بين التعددية السياسية والفسيفسائية السياسية بون لا يقبل الجسر. ليست الثانية امتداداً للأولى أو حالة من حالاتها، كما يوحي الرافلون في نعيم الشتات الحزبي، وإنما هي نقض للتعددية وتزوير فاضح لمعناها. ففيما تعني التعددية ترجمة سياسية لحق ديمقراطي ودستوري في الدولة الحديثة هو حق تشكيل الجمعيات السياسية للتعبير عن مصالح وخيارات وبرامج لدى مجموعات اجتماعية متباينة، تقود الفسيفسائية السياسية إلى تجويف هذا الحق وحرفه عن معناه، وتذرير Atomisation التمثيل الاجتماعي والسياسي، وإسقاط معنى السياسة وابتذال مفهوم المصلحة. وهكذا نجدنا أمام مشهدين على طرفي نقيض: في المشهد الأول تنشأ أحزاب سياسية ذات تمثيل أصيل فيترجم وجودها معنى التعددية. أما في المشهد الثاني فتكون النتيجة أن غبار الفسيفسائية ينقشع عن دكاكين سياسية يجرى تفريخها من دون أن تحبل بها طبقات أو تعيش تجربة وحم ومخاض ولادة.
لا يتحسس قيمة التعددية السياسية إلا المجتمعات التي نكبت في حرياتها العامة وعانت من نظام الحزب الواحد أو من النظم التي تصادر السياسة جملة وتفصيلاً. في المقابل، لا يدرك فداحة ما تقود إليه الفسيفسائية السياسية إلا المجتمعات التي ابتليت بهذه البلية، فانتشرت في نسيجها الأحزاب بالعشرات مثل انتشار الطفيليات والطحالب والفطر. في المجتمعات الأولى، تتوق الشعوب إلى الحرية والخلاص ممن يقيدون حقها في التعبير والتمثيل والتنظيم، وتصبح السياسة نعيماً يستحق التضحية والافتداء بالنفس من أجله، فهي على الأقل الباب الذي منه تلج الشعوب إلى التعبير عن تطلعاتها، أو إلى تغيير شروط حياتها. أما في المجتمعات الثانية، فلا يكون من توق إلى شيء سوى التخلص من السياسة بوصفها قرينة على الكذب والفهلوة ونكث العهود والمتاجرة بقضايا الناس والاغتناء من وراء معاناتهم. لا عجب إذن إن كان المواطنون يتدفقون بالملايين على صناديق الاقتراع في مجتمعات التعددية السياسية، بينما يحجمون عن ذلك ويضربون عن الاقتراع في مجتمعات الفسيفسائية السياسية تاركين لوزارات الداخلية وحواسيبها أمر النيابة عنهم في “التصويت”.
ما أغنانا عن القول إن التعددية السياسية لحظة تقدمية في تاريخ السياسة في أي مجتمع، ومنعطف في التراكم المدني فيه. ومأتى تقدميتها من كونها تطيح بظاهرة بغيضة في التاريخ السياسي هي ظاهرة احتكار السياسة (رديف احتكار السلطة ومصبه ومنتهاه) واحتكار التمثيل السياسي من قبل فريق اجتماعي واحد وحزب سياسي واحد. وهي إذ تطيح بالظاهرة (البغيضة) تلك، تعيد توزيع السياسة توزيعاً اجتماعياً بما هي ملكية جماعية وحق عمومي وليس كما يريدها فريق في المجتمع والدولة ملكية خاصة وحقاً حصرياً لجماعة أو نخبة من دون سواها. ولذلك ما كفّ الديمقراطيون يوماً عن النظر إلى التعددية السياسية بحسبانها معيار التفرقة بين الدولة الحديثة والدولة التقليدية المتمسحة بالحداثة. ففي هذه الأخيرة قد ينشأ من الأحزاب ما يفيض عن الحاجة عدداً. لكنها على “تعددها” قد لا تكون أكثر من طبعات مختلفة لحزب واحد أحد. وهكذا تجري سرقة السياسة كحق عام ومركزتها في يد نخبة تتناسخ من بعضها و”تتعدد” حزبياً وهي واحدة في المنشأ والهوى. ومن النافل القول إن هذه ليست تعددية بالمعنى الحقيقي والدقيق، لأن أساس التعددية الاختلاف في الخيارات والرؤى لا في الأدوات والمؤسسات. وتلك أيضاً واحدة من القرائن على الفروق بين التعددية والفسيفسائية.
إذا كانت التعددية بهذا المعنى وهي قطعاً بهذا المعنى فإن أمر الفسيفسائية عنها مختلف ومباين أشد ما تكون المباينة. إنها عودة بالسياسة إلى ما قبل لحظة التعددية وإن اتخذت (أي الفسيفسائية) شكل “تعددية”. إن حملها التعددية على معنى تذريري وتفتيتي يدهور معنى السياسة ويطيح بهذه كفاعلية اجتماعية موضوعية آخذاً إياها إلى حدود يختلط فيها معنى السياسة بالتجارة والاستثمار. إن الفسيفسائية إذ تمزق علاقات التمثيل الاجتماعي، وتزور معنى التمثيل، تحوّل الأحزاب إلى مقاولات سياسية مصروفة للاستثمار وتعظيم الأرباح. والفسيفسائية بهذا المعنى أسوأ حالاً من نظام الحزب الواحد وأدعى إلى المخافة منه لأنها تصطنع لها جمهوراً من الجاهزين للتلاعب بكل شيء! وإذا كان من رذائل الحزب الواحد أنه يحوّل السياسة إلى عقيدة، فمن أرذل رذائل الفسيفسائية أنها تحوّل الانتهازية إلى عقيدة.
من ليس يصدق أن الفسيفسائية السياسية تحوّل الأحزاب إلى مقاولات سياسية يتوسل بها قصد تحصيل السلطة بالمعنى المبتذل والمال، فيلتأمل هذه الظاهرة التي باتت تتكرر على نحو متواتر لتتحول إلى ما يشبه القانون: يتزايد عدد الأحزاب عند كل “استحقاق” انتخابي. كأن تفقيس هذا البيض السياسي لا يجري إلا في الموسم الطبيعي الذي ينضج فيه تكوين الفراخ السياسية الجديدة، أي موسم الانتخابات! هذا مثلاً ما يجري في المغرب منذ ثلاثين عاماً ولما يزل أمره كما كان! لماذا لا تنشأ هذه الأحزاب في الظروف والأحوال العادية: حين لا تكون في الأفق انتخابات؟ أليست السياسة شغل السياسيين على مدار الساعة وفي كل وقت وحين أو هكذا يفترض أن تكون؟ أما كان أنسب لصورتها أن تولد بعيداً عن شبهة مواعيد الانتخابات حتى تنفي عن نفسها على الأقل دافعيتها الانتخابية؟
وبعكس الفسيفسائية السياسية التي ليس لها ما يبررها في المجتمع والسياسة، فإن للتعددية ما يبررها ويفرض شرعيتها. وأول ما يبررها التكوين الاجتماعي للمجتمع حيث توزّع الناس على مراتب وطبقات متباينة من أبده ظواهر المجتمع الحديث، وحيث مباينة بعضها لبعض في المصالح والمقدرات مما يؤسس لاختلاف بينها في النظر إلى تلك المصالح وإلى سبل الدفاع عنها أو تعظيمها أو إدارتها وما في معنى ذلك. وهي جميعها مما يبعث على تنوع في التعبير السياسي عن تلك المصالح، أي أيضاً على تنوع في الوسائل التنظيمية (الحزبية) التي تقدم أطراً لذلك التعبير. ثم إن مما يبررها ثانياً الاختلاف بين الأفكار والأمزجة السياسية والأيديولوجيات والمرجعيات. وهو بمقدار اتصاله شديد اتصال بذلك التباين في المصالح الذي أومأنا إليه، بمقدار انفصاله النسبي عن الاجتماعي والطبقي وارتباطه بالحيّز الرحب للأفكار والرؤى العابرة أو التي قد تكون عابرة لحدود الفئات والطبقات. فما كل طبقة تطابقها أيديولوجيا سياسية على نحو ما يفترض بعض المتمركسة، وما كل أيديولوجيا تستدعي حزباً يمثلها ويحتكرها على نحو ما يفهم ذلك بعض المبتدئين في مدرسة الشمولية. إن العلاقة بين الاجتماعي والأيديولوجي أعقد من هذا التبسيط. ولكن ذلك ليس موضوعنا. ما يعنينا هو أن التعددية السياسية ظاهرة طبيعية في مجتمع متعدد الفئات والطبقات ومتعدد المرجعيات والأيديولوجيات.
أما الفسيفسائية، فليس على شرعيتها دليل إن لم تكن هي بحد ذاتها تقيم دليلاً على لا شرعيتها. إذ ليس في مجتمع من مجتمعات الأرض ثلاثون طبقة اجتماعية وثلاثون أيديولوجيا ومرجعية تبرر قيام ثلاثين حزباً. لكن في بلادنا ثلاثين حزباً. عفواً، أكثر من ذلك بقليل.
"الخليج"
التعليقات