22/09/2019 - 17:58

عقلية اللوبي: حول التيار الاندماجي عند عرب ٤٨

سيكتشف أبطال التكتيك من بيننا عاجلا أم آجلا أنهم ذاهبون إلى الحج بينما الناس راجعة. كلما ازداد انغلاق المشهد وضاق حيز المناورة سيطبل ويزمر أبطال التكتيك لإنجازات وهمية وضئيلة لتبرير تكتيكهم مهما عادوا بخفي حنين

عقلية اللوبي: حول التيار الاندماجي عند عرب ٤٨

أيمن عودة رئيس القائمة المشتركة (أب)

تسيطر هذه الأيام على المشهد السياسي عند فلسطينيي ٤٨ عقلية سياسية خطيرة يمثلها خير تمثيل الداعون إلى التوصية على بيني غانتس مرشحا لتشكيل الحكومة. هذه العقلية هي عقلية اللوبي، أي نمط من التصرف السياسي على شاكلة جماعة مصالح تقوم بالضغط ضمن نظام الحكم القائم لتمثيل مصالح مجموعة معينة من المواطنين. الهدف الأساس لهذه الجماعة وسبب وجودها هو قائمة "مطالب". هدفها هو التأثير بناء على استغلال قوة عددية أو القدرة على ابتزاز إنجازات بسبب وضع سياسي منقسم خاصة في نظام سياسي مبني على طريقة انتخابات نسبية تزيد من قوة الأحزاب الصغيرة. وقد تتراوح مطالب اللوبي أو إنجازاته ما بين المدني والسياسي.

للوهلة الأولى لا مشكلة في ذلك التصرف. ألم ينتخب النواب العرب لتمثيل مصالح ناخبيهم؟ خطورة الموضوع كامنة في التركيز الكامل على التكتيك في ظروف سياسية عامة تنزع إلى الشخصنة بدل المبادئ، والشعبوية بدل الأيديولوجية، وسياسة الهويات المتشظية بدل الهوية الجامعة. كما أن نمط العمل السياسي على شاكلة اللوبي قد ينفع في حالة مواطنين متساوين في دولة ديموقراطية، وكذلك عند وجود وحدة مبدئية في اللوبي حول الوجهة العامة، وكلاهما شرطان منعدمان في حالتنا. المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل هم مواطنون بدون مواطنة، وإسرائيل ٢٠١٩ هي ليست نفس إسرائيل ١٩٩٢، فالعرب أكثر فقرا والاستعمار أشد شراسة وتجذرا، ومركز الخارطة انزاح يمينا، وأدوات السياسة أصبحت شعبوية.

التكتيك والشخصنة

مفهوم اللوبي يجعل من القائمة المشتركة نسخة باهتة عن الأحزاب اليهودية الحريدية. نسخة لأنها أحزاب تتوافق مع مبنى وأسس النظام القائم وتنحصر مطالبها في مكاسب مدنية ومالية، وينحصر خلافها مع الآخرين في تعريف يهودية الدولة وتطبيقها (دينيا أم علمانيا). في هذه الحالة هناك منطق للتشكيلة السياسية على شكل جماعة مصالح خاصة عند مجموعة من المواطنين مهمشة من الصالح العام. لكن محدودية الخطاب تكمن في كونه خطاب احتواء يطلب فقط توسيع مفهوم الصالح العام ليشمل هذه المجموعة أو تلك من المواطنين بناء على حد أدنى مشترك لتعريفها لمصالحها. كل ما في الأمر أن مجموعة اجتماعية أو هوية إثنية أو دينية تطلب صوتا سياسيا لكي تكون جزءا من عملية صنع القرار.

لذا تكون هذه النسخة باهتة في حالة القائمة المشتركة لأنها أولا، تعرف أنها لن تكون جزءا من عملية صنع القرار. كل ما تحاول فعله هو مناورات في الغرف الخلفية ودعم من الخارج وما إلى ذلك. إذًا هو، في أحسن الحالات، تأثير بدون صنع قرار، وتصويت بدون صوت؛ ثانيا، بالتركيز على طريقة عمل اللوبي تتنازل القائمة المشتركة عن إمكانيات تحدي المنظومة القائمة لأنها تقبل الإقصاء المنهجي من صنع القرار وتحديد الصالح العام وتقبل الفتات. من ناحية، بغض النظر عن قائمة المطالب المشمول عليها في "شروط" التوصية على مرشح الوسط - يمين الصهيوني بيني غانتس، تبقى الإشكالية في كونها "مطالب" يتم التفاوض والمساومة عليها. تقوم عقلية المطالب والمساومة على الفصل ما بين الأسباب والنتائج: لماذا العرب فقراء؟ لماذا يتم التعامل معهم بعقلية أمنية؟ لماذا صودرت أراضيهم؟ الإشكالية في النظام الصهيوني لا تكمن في فساد أو شعبوية أو نيوليبرالية نتنياهو. حتى لو كان غانتس عكس ذلك فالأسباب الأساسية التي تجعل العرب فقراء مقارنة باليهود، وتزيد من الإجرام المنظم بينهم ستبقى قائمة. مشكلة العنف والفقر في الوسط العربي لن تحل عن طريق زيادة أفراد الشرطة أو زيادة الميزانيات.

مصادرة الأراضي هي سبب رئيسي في ظروف المواطنين العرب الاجتماعية والاقتصادية الحالية، ولكن توزيع الأراضي مرتبط بجوهر يهودية الدولة. فهل سيتغير الأمر؟ لقد أعلن غانتس وحزبه أنهم سيبقون على قانون القومية الذي أعلن على الملأ استعمارية الدولة، وثبت الاستعمار الممارس في أيديولوجية النظام ضمن القيم الدستورية العليا للدولة ونظامها القضائي تعبيرا عن الإجماع الصهيوني. كل ما يعرضه غانتس هو مساواة فردية منقوصة ضمن نظام يضع العربي في دونية بنيوية لا فكاك منها، ولا يعترف به كجزء من جماعة أصلانية. أما بالنسبة لقانون الهدم (كامينتس) فمثلما يعارضه العرب تعارضه جماعات ضغط أخرى مثل بعض الكيبوتسات، وكان نتنياهو نفسه قد وعد بتغييره. أما بالنسبة للاحتلال، فحتى لو كان غانتس مثل رابين فقد رأينا إلى أين أفضى نظام أوسلو من قبيل زيادة المستوطنين والمستوطنات ومحاصرة الفلسطينيين في سجن كبير والحروب الاستعمارية المتكررة للحفاظ على "السلام"  في هذا السجن (أي استمرار الاستعمار بدون مقاومة).

عقلية اللوبي، إذًا، تستدعي تركيزا كاملا على التكتيك. عند التمييز بين التكتيك والإستراتيجية قال أحد المفكرين إن التكتيك هو اللعب في حيز خلقه العدو، وكل ما تملكه في هذا الحيز هو المناورة بين خيارات سيئة. أما الإستراتيجية فهي أن تحاول التحرك خارج هذا الحيز وزعزعة قواعد اللعبة. هناك أمثلة عديدة على سيطرة التكتيك عند عرب ٤٨. عندما يقول أحد قادة القائمة المشتركة إن اللعبة الوحيدة هي اللعبة الانتخابية وما عدا ذلك فهو خروج عن المواطنة فهو يقوم مسبقا بتقييد مجال العمل السياسي للحلبة البرلمانية مع محدودياتها وضمن المواطنة المنقوصة. المسألة هنا ليست مجرد نقاش بين المقاطعين والمنتخبين بل حول مفهومنا لدور العمل السياسي البرلماني ضمن نظرتنا للدولة ودورنا فيها.

عندما يقوم شعار المشتركة منذ تأسيسها على "التأثير" و"القوة الثالثة" فهذا الشعار لا يخبرنا عن ماهية التأثير المنشود وماهية الطرف الذي سيقوم به؟ فهل الانتخاب هو لمجرد الانتخاب؟ وهل زيادة العدد هي فقط لزيادة العدد بغض النظر عن مواقف ومبادئ النواب ومدى اتفاقهم أو عدمه على ماذا سيفعلون بعد أن يصلوا إلى الكنيست؟ يقول أقطاب المشتركة إنها تمثل التيار الديموقراطي في إسرائيل. لكننا حتى هذه اللحظة لم نعرف ما هو المعيار الذي يجعل من الأحزاب التي تشكل القائمة المشتركة ديموقراطية. بطبيعة الحال، ليس كل عربي أو تحالف عربي أو تحالف عربي يهودي ديموقراطيا أو يساريا.  بل يتعلق الأمر بمضمون السياسات والمواقف. بل يمكن القول إن هناك يمينا ويسارا في شتى المواضيع داخل القائمة المشتركة. كما أن بعض أطرافها دعموا ويدعمون تحت شتى المسميات أنظمة عربية غير ديموقراطية بأي مقياس.

لقد أصبح شعار "إسقاط نتنياهو" مبررا عاما لانتهاك الكثير من الخطوط الحمر، وارتكاب السوابق، مما أبعد عن المشهد المشكلة السياسية الكامنة في النظام الإسرائيلي. وهذا الاختزال هو أيضا لعب تكتيكي ضمن الحيز السياسي الحالي الذي يركز على نتنياهو وفساده. يصبح الهدف هو، على حد تعبير رئيس القائمة المشتركة، هو "الانتقام" من نتنياهو كأننا غاضبون عليه بسبب تحريضه وشتائمه لا بسبب سياساته. يكمن بؤس عقلية اللوبي في المهانة التي تمثلها التوصية على غانتس بدون اتفاق. هذا التهافت على توصية على غانتس لتشكيل حكومة لا وجود للعرب فيها لا منطق له. سيقوم غانتس في أحسن الحالات بتشكيل حكومة مع ليبرمان والليكود، وستكون سياستها محكومة باتفاق الوحدة القومية وبتصرف مركباتها لا بوعود غير علنية وغير رسمية. الإشكالية هنا ليست إذا كانت التوصية أو عدمها ستشرعن حربا قادمة. المشكلة أبسط من ذلك وهي لا معنى للتوصية في هذه الظروف سوى المهانة بالتوصية بدون ثمن ملموس وبدون نتائج عينية، ولا معنى لشعار التأثير سوى التأكيد على التهميش والإقصاء، أي انعدام التأثير. هذه التوصية على غانتس تبرز بأيما وضوح إفلاس عقلية اللوبي. سيسقط نتنياهو ولكن الاستعمار باق. المشكلة هي في الضم الفعلي وليس في إعلان نتنياهو عنه. المشكلة هي في يهودية الدولة واستعمارها على أرض الواقع، وليس في القانون الذي أعلن ذلك فحسب.

لذا فالمشكلة في احتراف التكتيك هي أن التكتيك لا يعبر عن سياسة عامة بقدر ما يعبر عن انعدام هذه النظرة العامة، ويصبح بديلا عنها لا مكملا لها.

الاندماج

يجري هذا التكتيك بعقلية جماعة المصالح على خلفية انقسام في المشهد الفلسطيني في الداخل حول مكانتنا بالدولة ونظرتنا إليها، وعلاقتنا مع الشعب الفلسطيني خارج حدود الدولة. عقلية اللوبي هي في الحقيقة جزء من وغطاء للتيار الاندماجي عند المواطنين العرب. هذا التيار يرى مشكلة إسرائيل فقط في اشتداد النزعة اليمينية الصهيونية لا في الصهيونية عموما. هذا التيار قادنا في السابق إلى التصويت لشمعون بيرس رئيسا وإيهود باراك رئيسا للحكومة تحت شعارات مثل السيئ والأسوأ ولا حيدة في جهنم وغيرها من الشعارات المكررة والباهتة. ورغم استمرار الشعارات عن إنهاء الاحتلال فإن تركيزه الأساسي هو على مطالب المواطنين العرب بصفتهم مواطنين. إذ يقبل هذا التيار أن هناك اختلافا جذريا بين الفلسطينيين في الداخل والفلسطينيين في الضفة وغزة. والغريب في الأمر أن هذا الخطاب الاندماجي مستمر بنفس التوجه رغم أن السياسات الإسرائيلية منذ أوسلو خلقت وضعا أضعف باستمرار الخط الفاصل بين الفلسطيني المواطن وغير المواطن. لقد أصبح الفلسطيني في المناطق المحتلة عام ١٩٦٧ مواطنا غير معترف به، وأصبح الفلسطيني في ال ٤٨ مواطنا محتلا. وذلك يعني فعليا أن تحليل هذا التيار للمشكلة الكامنة في الكيان الصهيوني ليست شاملة بل تجزيئية كأن سياسات النظام لا تنبع من كونه نظاما استعماريا يضع الفلسطينيين جميعا مهما كانت تسمياتهم القانونية الشكلية في موضع الدرجة الدنيا. أي أن موضوع الاحتلال وقيام الدولتين يصبح فعليا مثل الأمور المتعلقة بالشؤون الخارجية المؤجلة إلى حين.

إن انزياح المشهد الإسرائيلي الصهيوني إلى اليمين والشعبوية يعني أن الخارطة السياسية كلها قد انزاحت إلى اليمين كما نرى ليس فقط في ضعف "العمل" و"ميرتس" بل أيضا في تحالفاتهما وتصريحاتهما. سيكتشف أبطال التكتيك من بيننا عاجلا أم آجلا أنهم ذاهبون إلى الحج بينما الناس راجعة. كلما ازداد انغلاق المشهد وضاق حيز المناورة سيطبل ويزمر أبطال التكتيك لإنجازات وهمية وضئيلة لتبرير تكتيكهم مهما عادوا بخفي حنين. لعلهم يتوقفون بعض الشيء ويفكروا معنا كيف يمكن أن نتجاوز التكتيك إلى التفكير الأعمق والعمل السياسي الأبعد نظرا. لا نريد إنجازات وهمية بل نريد بناء جبهة نضالية لكي يصمد الناس في المرحلة المقبلة، ويزعزعوا جدران الفصل العنصري الإسرائيلي. ليست هناك حلول جاهزة ولكن بدون التفكير الجماعي والخروج من مأزق التكتيك لن نعرف الطريق إليها وسنمنع ظهورها.          

التعليقات