل المقاومة بوحي وإلهام من تجربة حزب الله الأخيرة خلال حرب لبنان الثانية، حسب زعم المصادر الإسرائيلية خاصة الأمنية منها التي مافتئت تحذر من تحول قطاع غزة إلى لبنان ثاني، ومن أن الوقت ليس في مصلحة إسرائيل التي يجب عليها القيام باجتياح واسع للقطاع في أقرب وقت ممكن.
باستثناء بعض ما تبقى من اليسار الإسرائيلي فثمة إجماع على ضرورة وحتى حتمية القيام بغزو قطاع غزة، بينما يبدو موقف رئيس الوزراء إيهود أولمرت متمايزا بعض الشيء على اعتبار لا يعترض على المبدأ وإنما يتحفظ على أبعاد أخرى لها علاقة أساسا بالأجواء السياسية سواء في فلسطين أو في المنطقة، حيث يؤكد على ضرورة تنسيق وتساوق الخطط مع الحركة الدبلوماسية الغربية في المنطقة والمقصود بالطبع النشاط الدبلوماسي الأمريكي المدعوم والمساند من قبل معظم دول الاتحاد الأوروبي.
بنظر أعمق وبتفصيل أكبر يمكن القول أن اجتياح قطاع غزة لا يبدو أمرا سهلا وتتداخل وتتقاطع فيه أبعاد أمنية وعسكرية وسياسية وحتى نفسية لها علاقة مباشرة بالتطورات الأخيرة سواء فيما يخص الداخل الفلسطيني أو الداخل الإسرائيلي أو الحراك العام في المنطقة والمستجدات والتفاعلات في قضايا مثل العراق ولبنان وسوريا وإيران.
القرار الإسرائيلي بتأجيل اجتياح قطاع غزة يرتبط أو يستند على ما يعتبره إيهود أولمرت لب وجوهر سياسته في الفترة الأخيرة تجاه الملف الفلسطيني وتعقيداته، التواصل المستمر مع الرئيس محمود عباس لإرضاء الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ولإثبات أن إسرائيل لا تقفل الأبواب في وجه التحركات السلمية والمساعي الدبلوماسية لحل الصراع، وفي نفس الوقت مقاطعة حكومة الوحدة الفلسطينية وتحريض المجتمع الدولي وأوروبا أساسا على اتخاذ موقف مماثل، أولمرت يعتقد أن حواره المرحلي مع عباس إضافة إلى التهدئة التي يدعي أنه يلتزم بها في قطاع غزة منذ أواخر تشرين ثاني نوفمبر الماضي تدعم وتنعكس إيجابا على المتطلبات والشروط الإسرائيلية تجاه حكومة الوحدة والسلطة الفلسطينية.
من الممكن توقع أن يغير أولمرت موقفه من اجتياح قطاع غزة إذا ما تواصل التآكل والانهيار التدريجي للحصار المفروض على السلطة الفلسطينية وحكومة الوحدة خاصة من قبل الاتحاد الأوروبي وإذا ما استنفذت لعبة التواصل مع أبي مازن أغراضها بحيث يضج أولمرت مطالبا بموقف جدي من عملية التسوية سواء عبر مفاوضات حول قضايا الوضع النهائي مع الرئيس محمود عباس أو عبر الانخراط في مفاوضات جدية ولو إقليمية ودولية على أساس مبادرة السلام العربية الأمر الذي يزيد من احتمالات الحرب والذهاب باتجاه التصعيد العسكري والميداني في قطاع غزة.
على المستوى العسكري تبدو عقدة أو معضلة لبنان متحكمة في العقلية والذهنية الإسرائيلية العسكرية والسياسية وباتجاهات مختلفة ومتناقضة، فعقدة لبنان تدفع الجيش الإسرائيلي باتجاه العمل السريع في قطاع غزة لاستعادة قدرة الردع واسترداد ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش وعقدة لبنان نفسها تدفع باتجاه التريث وإجراء مزيد من الاستعدادات والتدريبات حتى لا يتكرر مشهد حرب لبنان الثانية حيث عجز الجيش عن تحقيق الانتصار، وفي جميع الأحوال ورغم ضغوط قيادة المنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال المتحمسة جدا لاجتياح القطاع، فإن رئاسة الأركان تدفع باتجاه التريث واستنفاذ كل الاستعدادات والاحتياطات بغرض تحقيق انتصار لا لبس ولا شك فيه كما قال الجنرال كابي اشكنازي أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست.
أمر آخر يدفع باتجاه الحذر وتأجيل اجتياح القطاع قدر المستطاع متعلق بما يوصف إسرائيليا الجبهة الداخلية أي العمق الأمني الإسرائيلي وهنا أيضا تبدو عقدة لبنان متواجدة بشكل أو بآخر فحسب تقرير قدمه الجنرال يوفال ديسكين - مسؤول جهاز الأمن العام الإسرائيلي – أمام الكنيست بأن 200،000 مستوطن إسرائيلي أضحوا في مرمى الصواريخ الفلسطينية وأي حرب قادمة في قطاع غزة ستؤدي حتما إلى إطلاق المقاومة الفلسطينية لصواريخها بشكل يومي وبمدى قد يصل إلى عشرين أو خمسة وعشرين كلم بمعنى أنه يطال معظم المستوطنات والتجمعات السكانية اليهودية المحيطة بقطاع غزة، ديسكين أشار إلى خطوة يجري العمل عليها لتحصين أكبر عدد ممكن من المؤسسات الحيوية وتجهيز أكبر عدد ممكن من الملاجئ وإجراء التدريبات الهادفة إلى إخلاء نسبة كبيرة من المستوطنين في حالة احتدام المعارك واستمرار سقوط الصواريخ، هذه الخطوات والسيناريوهات تحتاج إلى وقت وجهد وأموال تصل في مجملها إلى مليار ونصف شيكل تقريبا أي حوالي 400 مليون دولار ومن الصعوبة بمكان تصور قيام إسرائيل بعدوان واجتياح واسع لقطاع غزة قبل اكتمال الاستعداد والتجهيزات السالفة الذكر الخاصة بالجبهة الداخلية بحيث لا يتكرر سيناريو حرب لبنان مرة أخرى ولكن في المستوطنات والتجمعات السكانية في جنوب فلسطين المحتلة.
ثمة أبعاد وسياقات أخرى خارجية تؤثر على القرار الإسرائيلي باجتياح قطاع غزة وتتعلق طبعا بالتطورات الإقليمية وتحديدا بالسياسات والاتجاهات الأمريكية وهل ستذهب باتجاه الحل العسكري مع إيران بينما توكل أمر غزة ولبنان وسوريا لإسرائيل أم أن الدبلوماسية ستتغلب في نهاية الأمر وتضطر الإدارة الأمريكية مرغمة تحت وطأة الضغوط الداخلية الجادة إلى تنفيذ جوهر تقرير بيكر هاملتون أي الحوار المفتوح غير المشروط مع إيران وسوريا حول مجمل الملفات والمشاكل الإقليمية العالقة مع العلم أن ثمة تشكيك أمريكي وحتى إسرائيلي داخلي في قدرة الجيش الإسرائيلي على القيام بنصيبه والتنفيذ الدقيق والنجاح لأي مهام توكل إليه ضمن سياق تصعيد أمريكي شامل في المنطقة.
يوفال شتانيتس أحد قادة حزب الليكود والرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن في الكنيست والذي يكاد يتحول إلى مفكر استراتيجي في ظل حالة القحط والجرب التي تجتاح الساحة السياسية والحزبية الإسرائيلية يدفع باتجاه اجتياح قطاع غزة ولكن بعد استنفاذ عدة خطوات أهمها تصعيد الضغوط على مصر لوقف ما يصفه سيل السلاح المتدفق على قطاع غزة وفي حالة عدم تحقيق هذا الأمر لا بد من احتلال محور صلاح الدين الفاصل بين قطاع غزة ومصر لتدمير كل الأنفاق وتجفيف المنابع اللوجستية للمقاومة وفقط بعد ذلك يمكن الذهاب باتجاه احتلال كامل لقطاع غزة لأسابيع عدة يتم فيها تفكيك البنى التحتية للمقاومة وإعادتها إلى نقطة الصفر حسب تعبير شتانيتس.
في جميع الأحوال فإن اجتياح قطاع غزة قد يكون بات فعلا مسألة وقت إلا أن هذا الوقت قد يطول في ضوء المعطيات المحلية والإقليمية والدولية السالفة الذكر والأهم من ذلك أن الساحة السياسية الإسرائيلية لا تبدو مؤهلة أو قادرة على اتخاذ قرار كبير ومهم ومفصلي مثل اجتياح القطاع حيث يبدو الكل في انتظار تقرير فينوغراد الذي قد يؤدي إلى زلزال هائل في إسرائيل وإحدى تداعيات هذا الزلزال قد تكون تنفيذ عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة إنما ليس في المدى حيث أن أي قرار كهذا سيوصف بأنه محاولة للوقوف في وجه الزلزال وليس تعبير أو ترجمة لإحدى تداعياته وارتداداته.
التعليقات