06/05/2019 - 17:21

غزة: إخضاع الحياة لقوّة الموت

توجهات سياسية عديدة ضمنها نتنياهو في عدوانه الأخير، إذ ضمن من خلاله المحافظة على إدامة الانقسام الفلسطيني وفصل غزة عن الضفة المحتلة، وهو ما عبر عنه صراحة خلال حملته الانتخابية الأخيرة بقوله إن الانقسام خدمة كبيرة لإسرائيل

غزة: إخضاع الحياة لقوّة الموت

(أ ب أ)

اختلف التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ليس من حيث القوة المستخدمة أو بنك الأهداف المعلن، وإنما من حيث توظيفه، وذلك لأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، المنتشي بولاية خامسة في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة؛ يحتاج إلى تشكيل ائتلاف حكومي يضمن له استقرارا في الحكم حتى نهاية ولايته، دون تجاذبات سياسية بين أطرافه قد تُساهم في الذهاب إلى انتخابات مبكرة مثلما حدث في المرة الأخيرة.

يتطلَّع نتنياهو إلى أن يُظهر لشركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، عزمه وقدرته على لجم غزة، وهو الشرط الذي أعلنه ليبرمان للموافقة على دخول كتلته للمشاركة في الائتلاف الحكومي، إذ اشترط تغييرا في سياسة

المُحلّل السياسي طلال أبو ركبة

التعامل مع غزة، كما رفض تفاهمات التهدئة قبل الأخيرة مع غزة، والتي جاءت تحت الرعاية المصرية لإنهاء التصعيد الإسرائيلي مع الفصائل الفلسطينية في القطاع، والتي استقال ليبرمان من الحكومة السابقة على خلفيتها. ولذلك أتى آخر عدوان على القطاع، كما أن في إيعاز المجلس العسكري والسياسي الإسرائيليّ المصغّر، والذي ترأسه نتنياهو، بتكثيف الضربات على غزة؛ رسالة ضمنية من قِبل نتنياهو تفتح الباب أمام ليبرمان وكتلته للمشاركة في الائتلاف الحكومي.

من ناحية أخرى، رغب نتنياهو أن يُظهر فشل الإستراتيجية العسكرية في التعامل مع أزمات قطاع غزة ومشاكله الدائمة، وهو ما يعني ضرورة اجتراح وسائل أخرى غير عسكرية، تمكنه من إحكام قبضته على التوجهات السياسية للحكومة القادمة في التعامل مع القطاع، وتمكنه من جلب الهدوء لمستوطنات "غلاف غزة".

توجهات سياسية عديدة ضمنها نتنياهو في عدوانه الأخير، إذ ضمن من خلاله المحافظة على إدامة الانقسام الفلسطيني وفصل غزة عن الضفة المحتلة، وهو ما عبر عنه صراحة خلال حملته الانتخابية الأخيرة بقوله إن الانقسام خدمة كبيرة لإسرائيل، سيحافظ على إدامتها، ولن يعيد القطاع إلى حضن السلطة مهما كان الثمن.

وبعيدا عن لغة الانقسام الفصائلي الفلسطيني، فإنه من صالح إسرائيل، بقاء حماس في حكم غزة، كما أنه من صالحها المحافظة على حكم السلطة في الضفة الغربية، ولكن بشرط أن يكون كل طرف على شفا الهاوية، وغير قادر على تجاوز محنته، والنهوض بذاته. وبذلك يكون نتنياهو قد حقق مراده في إدامة احتلاله دون أن يتحمل مسئوليته. هناك قوى محلية في الأفق تتحمل المسؤولية بدلا عن نتنياهو في الوقت يتفرغ فيه هو لسياساته وعلاقاته التوسيعية التطبيعية مع الدول العربية، دونما عائق اسمه القضية الفلسطينية.

رؤية نتنياهو في التعامل مع غزة تنطلق من ضرورة إدامة الحالة في غزة على شفا الهاوية، فهو لا يريد أن يوهب حماس وفصائل المقاومة نصرا. وفي الوقت نفسه، لا يريد إلحاق هزيمة عسكرية مباشرة بهم. أي إن مبتغاه الأساسي هو الحفاظ على استقرار بارد يتحكم به ويستخدمه كورقة رابحة أمام العالم في هروبه الدائم من استحقاقات احتلاله للأرض الفلسطينية، خصوصا وأن العالم يُبدي تفهما كبيرا لـ"الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية".

ما بحث عنه نتنياهو هو قبول فلسطيني بالهزيمة والاعتراف بالنصر الإسرائيلي والالتزام به، والذي أطلق عليه سابقا، المؤرخ الأميركي الصهيوني، دانييل بايبس؛ "تجمع النصر" المصمم لإنهاء النزاع، وهو ذلك التجمع الذي لن يأتي إلا عبر سياسة إخضاع الحياة لقوة الموت، وهي السياسة التي تنتهجها إسرائيل مع غزة وبقية الأراضي المحتلة منذ عام 2005، إذ تعمل من خلال استخدام القوة التدميرية المفرطة في عدوانها وسلسلة من الإجراءات "التأديبية" المتعددة، إلى إلحاق أقصى قدر من الإبادة والتدمير للحجر والبشر، وخلق عوالم موت تجعل الهزيمة الداخلية حقيقة ومسلمًا بها بالنسبة للفلسطينيين.

انتهت موجة التصعيد الأخيرة كما انتهت سابقاتها، لكنها لن تكون الأخيرة، إذ سيلجأ نتنياهو من جديد إلى التصعيد على جبهة غزة كلما استدعت سياساته ذلك، سواء للمحافظة على ائتلافه الحكومي، أو لإدامة الانقسام متى حدث تقارب فلسطيني داخلي، كما حدث في عدوان 2014.

أخبرنا الشاعر محمود درويش قبل رحيله في قصيدته "صمت من أجل غزة"، أنه من الظلم "لغزة أن نحولها إلى أسطورة لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم". هذه الحقيقة التي أدركها نتنياهو ومن قبله شارون ورابين على التوالي، لذلك فإن إخضاع غزة هو مقدمة لإخضاع وطن وقضية عمرها النضالي تجاوز المائة عام. لذلك فإن الإدراك الإسرائيلي بأن كافة السياسات الإسرائيلية المستقبلية لدولة الاحتلال في المنطقة؛ مرهون بإخضاع غزة، وهذا لن يكون إلا عبر مصفوفة من السيطرة والتحكم، تمكن الاحتلال من إخراج غزة خارج سياقها الوطني، وجعلها أسيرة أوجاع وجراح أوضاعها المعيشة وانكسارها الإنساني، فالسلوك الإسرائيلي ينطلق من منطق أن الأقوياء يفعلون ما يريدونه، أما الضعفاء، فعليهم أن يعانوا مما يجب وحسب. بل وأكثر من ذلك، إن المسعى الإسرائيلي من خلال رفع حدة المعاناة الإنسانية في قطاع غزة، ليس فقط إخضاع للقطاع وحسب، وإنما هو محاولة لكيِّ الوعي الفلسطيني بعدم جدوى النضال والمقاومة. وفي ضرورة أن يتم التطلع إلى البحث عن فرصة حياة في الخطاب التعويضي للأمم المتحدة. ذلك الخطاب الذي يحذر فيه -دائما- المبعوث الأممي، نيكولاي ميلادينوف، من خطورة تفاقم الأوضاع الكارثية في القطاع، وهو خطاب يحمل في طياته الاعتراف بالفشل من قِبَل المؤسسة الدولية في مواجهة السياسات والممارسات الإسرائيلية. أي إنه خطاب التنصل من المسؤوليات الدولية عن الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.

بعيدا عن لغة المناطقية التي حلّت منذ الانقسام في قاموسنا الفلسطيني؛ إن إخضاع غزة هو مقدمة لما يسعى إليه نتنياهو في الضفة الغربية، ومن خلفه اليمين الاستيطاني، الذي ينظر للضفة المحتلة على أنها الأرض التوراتية التي شُيدت فيها ممالك إسرائيل عبر التاريخ.

إن ما حدث في غزة ما هو إلا مقدمة لابتلاع الضفة المحتلة، بل إنه مقدمة لتصفية حلم وطن ومشروع قضية. لذلك فإن التصدي لهذه السياسات ولما هو آتٍ، يتطلب إجراء مراجعة نقدية للسلوك الفلسطيني، والذهاب نحو مصالحة فلسطينية حقيقية. مصالحة تُمكن الشعب الفلسطيني من المواجهة وتعزيز وجوده على الأرض التي تستولي عليها إسرائيل بوتيرة متصاعدة، ومراجعة يتم خلالها صياغة برنامج وطني قادر على المجابهة والتصدي لمخططات الاحتلال. برنامج يرتكز على قاعدة تعزيز الصمود الوطني ومقاومة حالات الإخضاع والتطويع الإسرائيلية. برنامج لا هو استسلام، ولا هو انتحار، بل يعبر عن حقنا في الحياة الكريمة، وعن حقّنا في إنهاء الحصار والاحتلال الاستعماري للأرض الفلسطينية.


طلال أبو ركبة: محلل سياسي في "شبكة السياسات الفلسطينية: الشبكة"

التعليقات