06/09/2019 - 16:11

القائمة المشتركة وخطابها الاختزالي

أمّا تجويف السياسة وتقويض مبناها التقليدي، فهما جزء من ظاهرة عالمية، تتمثل بالشعبوية والكراهية والحروب والأزمات الاقتصادية والفجوات الاجتماعية والطبقية الواسعة، وما يترتب عنها من آثار اجتماعية وأخلاقية وثقافية.

القائمة المشتركة وخطابها الاختزالي

لا تُصاب السياسة وقيمها بالعطب الشامل فجأةً أو بدون مقدّمات. هذا العطب نتاج سلسلة من الأخطاء والتعثرات، تتكوّم على مدار مرحلة طويلة من المتغيرات الاجتماعية الاقتصادية، لتنتهي إلى أزمة عميقة في مجمل العلاقات السياسية والاجتماعية ومنظومة الأخلاق التي كانت تحكم هذه العلاقات في السابق. ويجري التعبير عن هذه الأزمة والانهيارات في الخطاب الذي يُعبّر عنه على ألسنة المنغمسين في السياسة، وممثلي الجمهور.

أمّا تجويف السياسة وتقويض مبناها التقليدي، فهما جزء من ظاهرة عالمية، تتمثل بالشعبوية والكراهية والحروب والأزمات الاقتصادية والفجوات الاجتماعية والطبقية الواسعة، وما يترتب عنها من آثار اجتماعية وأخلاقية وثقافية.

في العادة لا يلحظ المنغمسون في السياسة، حتى الذين مثّلوا في السابق قيمًا معقولة، في إطار حركاتهم السياسية، مسارَ التدهور والتآكل الذي يساهمون فيه ويتكيفون معه، بوعي أو بغير وعي. وللموضوعية، فإن هذا التكيف يحصل من خلال تضافر جملة من العوامل الموضوعية والذاتية. أي أن الفرد (القائد) يصبح مسؤولًا عن هذا المسار التراجعي، وضحية له في الوقت ذاته، تجسيدًا لجدلية التأثير والتأثّر. ويمكن القول إنّ علاقة من التواطؤ المتبادل تتشكل في مجرى الزمن. ما معناه أن هذا "القائد" قد يدرك أن الذاتية قد تمكنت منه، وأنه مساهم في صنع الأزمة، ولكنه لا يستطيع الفكاك من الامتيازات التي حظي بها وتعود عليها، سواء أكانت هذه الامتيازات معنوية/ رمزية (جاه، أبهة) أو مادية مالية. وهذه الذهنية لا تتوقف على من أدمنوا التشبّث بالموقع، لسنوات طويلة، بل قد تطال أيضا من هم نالوا الموقع حديثًا، إذ أنه ليس سهلًا أن ينجو المرء من وطأة المنظومة الحزبية الراهنة والمنظومة الاجتماعية والثقافية المتشكلة في ظلال الأزمة الآخذة بالتفاقم.

ينطبق هذا الأمر على حالتنا الفلسطينية عمومًا. فالحالة الفلسطينية الرثة في الجزء الفلسطيني المستعمَر منذ عام ١٩٦٧، أُشبعت نقدًا وتحليلًا وتشريحًا، فهي حالة تراجعية إلى حد الكارثة، سواء في ما يتعلق بالخطاب السائد تجاه المستعمر أو بواقع الانقسام المدمّر، وتعود هذه الحالة المأساوية إلى عقودٍ خلت.

أما الجزء المستعمَر منذ عام ١٩٤٨، والذي أضحى، منذ انتفاضة القدس والأقصى عام ٢٠٠٠، طابورا خامسًا أو عدوا داخليًا، أشد خطورة من القنبلة النووية الإيرانية، على حد زعم بعض أقطاب المؤسسة الصهيونية الاستعمارية، فإن إنجازاته المعنوية الرمزية، المتمثّلة في المجال الثقافي، وفي مجال الهوية الجمعية، وفي تعبيراته السياسية الوطنية (الحركات والأحزاب) ناهيك عن وجوده المادي، التي حققها، تتعرض لخطر حقيقي، من الداخل والخارج.

لا نحتاج إلى كثير من الجهد والتدقيق لنكتشف أن الخطاب السياسي الذي يصدر تباعًا عن أقطاب القائمة البرلمانية المشتركة، المشكّلة من أربعة أحزاب عربية، قد وصل إلى دركٍ لم تشهده الساحة سوى في الخمسينات والستينات. إنه خطابٌ اختزالي، فارغ، ومنزوع عن السياسية، ومنزوع عن الواقع، ومنزوع عن الجذور التاريخية للصراع على حدٍ سواء. خطاب يَختزل، عمليا، مجمل معركتنا الوطنية، من ناحية، في كونها حقوقًا مدنية، ويَختزل شعار المعركة الانتخابية في إسقاط اليمين، ويختزل آليات النضال والتغيير في جلب أكبر عدد ممكن من المقاعد في كنيست الأبرتهايد الصهيوني، بدل الانغماس المنهجي في عملية منهجية إستراتيجية لابتكار آليات تأثير في الواقع السياسي من ميدان النضال الشعبي. هو خطاب مسخ، لم تنحدر إليه أي مجموعة أصلانية أو أقلية وطن، على حد علمي.

لا تستطيع البلاغة الوطنية العامة التي يَرطن بها ممثلو الجمهور العربي التغطية على هذا الخطاب المسخ، ولا يمكنها أن تفرمل هذا الجموح القاتل، القاتل للروح وللنَفَس النضالي ولقيم التماسك الداخلي وللحراك الشعبي، والذي يطمس معنى المعركة الحقيقية لجزء من شعب مستعمر، يتعرض لعملية أسرلة، بالغة العدوانية، رغم أنه قَبل، وبغالبيته، وإن بمضامين مختلفة (شيوعية وقومية وليبرالية ديمقراطية) الانخراط في قواعد اللعبة السياسية الإسرائيلية.

على خلفية هذا التدهور تستفحل ظاهرة عودة الأحزاب الصهيونية إلى المجتمع العربي، وهو انحلال وفجور وطني وأخلاقي بدأ مجددًا يطال المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخطّ الأخضر.

إنه خطاب كابح للتفكير والإبداع والتخيل وللبناء.

لقد اختفى، تمامًا، شعار تنظيم الجماهير الفلسطينية داخل الخط الأخضر، ومطلب ومهمة مأسسة وجوده القومي، واختفى تقريبا خطاب مناهضة يهودية الدولة وتفكيك المنظومة العنصرية، وتم هجر الساحة الشعبية لحساب العمل من داخل الكنيست. لقد كان مفترضا أن يجري تطوير خطاب مناهضة يهودية الدولة ومبناها العنصري الإقصائي والإحلالي إلى خطاب يُشخص إسرائيل كما هي، وكما أعادت تعريف نفسها، في "قانون القومية"، باعتبارها كيان فصلٍ عنصريٍ، وكيانا استعماريا استيطانيا اقتلاعيا، واستخلاص معادلات سياسية جديدة خلّاقة.

وكان يمكن أن يكون فلسطينيو الـ٤٨، رأس الحربة، عالميا، لحملة تعرية إسرائيل تمامًا، من خلال المشاركة إلى جانب حركة المقاطعة BDS وفي قلبها، في الهجوم على نظامها العنصري الاستعماري، من باب علاقتها الحقيقية مع مواطنيها العرب؛ تستطيع هذه "الأقلية الفلسطينية" أن تُظهر كيف أن أعضاء كنيست عربا، من أحزاب وحركات عربية مركزية، يجري رفض توسلهم المهين للمؤسسة الصهيونية، بأحزابها الكبرى، بأن يكونوا جزءًا من حكوماتهم، إذا ما وافقت على بعض المطالب المدنية، مقابل التخلي عن المطالب وطنية، سواء تلك المتعلقة بالحقوق الجماعية لهذا الجزء من شعبنا، أو تلك المتعلقة بحق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني عامة.

بات هذا الخطاب مهيمنًا أو ظاهرًا أكثر من غيره، بسبب الحملة الانتخابية للكنيست، وما تتيحه (ومعها ووسائل الإعلام) لرموز هذا الخطاب من فرص حصرية للظهور فيها، وبسبب ما سبق كل ذلك من مخططات صهيونية استهدفت تقويض مقومات النهوض الاقتصادي والمادي والثقافي.

ولكن هذا الخطاب ليس وحيدًا في الساحة وليس هو المنتصر نهائيا، وإن كنّا سنشهد سنوات أخرى من هذا التراجع والتدهور. هناك الخطاب الوطني الاجتماعي التحرري، الذي لا يمتلك مقومات القوة المادية، ليس بمفهوم المال، إنما بمفهوم المؤسسات الحزبية والقطرية والاجتماعية التي تدعمه وتغذيه. لكن هذا الخطاب التحرري يتشكل من تحت، وهو في حالة حركة وتفاعل وإنتاج، إذ رغم كل ذلك يبقى هذا الجزء من شعب فلسطين قوة إستراتيجية في مبنى معادلة القوة ضد نظام الفصل العنصري الكولونيالي، وفي عملية بناء مستقبل أفضل لشعبنا الفلسطيني.

متى يخرج التعبير الفعلي المادي عن هذا الخطاب التحرري إلى الفضاء الواسع؟ سؤال من الصعب الإجابة عليه.

التعليقات