الجمع قوة، والفرح قوة، وخلقه في حيّزٍ عام تطوقه العسكرة بمفاهيمها النفسية والواقعية قوة، العلاقة ما بين الحيّز العام وقدرة المجتمعات على تشكيل حركات اجتماعية مرتبطة بحق الناس في المدينة وحقهم في المشاركة بالقرارات المتعلقة في حياتهم اليومية؛ ولطالما مثّل باب العامود هاتين النقطتين، كونه الحيز العام جدا المتبقي في مدينة تُستهدف المناطق المعرفة كحيّز عام فيها غالبا فئات وطوائف وجنسيات محددة. أن تجلس في باب العامود يعني أن تمارس حقك في المكان، وهذا ما تدفع به إسرائيل أن لا حق لك ولا مكان.
في باب العامود في رمضان 2023 انتشرت بسطات تجارية تسيطر على ما يقرب 50% من مساحة المكان، بل أن الموضوع طال ليصل يمين ويسار صحن باب العامود. ولا نتحدث هنا عن البسطات التقليدية التي كانت تبيع العصائر ما بعد الإفطار، وعددها لا يتجاوز بسطتين أو ثلاث بسطات في سنوات خلت؛ نتحدث عن بسطات أراجيل، وأحذية، وملابس داخلية وملابس للأطفال، وبسطات ألعاب تغني بصوت مزعج وتضيء بشكل مؤذٍ للعينين. بإمكانكم أن تجدوا مئات المحلات الشبيهة داخل البلدة القديمة، ولا هدف منها بعين الاحتلال الذي سمح بوجودها، سوى التضييق على الحيّز العام وبالتالي تقليل أعداد الموجودين، والتشويش على صفوهم. وباب العامود على الرغم من تحوله في السنوات الأخيرة إلى ثكنة عسكرية، إلا إنه في عقول مريديه من مقدسيين وأبناء الداخل هو مكانٌ للصفوة، النقاش، لقاء الناس، وإثبات الوجود.
باب العامود مختبر تجارب
في مقابلة مع الدكتور عبد الرحيم كتانة، أستاذ في الهندسة المعمارية في جامعة بير زيت، قال إنّ العلاقة بين الإنسان والحيّز العام علاقة أصيلة وقديمة، وفي العقود الماضية برز الحيّز العام في كثير من مجتمعات الشرق والغرب، من بكين إلى نيويورك كمحفز وحاضن للحركات الاجتماعية المطالبة بحقوق أساسية. وفي المناطق التي تفتقر إلى حيز عام، كالضواحي مثلًا، فإننا نرى قدرة الناس على تشكيل حراك اجتماعي، وتشكيل نقاشات مجتمعية عامة قليلة وتكاد تكون غير موجودة. فالحيّز العام، يمكّن فئات مختلفة من المواطنين من خلق حالة من الجدال والنقاش في المواضيع العامة.
بعيدًا عن الرومنسيات، أصبح باب العامود مختبرًا للتجارب الإسرائيلية على ما تبقى للقدس من حيّز عام بالفعل، ولا أعرف إن كانت المرة الأولى، لكن الزينة المضيئة في سقف باب العامود هذا العام تحوّل لونها للأزرق بدلًا من الأصفر الذي نحب؛ الإضاءة الصفراء دافئة وتجعلنا نألف المكان، وبصراحة لا تحليل علمي للمسألة، كل ما في الأمر أن بيوت أجدادنا أضيئت باللون الأصفر وبيوت المستوطنة القريبة كان مضاءة بمصابيح الـ"ليد" الحديثة ذات الإضاءة البيضاء؛ لكن الأزرق هو اللون الذي خان علاقتنا معه، ووجوده في حيّزنا العام في باب العامود يفرض زينةً لا تشبهنا في مكاننا وفي احتفالاتنا. ولا ريب، فإن إسرائيل تزحف بحذر في باب العامود منذ سنوات، فلا الغرف العسكرية التي بدأت كمظلات يتظلل تحتها الجنود كانت، ولا الحديد على مداخله، ولا النبتة الأوروبية التي تلتهم سورًا يراكم التاريخ بين طياته.
حتى "الرمزية" سُرقت
لم تتمكن إسرائيل من إلغاء رمزية المكان، فقررت السيطرة عليه وعلى رمزيته، فأصبح مرور مسيرة الأعلام التي تقام سنويًا في ما يعرف بيوم توحيد القدس تقليدًا يهدف إلى فرض السيادة، وغدا مَحَجًّا لكل سياسي إسرائيلي يبتغي رفع رصيده أمام جمهور زئبقي يتنقل داخل محور اليمين.
الحيز العام يؤدي بالضرورة إلى خلق مكانٍ، فتجمُّعٍ، فحوار، فخلق رأي عام، فترتيب، فتحرك لرد ظلم أو تحسين ظرف ما. فالجالسون في باب العامود تجمعهم الفكرة بالحرية وإن اختلفت الأيديولوجيا، وإن اختلف الدين، ومن غير الممكن فصل باب العامود عن الأقصى ومكانته، فما يصيب باب العامود أو أي من أبواب الحرم من تغيير للأمر الواقع هو مقدمة لفرضه في الأقصى، وعليه هب المقدسيون عام 2021 ضد الحواجز الحديدية في باب العامود، وفي عام 2017 ضد البوابات الإلكترونية في باب الأسباط، وعام 2019 في باب حطة.
ويضيف الدكتور عبد الرحمن كتانة، إن محاولات أي حكومة للسيطرة ومراقبة استخدام الناس في الحيز العام، غالبًا ما تقابل باحتجاج شعبي قوي، وهو ما قد يشكل إثارة للرأي العام الدولي؛ ولكن عندما تقوم جهات وأصحاب مصالح خاصة بممارسة السيطرة أو الاستحواذ على الحيز العام، فإن رد الفعل يكون أقل بكثير، ويصير مسألة متعلقة بآراء مختلفة، وبالتالي فإن خصخصة الحيّز العام تؤدي إلى خصخصة الحق في استخدامه وتحويله شيئًا فشيئًا إلى ما يشبه الحيّز الخاص.
في المشهد موخرًا، هناك تركيز على الأنا وليس على المطلب للكل، أي مفهوم التحرر، كأنما هناك مخرج بدل مشهدًا بآخر، مجتمع استهلاكي طغى على المجتمع الذي يصبو للتحرر ويمارسه كفعل يومي من خلال التواجد والنقاش.
يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني، يورغن هابرماس، بأن انتشار الفردانية والاستهلاكية والنظام الاقتصادي النيوليبرالي يؤدي إلى تآكل مفهوم الحيّز العام كمكان للاجتماع والنقاش والتعبير عن الرأي، ليتحول إلى مكان ذي ثقافة استهلاكية سلبية مركزة نحو الفرد والمصالح الخاصة وليس المجتمع.
ويرى كتانة أن خصخصة الحيّز العام وتحويله إلى مكان يستفيد منه أصحاب مصالح وأعمال، يتناسب مع رغبات الحكومات غير الديمقراطية في السيطرة على الحيزّ العام وإفشال استخدامه لحقوق المواطنين الأساسية في التجمهر والتعبير عن الرأي.
بيد أن إسرائيل وفي سياق أوسع، لم تفشِل استخدام الحيز العام فحسب، بل عملت على إلغائه وإلغاء أي معلم يقاربه في بلدات الداخل الفلسطيني. مفهوم الحديقة العامة أو السوق أو حتى ساحة الجامع، هي مناطق تضاءلت حد التلاشي في ظل سياسات التضييق وقوانين التخطيط والبناء. لا حيز عام يعني لا نقاش عام أو هم عام مطروح وسط ساحة النقاش اليومي.
أبعد من كاسة شاي!
لم تخرج دولة الاحتلال عن نظرية هبيرماس؛ فهنا باب العامود المدجج بالكاميرات والمستعربين وبمساحة لا تتعدى كيلومتر مربع؛ 3 ثكنات تتمركز فيها قوات حرس الحدود، رغم كل هذا لم تنجح عملية إفشال امتلاك المقدسيين لحيّزهم العام. فبين كل مظاهر العسكرة آنفة الذكر كنت ترى عبر الستوري مقدسيًا يتغزل بكاسة شاي، وكأنه على شاطئ بحر أو في قمة جبل يطل على الدنيا. والتشبيه هنا لا يكمن بجمالية الأماكن ومقاربتها وإنما بالشعور الحر خلال وجودك فيها. الشعور بالحرية في باب العامود نابع من مستويات عدة؛ أولًا، باب العامود أقرب لأن يكون موقفًا من كونه مكانًا، والجلوس فيه تحدٍّ وفرض واقع تبذل إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة الكثير لتغييره. ثانيًا، من باب العامود انطلقت هبات وحروب وفيه ارتقى شهداء وشهيدات، لذا فهناك ديّن يوَفّى؛ إضافة إلى نقطة غاية في الأهمية، فمنه أو عبره أوقفت مؤامرات كانت ستفضي إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى وما يحيطه. كل هذا يشعرك بأنك حر وحر وأنت تجلس في باب العامود فقط لتشرب الشاي!
هناك من يضرب بيد من حديد، وهناك من يدرُسنا نفسيًا ويسعى لتوجيه سلوكياتنا، ذات الاحتلال الأول واضح، والثاني مستتر، فلندرسه كما يدرسنا، ولننشر الوعي لنفوت عليه ما استطعنا من فرص.
هي ليست كاسة شاي فحسب، عندما تختار بوعي منك مكانًا كباب العامود للترويح عن نفسك والتفكير في طرق الحياة اليسيرة والعسيرة، فإنك لا إراديًا تعيد ترتيب أوراقك على أساس المكان وقضيته قضيتك، وأنت تفكر في أمور الدراسة أو علاقاتك مع العائلة والأصحاب. وجودك وأنت تفكر في شأنك الخاص في باب العامود بحد ذاته تحدٍ وقضية.
التعليقات