19/11/2006 - 09:08

مدريد مرة أخرى... متى أوسلو الثانية؟!/ عبد اللطيف مهنا

مدريد مرة أخرى... متى أوسلو الثانية؟!/ عبد اللطيف مهنا
مدريد مرة أخرى... ذكرتنا بها وأعادتنا إليها مبادرة الثلاثي الفرنسي الاسباني الايطالي، تلك التي أعلنها ثباتيرو ومن خلفه شيراك وبتأييد وانضمام لاحق من برودي... ورغم أنها المبادرة الناقصة أوروبياً من حيث انتفاء الإجماع عليها، إذ يقلل من زخمها كون القارة العجوز لم يوحدها بعد اتحادها القائم سياسياً وإن فعل اقتصادياً، حيث لا زالت برسم عرضها على الشريكين البريطاني والألماني، لتأخذ من ثم إذا ما حازت على موافقتهما غير المضمونة طريقها إلى مجلس الاتحاد مع نهاية هذا العام، وسوف تأخذ في نهاية المطاف طريقها المحتوم رويدأً رويداً إلى حيث ما آلت إليه سابقاتها من المحاولات الأوروبية الباحثة عن دور أكثر من بحثها عن حلول، هو محكوم في المحصلة بأن لا يخرج عن حدود الهامش المتاح أو المسموح به أمريكياً... رغم كل هذا فلسوف يعم اللغط حولها وستأخذ الكثير من وقت المحلليين السلاميين في بلادنا العربية، ولسوف تعلو الضجة حولها إلى أن تخبو، دون الالتفات إلى نعيها عبر الرفض الاسرائيلي الفوري المتعالي لها الذي بلغ مبلغاً قارب التحقير، عندما اعتبرها الاسرائيليون "غير موجودة... ولامعنى لها"، والأهم رفضها مواربة من قبل الأمريكان عندما أعاد الناطق باسم الخارجية الأمريكية تأكيد التزام واشنطن ب"خارطة الطريق"، بل وحتى التحفظ الأوروبي عليها، والتشكيك في شرعيتها، من قبل الموفد الخاص للشرق الأوسط مارك أوني عبر القول الصريح بأنه "لابد من الحذر بشأن هذه المبادرة حتى نرى ما مدى شرعيتها في الاطار الأوروبي"!

في المبادرة، غير الموجودة اسرائيلياً، والمشكوك في شرعيتها أوروبياً، والمرفوضة بلباقة أمريكياً، ما يصب من حيث الجوهر في الطاحونة الأمريكية الاسرائيلية، بل ما يندرج في قائمة المطالبة الإسرائيلية أصلاً، مثل:

الوقف الشامل لإطلاق النار، بمعنى وقف المقاومة مقابل وقف الاجتياحات وليس القمع والتهويد. وتبادل سجناء لا أسرى، بمعنى الإفراج عن الأسير الإسرائيلي مقابل بضع مئات من المعتقلين الفلسطينيين ممن انتهت مدد محكومياتهم أو كان هذا الاعتقال إدارياً. وتأليف حكومة "اتحاد وطني" في مناطق الحكم الذاتي الإداري المحتلة، بمعنى التخلص من حكومة حماس الخالصة القائمة، وجر الحركة عبر البديلة إلى الاعتراف بإسرائيل. وأخيراً، لا مانع لدى إسرائيل من محادثات تجري وفق ما تقترحه المبادرة بين أولمرت وأبو مازن، لا سيما وقد أعلن الأول أن الاتصالات بيتهما لم تنقطع.

لكن هناك القليل المزعج لهذه الأطراف الرافضة للمبادرة، الذي ربما لن يلبث الثلاثي الذي قام بطرحها من أن يتراجع عنه، او يسعى لتشذيبه، أو يضطر مكرهاً أو برضاه إلى تعديله ليغدو مقبولاً، ومن ذلك، خطيئة المطالبة بوقف إطلاق نار شامل لم يستثن الاسرائيليون منه، والمطالبة بمؤتمر دولي قد يخرج عن الدور المرسوم للرباعية ولايتقيد بالتوظيف الأمريكي الاسرائيلي له، وثالثة الأثافي التي قطعاً لن يقبلها الاسرائيليون، ألا وهي قوات "يونيفيل" دولية أو أطلسية مدولنة في غزة انطلاقاً كما قال برودي من "يونيفل" لبنان، على الرغم من غموض مهامها... لأن مسألة حماية الفلسطينيين من سياسة الإبادة أمر مرفوض إسرائيلياً، والفيتو في مجلس الأمن والضغوط الأمريكية المختلفة في حالة استنفار دائم لصالح هذا الرفض المزمن.

لعل المسألة ليست هنا، لأنها على أية حال، لا تعدو بحثاً عن دور أوروبي محدود، كما أسلفنا، أو مقيد بالهامش الأمريكي الاسرائيلي المتاح للأوروبيين، مرده طموح لما هو أكثر قليلاً من المناط بهم عادة، ألا وهو التمويل والخدمات اللوجستية للحركة الأمريكية في المنطقة، كما ولازالت مبادرة موسومة بما وصفها به ثباتيرو، أي طرحها المقتصر على "ثلاث قوى متوسطية لها الآن قوات في لبنان".

المسألة هي في كونها محكومة أو تأتي ضمناً في سياق ما يبدو أنه مرحلة جديدة يلجها المشروع الأمريكي وتابعه الاسرائيلي في المنطقة وانسجاماً مع هذا المستجد، وعلى ضوء حقائق لا يمكن للأوروبيين تجاهلها أو التغاضي عنها، أو مقاومة مغريات انتهازها للقيام بالدور الطامح في الاتساع بما يخرج عن الهامش المتاح أمريكياً واسرائيلياً عادة، والذي أشرنا إليه. فهي تجيء على هامش هزيمة الجمهوريين في انتخابات الكونغرس الأمريكي النصفية الأخيرة، والتخبط الأمريكي المشهود فصولاً في العراق، وأخيراً الحديث الذي كثر هذه الأيام عن البحث المحموم عن "استراتيجية" جديدة لواشنطن في المنطقة.

أي هل يمكن فصلها بحال من الأحوال، شاء الثلاثي "المتوسطي" أو أبى عن الحركة العامة لاستنقاذ المشروع الأمريكي الغائص في أوحال الورطة العراقية، والباحث عن خشبة خلاص تقيه الغرق المحتوم وتوصله إلى بر البقاء شبه المستحيل بشكل أو بآخر في أرض السواد؟!
أي عملياً، هل يمكن أن تكون هذه المبادرة بدون ما يعادل ضوءاً أمريكياً وحتى اسرائيلياً من نوع ما، مهما كان لونه أو درجة وضوحه؟!

قد لا يكون لهذا الضوء ملمس مباشر، أو ملموس، ويكفي أن واقع المشروع الأمريكي المتعثر في المنطقة، وحال الادارة الأمريكية ما بعد انتخابات الكونغرس، والقلق الوجودي الاسرائيلي من عقابيل الفشل الأمريكي في العراق، ما قد يعطي اشارته المنتظرة من قبل هذا الثلاثي الباحث عن الدور المفقود أو الممنوع أو المشروط أو الموظف!

لنتذكر هنا تصريحات بلير الداعية إلى الانطلاق من تصفية القضية الفلسطينية لمحاصرة تداعيات الورطة العراقية: "علينا أن نبدأ بفلسطين واسرائيل، هذا هو لب المشكلة". ولنتوقف أمام تصريحات فرنسية لافتة من حيث مستوى جرأتها في انتقاد الحليف الأمريكي، مثل قول دوفيلبان، بأن التدخل العسكري الأمريكي في العراق "محكوم عليه بالفشل". وحيث غدا "العراق غارقاً اليوم في حرب أهلية وفي الفوضى"، فإن "الشرق الأوسط الكبير الديمقراطي الذي تريد الولايات المتحدة بناءه، لم يظهر، والحرب على عكس ذلك، فاقمت الخوف والانقسامات وعدم الاستقرار والعداء للغرب". والأهم عند رئيس الوزراء الفرنسي أن الورطة العراقية، قد "كسرت أحد محركات طموحنا الجماعي، وأضعفت الهيئات المتعددة الأطراف، وجعلت تحرك المجتمع الدولي أصعب في مواجهة أزمات الانتشار (النووي) الكبيرة مثل ايران وكوريا الشمالية، وعقدت تسوية المشكلة الاسرائيلية الفلسطينية، وقسمت أوروبا التي لم تستعد بعد وحدتها السياسية"!

كما لا يمكن فصل المحاولة الأوروبية الثلاثية عن إلهامات ما يستقرأ أوروبياً من توصيات لجنة بيكر-هاملتون المتوقعة، أو "لجنة دراسة الأوضاع في العراق"، والتأثر بتسريباتها المدروسة قبل رفعها أو إعلانها، والتي تدور وتحور بين مطلب الديموقراطيين باستراتيجية انسحاب مدروس من العراق يستنقذ المشروع الأمريكي هناك، وبما لا يمس سياسة "الحفاظ على المسار" الجمهورية، أو ما نقلته صحيفة "الغارديان" البريطانية، أو ما سٌرّب عبرها، حول "استراتيجية نصر" جديدة في العراق وضعها الرئيس بوش على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأمريكية الأخيرة، وأن ذلك تم بالتشاور مع لجنة بيكر- هاملتون. وهذا التسريب يأتي بعد الاعلان في واشنطن عن تشكيل لجنة موازية، أو ربما لمواجهة تداعيات توصيات الأولى، برئاسة وزيرة الخارجية رايس، تضم ممثلين عن البنتاغون، والخارجية، ومجلس الأمن القومي، والأجهزة الأمنية. أما مهمتها فهي الإجابة على الأسئلة المطروحة على الإدارة، ومراجعة "الاستراتيجيات والتكتيكات المتعلقة بصوابية السياسات وطبيعة الأهداف، والوسائل إليها"!

هل يمكن، ونحن بصدد المبادرة الثلاثية، بما لها من وشائج مع كل ما تقدم، أن نفصل عنها، وليس نفصلها، مما يصلها أو يوصل معها، مبادرة الجامعة العربية في الاجتماع الوزاري الأخير، الداعي لكسر الحصار عن الشعب الفلسطيني، والمطالبة بمؤتمر دولي، وهي المبادرة التي رفضت أيضاً من قبل الأمريكان والاسرائيليين... هل يمكن فصلها، بحال من الأحوال، عن ما يطبخ فلسطينياً هذه الأيام في الساحة الفلسطينية، مهما حسنت النوايا ونبلت الأهداف، تحت عنوان "حكومة الوحدة الوطنية"، تلك التي تعالى دخانها وطال انتظار نضوج طبختها... هذه الحكومة التي أعلن الدكتور مصطفى البرغوثي، الذي يصور نفسه إعلامياً بأنه عرّابها أو داعيتها الأول، تفاؤله وتفاؤل طرفيها فتح وحماس، بإقتراب أوان أُكلها، والتي انقسمت "الرباعية" الدولية حولها، وتقول مصادر رام الله الرئاسية أن أبو مازن رئيس السلطة كان قد استمزج رأي ديفيد وولش حول فكرتها، واستشف الرضى منه، فطالب بالتالي رئيس وزرائه اسماعيل هنية بموافقة خطية عليها لجهة الأسس التي ستشكل على أساسها؟!

موافقة خطية على "حكومة وحدة وطنية"، بما لهذا المصطلح من جاذبية، سوف تبهت إذا ما نظرنا إليها من زاوية ما يريده الآخر منها، إذ حدد بوش وأولمرت في لقائهما الأخير في البيت الأبيض مواصفاتها المقبولة لديهما: "حكومة فلسطينية تلتزم بمبادىء الرباعية وخارطة الطريق"! وأهم ذلك، كما هو معروف، هو الاعتراف باسرائيل والتخلي عن النهج المقاوم، بمعنى آخر ما أكد عليه أبو مازن في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعندما قال مؤخراً: أنه "لا مبرر لتشكيل حكومة ترفض ما سبق وإن رفضته حماس"!

هنا، لابد من التوقف أمام ما سرّب فلسطينياً، في سياق التفاؤل بقرب انطلاق الدخان الأبيض بميلاد "حكومة الوحدة الوطنية" العتيدة هذه، أو ما غدا يطلق عليه "الشراكة السياسية" بين طرفي السلطة في مناطق الحكم الذاتي المحدود المحتلة، حيث لازال الجدل يدور بين الطرفين، والمتوسطين بينهما، حول مايدعى ب"المحددات السياسية" لمثل هذه الشراكة، التي يبدو أنها من خلال ما سُرّب شراكة سلطة أو تنظيم خلافات وتقاسم أدوار أكثر منها شراكة سياسية حقيقية تقوم على برنامج واحد متفق عليه، إن لم يكن وطنياً بشكل عام فعلى الأقل بين الأطراف المشاركة في ائتلافها، حيث تشمل هذه الشراكة المتاحة الآن ما قيل بأنه "كل شيء" أي السلطة والمنظمة، كما وإنه حُدّد سلفاً وفقما أعلن، أساساً توافقياً لمثل هذه الشراكة، وهو الاستناد إلى مرجعية مادعي ب"وثيقة الوفاق الوطني" ذات اللغة الضبابية المغرقة في مرونتها أو القابلة للتأويل من قبل طرفيها كل وفق ما يريد، وكذا الاستناد على رسالة التكليف من قبل رئيس السلطة، والتي يمكن توقع ما سيرد فيها سلفاً، والتي على رأس قائمتها قبول حماس بما رفضته سابقاً!

... لقد تم تسريب الكثير من التفاصيل عن الشراكة العتيدة، فقيل أنها ليست وزارية فحسب بل وتتعدى ذلك إلى تقاسم مناصب وتعيينات، مثل المحافظين، ومسؤولي الأجهزة الأمنية، وشرعنة أو اعتماد "القوة التنفيذية" التابعة لحماس، ولم يتبق، كما يقال، إلا أرقام المحاصصة، وكيفية التوزير، أمن شخصيات وصفت ب"الفاقعة" أم ممن يتسم بالنزاهة؟!
هذا في السلطة، أما في المنظمة، فشراكة تعني إدخال حماس والجهاد وجماعة الدكتور البرغوثي في عضوية المجلس الوطني ومتفرعاته، وأجهزة المنظمة التنفيذية إلخ.

وسواء صحت هذه التسريبات أم لا، فإنها كلها تندرج تحت مطالبة حماس بتنازلات ترضي ما يدعى "المجتمع الدولي" مقابل رفع الحصار وإتاحة انتزاعها لأكبر قدر ممكن من المكاسب الموصوفة بالعملية، "على صعيد الوظائف والمكانة العامة"، وكل ذلك يدور تحت مظلة "الوحدة الوطنية" و "الحوار الوطني" اللذين أفسحا المجال الآن لمصطلح جديد هو "الشراكة"، و "المحددات" السياسية، وكل ذلك تحت سقف أوسلو ومحدداتها!!!

إذن، تنوعت المبادرات والمشروع المعادي للعرب واحد، في العراق تقسيم وحرب أهلية، لتحقيق "استراتيجية نصر" تعني هزيمة مع أقل قدر ممكن من الخسائر، والاحتفاظ بوضع اليد على نفط البلد وواقعه الاستراتيجي... وفي فلسطين اسقاط حكومة باستبدالها بأخرى، وفق المواصفات المطلوبة، واجتثاث مقاومة أو فلتكن حرباً أهلية... وفي لبنان، الذي يجاهر البعض فيه بالقول أن قرار غزو العراق "كان أمراً صائباً"، وكان قد سبق فأعلن أن اسرائيل ليست عدواً، الإفادة ابتزازياً بأكبر قدر ممكن من فزاعة هذه الحرب التي اكتوى اللبنانيون بنيرانها وخبروها ويرفضونها... والسودان، والصومال وأفغانستان، وما قد يستجد من المواقع المرشحة للبركة الأمريكية الجارية في طول العالم وعرضه!

وعودة إلى المبادرة الثلاثية لفرسانها: شيراك، ثباتيرو، وبرودي، أنها رغم ثوبها المتوسطي، وحتى نزوعها المفترض، لن تعدو واحدة في سياق مسار عام لقافلة من المبادرات التي كانت أو سوف تهل، يحدوها همّ رئيس أو توظف من أجله ألا وهو إخراج سيدة الغرب المرتبكة من ورطتها العراقية بأقل الخسائر الممكنة التي قد تلحق بالضرورة بالمشروع الغربي العام في المنطقة، واستطراداً الهاجس الغربي الدائم المتعلق بأمن اسرائيل وحماية دورها ووظيفتها في المنطقة في سياق ذات المشروع... تصفية القضية الفلسطينية والهيمنة عبر العراق على المنطقة العربية وجوارها الإسلامي، أي على صرّة العالم... لذا لاعجب أن يعيد تاريخ المبادرات التسووية نفسه، فهل ستعقب مدريد الجديدة أوسلو أخرى!!!

التعليقات