لا يبدو ان هناك اية بوادر أمل بانتهاء أزمة الاعتصام في وسط المدينة في المستقبل القريب بعد انتهاء الوساطة العربية التي قادها السيد عمرو موسى الى فشل غير معلن، استطاع الامين العام تمويهه من خلال الحديث على ابقاء مبادرته مفتوحة بانتظار ردود فعل افرقاء الازمة على مختلف عناصر الحل الذي اقترحه.
لقد اظهرت مهمة عمرو موسى في شقها العربي ان حل الازمة لا يرتبط فقط بارادة فريقي الحكومة والمعارض بل يتعداهما الى دمشق والرياض وطهران، دون تجاهل البعد الدولي والذي لم يعد يقتصر على موقفي واشنطن وباريس بل يتوسع ليرتبط بالامم المتحدة وبقرارات مجلس الامن وخصوصاً ما يعود لانشاء المحكمة الدولية.
نظراً للتباعد الحاصل بين مختلف الاطراف الاقليمية والدولية فان الازمة الداخلية مرشحة للاستمرار لفترة طويلة، اذا ما بقيت على هذا المنسوب من التجاذب الخارجي الذي عطّل كل المساعي الداخلية لتفاهمات الحدود الدنيا على غرار ما كان يجري في الازمات السياسية السابقة. اعتاد اللبنانيون على اعتماد الحلول الموقتة او المسكّنات من اجل تجاوز الازمات السياسية المتكررة، والتي كانت آخرها ازمة اعتكاف الوزراء الشيعة ومقاطعتهم لجلسات مجلس الوزراء بأوامر من حزب الله وأمل وذلك في حركة احتجاجية من اجل تعطيل جلسة اقرار المحكمة الدولية. وانتهت تلك الازمة من خلال اجتهادات «كلامية»، ولكنها لم تؤسس لارضية سياسية توافقية على موضوع انشاء المحكمة الدولية.
حصل تفاهم الحد الأدنى على اصلاح التصدع في داخل الحكومة من خلال الابقاء على قنوات الاتصال مفتوحة بين حزب الله وتيار المستقبل وبين رئيس المجلس النيابي والحكومة. لكن يبدو ان تداعيات الحرب وما خلفته من الشك والريبة قد نسفت كل جسور التواصل وبددت كل اجواء الثقة بين حزب الله وتيار المستقبل واللقاء الديموقراطي. وظهّرت الحملات التي شنّها تلفزيون المنار ان ازمة الثقة بين الطرفين تتعدى الخلاف السياسي الداخلي الى مسلسل من الاتهامات المتبادلة بالتآمر والارتهان للخارج، ولو كان ذلك على حساب القيم الاخلاقية والوطنية.
نحن نرى ان الازمة الراهنة تشكل عودة بلبنان ليكون ساحة للنزاعات نيابة عن اطراف عربية ودولية، وان الفارق الوحيد بين خلافات الامس والخلاف الراهن يتركز في استبدال الانقسامات الطائفية بانقسام مذهبي بين السنة والشيعة، وهو آخذ في التعمق بشكل خطير خصوصا وانه يجري على خلفية المد الايراني باتجاه الدول العربية وعلى خلفية توسع الحرب المذهبية في العراق.
اعتقد اللبنانيون بأن الانسحاب السوري من لبنان قد قلب صفحة هامة، بحيث توهموا انهم قادمون على فترة من الاستقرار السياسي التي ستفتح امامهم الباب لتطبيق اتفاق الطائف وتطوير الصيغة السياسية القائمة، لكن سرعان ما عاد الاستقطاب الخارجي الى شق صفوفهم وتوسيع الانقسامات التقليدية بينهم. ان الاوضاع المتأزمة الراهنة تنذر بالشؤم اكثر من سابقاتها، حيث كنا في السابق نجرّ اللاعبين العرب والاجانب نحو نزاعاتنا المحلية، بينما نحن نخضع الآن لاستقطاب وجاذبية القوى الخارجية، وهذا ما نشهده اليوم حيث ان حالة الاستقطاب هذه تدفعنا للتستر عليها من خلال رفع شعارات داخلية كحكومة وحدة وطنية وثلث معطل او ضامن بينما العناوين الحقيقية هي في المحكمة الدولية التي لا تريدها سوريا، او في الاتيان برئيس جديد للجمهورية يضمن استمرار النفوذ السوري والايراني في لبنان، او الدعوة لانتخابات مبكرة تنقلب فيها الاكثرية الى اقلية والمعارضة بقيادة حزب الله الى اكثرية. لا مانع اذا حدث مثل هذا التطور في المشهد السياسي بصورة ديموقراطية، لكن ما هو غير مسموح به ان يدفع البلد الى أزمة سياسية كالتي نشهدها اليوم، والتي لا بدّ وان تنتهي بعاصفة مدمرة.
نحن بأمسّ الحاجة اليوم للقاء لتفويت هبوب العاصفة التي بدأت تتجمع منذ القاء الرئيس الاسد خطابه الشهير على مدرّج جامعة دمشق، والذي اعلن فيه الحرب على الحكومة اللبنانية الراهنة وعلى الأكثرية الداعمة لها. تستدعي هذه المهمة «شبه المستحيلة» لقرار حكيم تتخذه كل القيادات السياسية بالعودة الى الاجواء الطبيعية من اجل فتح الابواب لحوار عاقل وبنّاء، حول جميع العناوين التي تضمنتها ثوابت بكركي.
ان خلاص لبنان يرتبط بصورة اساسية بمشروع قيام دولة قادرة وعادلة، ويدرك الجميع ان هذه المهمة ليست سهلة، بل هي بحاجة ماسة الى مساندة اقتصادية ومؤسساتية من المجتمع الدولي، ولا يمكن ان تتأمن هذه المساندة في ظل لبنان المستقطب خارجياً، او الدولة المتنازع عليها داخلياً.
هناك استحقاق اساسي قريب، يشكل خطوة مصيرية في مشروع نهوض الدولة اقتصادياً، ويتمثل هذا الاستحقاق بمؤتمر باريس 3 الذي يجري الاعداد لانعقاده في الاسبوع الاخير من كانون الثاني المقبل. يجب ان يشكل هذا الاستحقاق عاملاً مسهّلاً لحوار جديد بين الحكومة والمعارضة، وذلك انطلاقاً من شعور الجميع بالمسؤولية بأن الكساد الاقتصادي وافلاس الدولة، وامكانية تدهور النقد ستشكل مجتمعة كارثة اقتصادية واجتماعية لن يكون اي فريق بمنأى عنها.
تتوقف امكانية ايجاد مخارج للازمة الراهنة على قدرة الطرفين على العودة الى قدر مقبول من العقلانية السياسية لوقف هذا السيل من التجاذبات والمهاترات السياسية كخطوة اولى على طريق استعادة الحشمة الى الخطاب السياسي، على ان تتبعها خطوات أخرى ابرزها:
1- دعوة من رئيس المجلس النيابي الى رؤساء الكتل النيابية لجلسة مشاورات من اجل وضع روزنامة سياسية تحدد جدول الاولويات لكل الاستحقاقات التي اصبحت معروفة والتي تشكل مجموع المطالب المطروحة.
2- دعوة المجلس النيابي (بعد فتح دورة استثنائية) لاقرار هذه الروزنامة وفق الجدول الزمني الموضوع لها.
3- يفترض في حال التوافق على اجتماع رؤساء الكتل النيابية ان يصدر عن رئاسة الجمهورية بياناً يؤكد فيه الرئيس لحود عن استعداده لقبول ما يتقرر، وان يتعاون من اجل تسهيل عمل المجلس سواء لجهة فتح دورة استثنائية او لجهة توقيع اية مراسيم تساعد في الخروج من الازمة الراهنة، وان يصرح باستعداده للقبول باجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
4- تجمّد الحكومة ومعها الاكثرية كل القرارات العائدة للمحكمة الدولية الى حين التوافق على الروزنامة، والتي سيكون بند انشاء المحكمة احد بنودها الرئيسية.
5- يجب ان تعلن جميع القوى السياسية عن دعمها لانعقاد مؤتمر باريس 3، وعلى اساس ان ذلك يمثل مصلحة وطنية عليا، لارتباطه بمعالحة الدين العام ودعم النقد وانعاش الاقتصاد هذا هو التحدي الكبير الذي ينتظر الجميع، فان هم احجموا فإن العاصفة قادمة لا محالة.
"الديار"
التعليقات