المكان: مدينة هرتسليا، إلى الشمال من تل أبيب. الزمان: الـ23 من شهر تموز (يوليو) من العام 2009. المناسبة: السفير المصري في الدولة العبرية، السيّد ياسر رضا، يحيي ذكرى ثورة الضباط الأحرار، التي قادها الزعيم الخالد، جمال عبد الناصر في مثل هذا اليوم من العام 1952. المدعوون: السفراء ورجال الأعمال ونواب من الكنيست الإسرائيلي وآخرون. ضيف الشرف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
صحيفة (معاريف) الإسرائيلية قالت في عددها الصادر الخميس (23.07.09)، نقلاً عن مصادر عالية المستوى في ديوان رئيس الوزراء، إنّ العادة جرت أن يقوم رئيس الدولة العبرية بالمشاركة في ما أسمته العيد الوطني المصري، ولكن هذه السنة قرر نتنياهو أن يشارك هو في هذا الاحتفال، بدلاً من الثعلب الأبدي، رئيس الدولة شيمعون بيريس، ولماذا؟ تؤكد المصادر عينها أنّ رئيس الوزراء يعتبر هذه الخطوة بمثابة بادرة حسن نية تجاه الرئيس المصري، محمد حسني مبارك، الذي استقبله قبل فترة وجيزة في شرم الشيخ، مضيفةً أنّ نتنياهو اتفق مع الرئيس المصري على تشكيل محور سياسي دولي، لكي يُشكّل هذا المحور بديلاً لمحور الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، ولكي لا تبقى مبادرات أول رئيس أسود في البيت الأبيض وحيدة في المنطقة، أي أنّ الحلف الإسرائيلي-المصري، وفق المصادر عينها، سيعمل على طرح مبادرات لإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط.
للأسف الشديد، فإنّ المصادر الإسرائيلية لم تُفصح عن تفاصيل مبادرة نتنياهو- مبارك، خصوصاً وأنّ التوتر بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية تأجج في الفترة الأخيرة على خلفية تحدي نتنياهو لأوباما ورفضه القاطع لتجميد الاستيطان في القدس المحتلة وفي الضفة الغربية المحررة من احتلال حركة حماس.
ومع أنّنا غير ضالعين في علم الغيب، إلا أنّه يمكن القول إنّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يتقلّب في قبره، فالثورة التي أطلقها لطرد الملكية المتعفنة في مصر، يتم أحياء ذكراها في تل أبيب، بمشاركة أشد المتطرفين الصهاينة، أي نتنياهو، الذي علّمه والده بأنّه لا وجود لشعب اسمه الشعب الفلسطيني، والوالد، البروفيسور بن تسيون نتنياهو، قال قبل عدّة أسابيع للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي إنّه لا يوجد شعب فلسطيني، وأنّ نجله بنيامين، لا يؤمن بإقامة دولة فلسطينية، الأمر الذي أثار حفيظة رئيس الوزراء الإسرائيلي، ودفعه إلى إصدار بيان رسمي يتهم فيه القناة الثانية بأنّها استغلت تقدم والده في السن لإجراء المقابلة الصحافية، بدل أن يرد على أقوال والده ويقول بفم مليء إنّه لا يوافق على هذه الأقوال، وأنّه يريد إن تقوم دولة فلسطينية.
ومن المعروف في جميع الأوساط أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ماهر جداً في الألاعيب والمناورات الإعلامية، ولا هذا المكان ولا الزمان لإحصاء عدد التصريحات غير الصادقة، إن لم نقل الكاذبة، التي أطلقها نتنياهو، ولكن لا ضير في أن نذكر كذبته الأخيرة بأنّه مسموح لليهود أن يسكنوا في القدس الشرقية المحتلة، كما هو مسموح للفلسطينيين أن يسكنوا في حي "هار حوما"، وهو الحي الذي أقيم على جبل أبو غنيم الفلسطيني، بعد سلبه ونهبه من قبل الدولة العبرية في إطار سياستها لفرض الحقائق على الأرض وعزل القدس بجزأيها، الغربي والشرقي، عن محيطها الفلسطيني، لأنّ القدس الموحدة، وفق الإجماع الإسرائيلي، هي العاصمة الأبدية لإسرائيل ولا مجال للنقاش في هذا الموضوع. الفلسطينيون ممنوعون من السكن في هذا الحي، لأنّه لليهود فقط (هآرتس العبرية 22.07.09).
الفرق بين الثورة التي قادها عبد الناصر والضباط الأحرار وبين "الثورة" التي يقودها الرئيس المصري، حسني مبارك، الذي وصل إلى الحكم بعد اغتيال أنور السادات في العام 1982، كبير وشاسع، فعبد الناصر حرّر مصر من الملكية، ومبارك يعمل بكل ما أوتي من قوة على إعادة الملكية ولكن بصورة عصرية يمكن تسميتها بالخلافية. فوفق جميع المؤشرات والدلائل فإنّه يعمل على تحضير الشعب المصري العظيم، الذي ضحى من أجل القضية الفلسطينية بالكثير، لعملية التوريث، بحيث أنّ نجل الرئيس، جمال، سيحل مكان والده في رئاسة الجمهورية. وهذا الأمر ليس غريباً بالمرّة على الأنظمة العربية، فأمير البحرين، ابتكر أسلوباً جديداً في التوريث، إذ أنّه انقلب على نفسه، فنام أميراً، واستفاق ملكاً، وهكذا تحوّلت البحرين إلى مملكة، يطالب فيها ولي العهد بالتطبيع الإعلامي مع إسرائيل، عبر مقال نشره في صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية، الأسبوع الماضي، والأنكى من ذلك، أنّ سفير تل أبيب الأسبق في واشنطن ومن أقطاب حزب الليكود، زلمان شوفال، نشر يوم الأربعاء من هذا الأسبوع مقالاً في صحيفة (يسرائيل هيوم) اليمينية اتهم فيه ولي العهد بأنّه ليس صادقاً، وعليه أولاً أن يعمل على نبذ اللا سامية والمعاداة للدولة العبرية في الوطن العربي، قبل طلب التطبيع.
وعودة إلى نتنياهو، من المعروف أنّ الحكومة الإسرائيلية باتت منبوذة في العالم بسبب مواقفها المتطرفة، والجميع يذكرون أنّه قبل عدة أسابيع خلال زيارة نتنياهو إلى عاصمة الأضواء، باريس، طلب منه الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، وهو ليس محسوباً على مؤيدي العرب، أن يقيل وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، بسبب مواقفه المعادية للعرب وشبّهه بالفاشي الفرنسي، جان ماري لابين، ولكنّ الرئيس المصري استقبله في مصر، واستقبل أيضاً رئيس الدولة، شيمعون بيريس، جزّار قانا، ووزير الأمن، ايهود باراك، وعدد الجرائم التي نفذّها لا تعد ولا تحصى، ولم نسمع منه كلمة لا سرية ولا علانية عن وزير الخارجية ليبرمان، الذي نعته بألفاظ بذيئة وهدد مصر بقصف السد العالي، بل أكثر من ذلك، عندما قام وزير المخابرات المصري، الجنرال عمر سليمان، بزيارة إلى إسرائيل، عقد اجتماعاً مع ليبرمان.
عبد الناصر، قاد الأمّة العربية من المحيط إلى الخليج، وفعل الكثير من أجل قضية العرب الأولى، قضية فلسطين، أما النظام الحاكم اليوم فهو الذي وقّّع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وبدل أن تكون سيناء "المحررة" من الاحتلال الإسرائيلي، باتت محتلة من قبل قوات متعددة الجنسيات، ومُنعت مصر، بحسب اتفاقية (كامب ديفيد) من إدخال جنود إلى شبه جزيرة سيناء. واليوم تحوّلت القضية الفلسطينية من وجهة النظر المصرية، إلى قضية تحرير جندي إسرائيلي مأسور لدى المقاومة الفلسطينية، ومحاولات متعثرة لإصلاح ذات البين بين حركتي فتح وحماس، ناهيك عن أنّ معبر رفح، المنفذ الوحيد للشعب المحاصر والمجوّع في قطاع غزة، ما زال مغلقاً من قبل السلطات المصرية، الذي لا تفتحه إلا لماماً.
الرئيس الراحل عبد الناصر أسس وقاد منظمة دول عدم الانحياز، وفرض الأجندة العربية القومية على المنظمة، أما مصر اليوم فهي تقف على رأس معسكر الدول المصنفة أمريكاً وإسرائيلياً بمحور الاعتدال.
الرئيس عبد الناصر أمّم قناة السويس، ودفع الثمن غالياً عندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي من قبل إسرائيل وفرنسا وبريطانيا في العام 1956، أما النظام الحالي فبات يسمح للغواصات الإسرائيلية والسفن الحربية بالمرور من قناة السويس، لتقول المصادر الإسرائيلية، بعد العبور، إنّ هذه الخطوة كانت بالتنسيق مع مصر، وهي بمثابة رسالة موجهة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنّ الدولة العبرية قادرة على تدمير البرنامج النووي الإيراني عن طريق البحر، ولا حاجة للقول إنّ السلطات المصرية لا تنفي هذه الأنباء.
أما عن الاقتصاد فحدّث ولا حرج، فعبد الناصر فرض الاقتصاد الاشتراكي، ودعم الطبقات الضعيفة والفلاحين، أما اليوم فإنّ الاقتصاد المصري بات هشاً للغاية، بعد أن قرر الرئيس السادات في العام 1975 انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي، بمعنى آخر، السماح للإمبريالية العالمية، التي كانت تكن العداء لعبد الناصر بالدخول إلى مصر من أوسع الأبواب، وباتت مصر، أم الدنيا، تعتمد على المساعدات والمعونات الأمريكية الشحيحة، مقابل ما تحصل عليه الحبيبة الربيبة لأمريكا، أي إسرائيل.
ودارت الأيام، ومرت الأيام، والمعذرة من الراحلة كوكب الشرق، أم كلثوم التي غنّت لعبد الناصر وثورة الضباط الأحرار، وها نحن بتنا على مسافة ثلاثة عقود من اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، التي أخرجت نهائياً هذه الدولة العظيمة من قيادة محور المواجهة أو الممانعة أو المقاومة، وحوّلت مقولة عبد الناصر "ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة"، إلى مقولة فارغة من المضمون، واستبدلت بـ"إحنا مش عاوزين نحارب، اللي بعاوز يحارب، يحارب".
كل ثورة والأمّة العربية بألف ألف خير.
التعليقات