القرف يحتوي كل شيء، يمشي متباطئاً ويهرول مسرعاً ويلف ويدور داخل اللحظة وخارجها، تتأمل، أن كنت لست خارجاً عن ذاتك، وتطيل التأمل، يشكل القرف غيوماً كثيفة وغلالات داكنة تحيط بالغلاف... تختنق، تحاول أن تفعل شيئاً للخروج من موسم الشلل هذا... فأنت محاصر، محاصر، محاصر، هكذا تقول اللغة، وهكذا تقول السياسة، وهكذا ينطق الواقع!
تتربع النحاسة والتعاسة! تهجم البشاعة عليك، والقبح يتمشى في الطرقات والسراديب والأزقة، والحواري بل في الأجواء والآراء!... فالقبح يزاحم القبح على كل قارعة طريق!
تتقطع الطرقات، وتتقاطع الأحداث، وتنقطع الأفكار، يفرنقع كل شيء! والناس في دوار، أسكارى هم؟! وما هم بسكارى! لكن تلاحق الأزمات، وانسداد الأفق، وضياع الرؤى، وفوضى حالة التيه والتوهان، وتجمد الزمن وسكونه وسكوته في أسوأ لحظاته وأكثرها شناعة وبشاعة وقبحاً أثقل كاهلهم وأناخ حيلهم وأفقدهم حيلتهم وحيلهم!
أحاديث المدينة، وأحاديث القرية، وأحاديث المخيم، وأحاديث الشارع تدور في نفس الحلقة المفرغة!
اللغة فقدت قدرتها عن التعبير عن اللحظة الراهنة الواجمة! طال الجمود كل شيء وأصبح الكلام نفسه تكرار لقوالب يرددها الناس في كل المناسبات لأن القرف لم يترك شيئاً إلا وأصابه في الصميم! الأشياء مقلوبة، والقيم مضروبة، والمعايير مبتورة، والأخلاق منحورة والحياة مقهورة! كل ما يلوح في الأفق، أو يبدو على السطح أو يغوص في العمق، لا يحمل لنا سوى الكثير الكثير من القهر، والعديد العديد من السياط والأسواط! والخليط الخليط من الأصوات المبتسرة وهمهماتها المنقطعة! كأن كل شيء يترصدنا ويرصدنا! يحبسون عنا الهواء.. ويلوثون الأكسجين فلا أحد يكترث!
ويمنعون عنا حبة الأسبرين فلا أحد يلتفت وتستغيث النساء من علة الزمن وسطوة الواقع فلا من يغاث ولا من يغيث! لا أحد يسمع ويموت أطفالنا بين أيدينا فلا يشعر بهم أحد نموت، نموت، نموت، وينفجر الموت في داخلنا ومن أمامنا، ومن خلفنا وفي كل الاتجاهات، ويتناوب علينا الموت الزؤام والموت الحمام وغيرنا من قومنا في غيهم سادرون! أنواع الأمراض والعلل وأنواع القهر توزع نفسها على البيوت والأسر، ولا ينجو منها طفل أو امرأة أو شاب أو شيخ وتتناول الأمراض الإنسان والحيوان وتتناوب عليهما إنها حالة من التساكن!
يطبق الحصار على غزة من أركان الدنيا الأربع، يساهم فيه الصديق بحماسة دونها حماسة العدو!
أبناء عروبتنا الممتدة من الماء إلى الماء، هل هم حقاً أبناء عروبة أم أبناء غروبة وغرابة يزفر طفل في سويعات موته الأخيرة يقولها ويلفظ أنفاسه... وينتهي.. يرحل! كل شيء، ممنوع وكل شيء مصادر من حياتنا إلا الموت الذي يتربع في المكان ويبرطع على غير هدى!... غزة تحولت إلى مقبرة بل إلى مجموعة مقابر، وعواصمهم! عواصم أبناء جلدتنا، تحولت إلى ملاه ليليه ونوادٍ للقمار، لكل من هب ودب من أصحاب السحنة الشقراء من بني يغرب وبني يخرب.
يسأل شيخ دين في هذه الديار الصامدة بكم دولار يبيع شيخ النفط برميل النفط اليوم؟
- قفز إلى 143 دولار وربما أكثر.
- يسأل الشيخ مندهشاً.
كم برميل نفط تبيع مثلاً دولة بعرستان في اليوم؟
- أكثر من عشر ملايين هذا المعلن! ولا أحد يدري الرقم الحقيقي، أي أن دخلها في اليوم الواحد يبلغ أكثر من مليار ونصف المليار من الدولارات!!
- يسأل مبهوراً، وما نصيب القدس، مدينة الله يا سادتي من نفط العرب كي تحفظ وتحافظ على قدسيتها وهويتها وعروبتها نعم نعم عروبتها، عروبتها، أتسمعونني عروبتها!
-
يصمتون صمت القبور... فالحسناوات أو الحسان قد أتممن للتو إعداد موائد القمار وجهزنها تجهيزاً للاعبين المنشغلين بأمرهم! من حكام بعرستان، ودليلستان، ونعجستان وجروستان وجحشستان وقمعستان وعسكرستان وكذبستان!
يشتد، يشتد الحصار على غزة، ويتواصل الهلاك، تكثر وتتكاثر بيوت العزاء ومع كل عزاء يفتتحون هم أنفسهم ملهى ليليا جديدا أو نادي قمار حسب المواصفات والأصول والتقنيات الحديثة، أو فضائية ماجنة تعبث بالقلوب والعقول... زيادة في القهر والحصار بل والانهيار الإنهيار!
اللغة العفنة، اللغة النتنة تنسل من كل مكان ومن كل حدب وصوب، من كل إذاعة أو فضائيه، من كل وسيله مقروءة أو مسموعة أو مهموسة!... لا يرسلون من دعم سوى برقيات الترحم ورسائل العزاء وتقبل الموت بطيب خاطر، وهم هناك في ملاهيهم يلهون وفي نواديهم يلعبون ويقامرون، يقامرون بكل شيء بالقيم والأخلاق والمبادئ، بل بأقوات الناس والشعوب أيضاً ! في آذانهم وقرفهم لا يسمعون، وفي عيونهم غشاوة فهم لا يرون، وفي قلوبهم مرض فهم لا يفقهون، والناس هنا يموتون يموتون، يموتون...
يموتون موتاً إسرائيلياً، وموتاً عربياً وموتاً أمريكياً وموتاً أجنبياً وموتاً موتياً! فغزة هي الجزء المنسي من العالم ربما تكون زائدة عن الحاجة لكثرة مشاغبتها! هكذا يزعمون.
سمع شكواها ونجواها كل العالم، والدنيا من أقصاها إلى أقصاها، إلا بني يعرب من أعراب متأمركة يستحي الشيطان من أفعالها! آسف بني يغرب وآل غروبة! وآل غرابة! لم يسمعوا أناتها كما لم يسمعوا نداء القدس وشكواها أو نجواها! هم عنها وعنا غافلون سادرون في غيهم ومجونهم وجنونهم، حتى اللغة العربية يتحدثونها برطانة أمريكية أو بلكنة عبرية! هل هو زمن الانحطاط العربي يصرخ مقهور؟ بل هو زمن انحطاط الأنظمة العشائرية والأسرية الجاهلية يرد أحدهم بقرف الغاضب!
هذا زمن أبو جهل، وأبو لهب وأبو ذنب ( من هو أبو ذنب) بل أبو رغال يقول أحدهم! تصرخ ثكلى أنه زمن يهودا الأسخريوطي! الذي يجسوس في الديار ويتحكم في القرار وأصحاب القرار والذي يمسك برقاب حكامنا على مساحة الوطن العربي وهم عن طيب خاطر راضون! أنه يتحكم في نفطنا وحياتنا وقرارنا من ألفه إلى يائه!
لقد باعونا هؤلاء الحكام بثمن بخس لكل مشترٍ لئيم كما باع يهودا الأسخريوطي المسيح عليه السلام في لحظة الخيانة الكبرى.
ثم في نهاية الكلام وفي أحلاه وأحكمه!
هل من زلزال ؟!
هل من تسونامي يجرف كل شيء ؟!
ومن الموت تخلق الحياة.
بل من الموت تبدع الحياة!
التعليقات