03/08/2019 - 10:36

الأسرة.. الحصن الأخير في غياب المرجعيات؟

نبّهني كتاب أميركي اقتنيته ضمن اهتمامي الخاص بالمطالعة، قبل أربعين عاما، في بداية دراستي الجامعية للغة والأدب الإنجليزي، إلى فكرة أنّ الأسرة يُمكن أن تتفكّك بسبب تطور التكنولوجيا والحياة الحديثة. لقد أخافني هذا الكتاب وأقلقني وأطلق خيالي فيما ستبدو عليه

الأسرة.. الحصن الأخير في غياب المرجعيات؟

نبّهني كتاب أميركي اقتنيته ضمن اهتمامي الخاص بالمطالعة، قبل أربعين عاما، في بداية دراستي الجامعية للغة والأدب الإنجليزي، إلى فكرة أنّ الأسرة يُمكن أن تتفكّك بسبب تطور التكنولوجيا والحياة الحديثة. لقد أخافني هذا الكتاب وأقلقني وأطلق خيالي فيما ستبدو عليه حياتنا، إذ كشاب وابن عائلة فلاحية ومجتمع قروي، شكلت الرابطة الأسرية بالنسبة لي ولغيري، جزءًا عضوياً في حياتي الاجتماعية والروحية والثقافية. بل كانت الأسرى، أي الوالد والوالدة، إضافةً إلى الجدّ والجدّة، نبع التربية، والثقافة الوطنية، الأول، ومحرك نشاطي وفعلي السياسي المبكر، فضلا عن كونها نبع الحب والحنان والدفء.

عنوان الكتاب، "The Pursuit Of Loneliness" (البحث عن الوحدة، وعمليا العزلة)، واسم مؤلفه فيليب سليتر. وصادف أن جاءت عالمة اجتماع أميركية إلى جامعة بئر السبع، لتجري بحثا عن علاقات الطلاب العرب واليهود في الجامعات الإسرائيلية، فاستغلّيتُ الفرصة لأسألها عن حقيقة ما جاء في الكتاب، الذي يصف التحولات التي طرأت على الأسرة الأميركية، ففوجئت بأني قرأته، وقالت إنه من أكثر الكتب التي تثير اهتمام الناس مؤخرًا. 

لم أكن بعد، مطلعاً على ما كتبه مفكرون آخرون قبل هذا الكاتب عن طبيعة النظام الرأسمالي الأميركية، وعن ظاهرة الفردانية (Individualism)  التي يُولدها التنافس الحر، وعن حالة الاستغلال والاغتراب التي تحدث عنها كارل ماركس. باختصار، لفت نظري في الكتاب كيف أصبح أفراد الأسرة الأميركية منعزلين عن بعضهم داخل البيت. لكل طفل غرفته الخاصة وتلفزيونه، وجهاز الراديو وغيرها من أدوات التسلية والاستهلاك، التي تُضعف التواصل. وكل ذلك جرى على حساب العلاقات الأسرية الحميمية. وليس بالطبع هذا إدانة للحداثة والتطور التكنولوجي والعلمي والحضاري، إنما للنظام الرأسمالي والتنافس الحر الشرس بين الشركات والطبقات وبين الأفراد، وإدانة للجوانب القاتمة للحداثة.

ولم أتوقع أن تصلنا، نحن المجتمع الفلسطيني، إفرازات الحداثة الغربية، وتحديداً مظاهرها الاستهلاكية والانغماس في المادة، وأن تُلقي بتأثيراتها على نسجينا الاجتماعي، بعد سنوات قليلة فقط. وزاد الطين بلة أن الوكيل الناقل لهذه الحداثة هو المستعمر الإسرائيلي، الذي كان يواصل الإجهاز على البنية الاجتماعية الاقتصادية لمن نجا من جريمة التطهير العرقي، والذين بقوا في الوطن المحتل تحت الحكم الإسرائيلي، ومواطنته الكولونيالية. فتلقينا حداثة مشوهة ممزوجة بالأسرلة وطمس الهوية، داهمتنا وفرضت نفسها في فترة قصيرة، وعبر حرق المراحل.
         
وبموازاة النقلة النوعية في الوعي الوطني الناشئ بعد يوم الأرض، وارتفاع مستوى المعيشة والتعليم عند فلسطينيي 48، ودخول التلفزيون إلى كل بيت تقريبا، ابتداءً من أواخر السبعينيات، بدأ بيتنا يخلو من الجلسات الاجتماعية، حيث كان الجيران وكبار السن في السابق يتجمعون يوميا تقريبا عند الوالد في المساء، حول كانون القهوة السادة. كانت معظم بيوت القرية مفتوحة للزيارات في النهار والمساء، والناس يتسامرون ويتناولون الحديث عن الأرض والفلاحة والعمل، وعن الأخبار السياسية التي يسمعونها من جهاز الراديو. 

وفي فترة قصيرة، في غضون سنوات قليلة، تختفي هذه "الجمعات" وتختفي معها قيمها وتقاليدها، السلبية والإيجابية. ويلوذ الناس في بيوتهم، ويصبح التلفزيون جامع الأسرة ورابطها، عازلا إيّاها عن الجيران والأقرباء.

وتمكنت في ملاحظة هذا التغير السريع، أي الالتصاق بجهاز التلفزيون بصورة مبالغ فيها، على حساب التواصل الاجتماعي والعلاقات مع الأصدقاء والأقرباء. وبالنسبة لي، كان ذلك على حساب المطالعة التي كنت أعتبرها ليس فقط مصدر معرفة فحسب، بل أيضا وسيلة تغيير ونهضة ونضال ضد الظلم، مسترشدا بالآية القرآنية الكريمة التي تخاطب الرسول بتعلم القراءة وطلب العلم والدعوة إلى التغيير والثورة، ومعززا ذلك بما كنت أقرأه بنهمٍ من مؤلفات النهضوي المصري، سلامة موسى، وغسان كنفاني وغيرهما. 

وكانت ردة فعلي عندما أدركت، في مرحلة معينة إفراطي في مشاهدة برامج التلفزيون، وأني تخلّيتُ عن قراءة الكتب، حكمتُ على نفسي بمقاطعة مشاهدة التلفزيون رغم سحره الذي كان يصعب مقاومته، خاصة وأنه وافد جديد وفي واقع قروي تندر فيه مصادر التسلية، لأعود إلى المطالعة.
لقد نجت أسرتنا المكونة من 12 نفرًا، من سلبيات هذه التحولات، ولم تتراجع العلاقات الداخلية، ويعود ذلك أساسًا إلى دور الوالدين، وإلى انخراط الجميع في النشاط الوطني، وإلى المعاناة الناجمة عن ذلك. وحقيقة، حافظت الأسر العربية بصورة عامة، على علاقاتها الداخلية المتماسكة بعد انحلال قيم العائلة الممتدة، أي الحمولة، وتحولها إلى مجموعات مصالح يظهر قبحها في الانتخابات المحلية. ويعود ذلك إلى تزايد وعي الاسرة بأهمية توفير التعليم الجامعي للأولاد والبنات على حدٍ سواء، وما يترتب على ذلك من اعتماد شبه كلي على الدعم المادي من الأهل.

وساهم عامل آخر، وما زال، في الحفاظ على العلاقات الأسرية، هو عامل التربية الدينية كرادع أخلاقي عند الكثيرين. ويظل الوعي، سواء المعبر عنه بوضوح أو الكامن، بوجود خطر مشترك (المستعمر الصهيوني)، عامل كامن في خلفية سلوك معظمنا، حتى أثناء انشغالنا في عملية تهيئة الأبناء للتعليم وللتوظيف.

وفي مرحلة ما بعد يوم الأرض، تشكلت مرجعيات وطنية ودينية جديدة عابرة للحمائل والبنية القبلية، وتحققت إنجازات سياسية وطنية وثقافية اجتماعية تقدمية نوعية، تجلى ذلك من بين أمور أخرى في انخراط المزيد من الأسر في العمل الوطني. وشهدنا مناخا وطنيا ينتشر، وجماعة وطنية تتشكل ملامحها كمجتمع. وأفرز هذا التطور بصورة تلقائية نوعًا من الضبط الاجتماعي، والسلوكي والحس بالانتماء إلى ما هو أكبر من الحمولة. وتجلت ذروة الفعل الوطني الشعبي في هبة القدس والأقصى العارمة التي قمعتها إسرائيل بوحشية، مواصلة سياسات الملاحقة والتضييق، وسن القوانين العنصرية بالجملة التي استهدفت كلها، تقويض الوعي الوطني الذي تحقق، وتمهيد الفرصة لعودة القيادات التي تعتبرها معتدلة. 

وكان يُنتظر أن تدرك القوى السياسية المركزية ضرورة تجسيد هذا التطور السياسي والوعي الجماعي، في مرجعية وطنية عليا جامعة، منتخبة وممأسسة، لتكون قادرة على تحقيق البناء الداخلي والاعتماد على الذات، وعلى خوض نضال شعبي واستعادة الأرض وتحقيق التطور عليها، وانتزاع الحقوق اليومية والقومية. 

لقد توقع التجمع الوطني الديمقراطي، صاحب هذه الرؤية الإستراتيجية منذ مطلع الألفية الحالية، أنه من دون ذلك سيتحول المجتمع الفلسطيني في الداخل، أو أجزاء كبيرة منه، إلى أحياء فقر مكتظة تُشكل تربة خصبة للعنف الداخلي. إن الفشل في اعتماد هذه الرؤية، وهذه الإستراتيجية، والتمركز في العمل البرلماني، أبقى المجتمع الفلسطيني في الداخل مكشوفا أمام هجمات نظام الأبرتهايد الصهيوني المتلاحقة والمتصاعدة في شموليتها وشراستها. ورويدا رويدا، بدأ المواطن العربي يشعر بغياب المرجعية، حزبية أو تمثيلية قطرية. وهنا تنوعت ردود الفعل على هذا الغياب أو الضعف للمرجعيات، ابتداء من الابتعاد عن السياسة، إلى الانشغال بالذات، وصولا إلى اللجوء للعنف الذي بات تهديدا وجوديا لنا كمجتمع. ولذلك يتصاعد الشعور بالقلق والخوف، ليس على ما يمكن تحقيقه في الحاضر والمستقبل، بل على الإنجازات الكبيرة، الجماعية والفردية، التي حققناها منذ النكبة.                               
    
 ومن انعكاسات هذا الإخفاق، والتحولات العامة الجارفة، هو ما نشهده في السنوات الأخيرة من جنوح شرائح متزايدة من الطبقة الوسطى، نحو الانطواء والعيش بعيدًا عن هموم المجتمع، وتوجيه وتحضير الأبناء لاستيعابهم في سوق العمل لتحقيق النجاح الفردي، بمعزل عن الرسالة المجتمعية، فينشأ فرد له عالمه الخاص به متعاليا على المجتمع. ولذلك نشهد انحسارا حادا في دور الطبقة الوسطى التي لا تبدي اكتراثا عمليا بالشأن العام، ويُساهم في هذا الابتعاد، انهيار المرجعيات التقليدية أو الحديثة، كالحمولة والأحزاب والحركات الوطنية، والأطر التمثيلية القطرية.

مع ذلك، يجب رؤية تطور وعي جديد ينشأ عند بعض شرائح الطبقة الوسطى الآخذة في الاتساع، يتجاوز وعي القيادات التقليدية، ولديها تصورات أكثر تقدما عن كيفية التعامل مع متطلبات الحاضر والمستقبل، وإن كانت همومها الاقتصادية والحياتية تزداد، وقلقها مما تمارسه إسرائيل ضد المواطنين العرب. وهذه الشرائح، وأيضا فئات اجتماعية شعبية واسعة، تنظر بقلق شديد إلى أزمة القيادة وحالة الفراغ القيادي الذي يتوسع باستمرار، دون ولادة الجديد من رحم القديم. ما معناه أننا سنعيش في ظل مرجعيات مهزوزة وضعيفة إلى حين، مما يفتح الباب على انحلال وطني واجتماعي قد يصعب وقفه. فهل الأسرة، في ظل ترهل المرجعيات الأكبر، تشكل الحصن الأخير أمام مزيد من الانهيارات؟

إلى ماذا أرمي من هذا الكلام؟

قد يكون المراد منه مثاليا، لأنه موجه كمناشدة أو موعظة، إلى الأسرة، أي مناشدة الوالدين في جعل التنشئة الوطنية جزءًا عضويا وواعياً من عملية التربية وتنشئة الأولاد والبنات. لماذا لا تكون قصة فلسطين، منذ بدايتها مرورا بمحطاتها المختلفة، وصولا حتى اليوم، حاضرة في البيت، ومتداولة داخل الأسرة. 

حدث لي في العام الماضي أن قدمت محاضرتين في مدرسة ثانوية، واحدة في ذكرى يوم الأرض والثانية في ذكرى النكبة. كانت المفاجأة أنه لم يعرف سوى عدد قليل جدا من الطلاب عن هاتين المناسبتين، وهم كانوا إما من عائلات مسّيسة أو أعضاء في شبيبة بعض الأحزاب.

إن معرفة تاريخ الأمة وثقافتها ومحطات كفاحها ومعاناتها، والتعرف على أسباب تأخر نهوضها، هي شرط تطور الفرد/ الأبناء وبناء شخصيته وتعزيز إنسانيته، وفرص نجاحه في الحياة، فضلا عن كون ذلك شرط تطور الشعب وتحرره. 

إن التربية الوطنية المباشرة باتت حاجة وجودية لوجودنا القومي في ظل المحاولات المحمومة التي تتعرض لها فلسطين، كفكرة وتاريخ وهوية ورواية، في إطار مؤامرة التصفية الأميركية الصهيونية.  يحتاج موضوع التربية الوطنية إلى اهتمام جدي، وإلى أفكار خلاقة وخطوات فعلية.

 

التعليقات