31/01/2007 - 15:36

مصارحة ضرورية قبل اندلاع الفتنة.../ فهمي الهويدي*

مصارحة ضرورية قبل اندلاع الفتنة.../ فهمي الهويدي*
ما كان لمؤتمر التقريب بين المذاهب أن ينعقد هذه المرة من دون أن يعكس حالة الاستياء والغضب السائدة في العالم العربي والإسلامي، الأمر الذي اقتضى أن ينحى مؤقتا عنوان «التقريب» ليحل محله عنوان آخر هو «المصارحة».

ذلك حدث قبل أيام في المؤتمر الذي شهدته الدوحة، العاصمة القطرية (في الفترة من 20 إلى 22 يناير الحالي)، وجاء مختلفا تماما عن كل مؤتمرات التقريب بين المذاهب السابقة، التي تجددت فكرتها لأسباب مفهومة في أعقاب قيام الثورة الإسلامية في إيران (عام 1979). وإذ أتيح لي أن أشارك في بعض تلك المؤتمرات التي جاوزت العشرين، عقد أغلبها في طهران، فقد لاحظت أنها جميعاً كانت تتحدث عن مواضع الاتفاق بين أهل السنّة والشيعة الإمامية، وغلب عليها طابع المجاملة.

وظل الحوار فيها نظريا، حيث لم تكن هناك فرصة كافية لاختبار العلاقات بين الطرفين على الأرض. وحتى أكون صريحاً فلا مفر من الاعتراف بأننا لم نلتفت كثيرا أو لم ننتبه إلى متابعة الممارسات التي تجرى في الواقع. من جانبي كنت أحد الذين قدّروا أن الثورة في إيران تحتاج إلى وقت لتثبيت أقدامها. كما أنها محاطة بمكائد كثيرة خصوصاً من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن الشيعة لم تكن لهم دولة منذ حوالى عشرة قرون، وهو ما يدعونا لأن نفهم اندفاع بعضهم لإقامة دولتهم والإعلاء من شأن مذهبهم. في الوقت ذاته فإنني لم أخف تعاطفا معهم في العالم العربي بوجه أخص، لما تعرضوا له من مظلومية في بعض الأقطار، التي غيب أكثرها حقوق أهل السنة أيضا. إضافة إلى استيائي من حملات التكفير الهوجاء التي تعرضوا لها من قبل غلاة السلفيين.

في تلك المرحلة كان يزورني كلما ذهبت الى طهران نفر من ممثلي أهل السنّة، معبرين عن الشكوى من بعض ما يعانون منه، قائلين مثلاً انه رغم عددهم الكبير نسبيا (حوالى 14 مليونا من بين 72 مليونا) فليس بينهم وزير ولا سفير ولا حتى محافظ. كما أنه لم يسمح بإقامة مسجد لهم في طهران التي يعيش فيها أكثر من مليون من أهل السنّة، رغم أنهم اشتروا أرضاً لهذا الغرض في بداية الثورة. وكنت أدعوهم إلى الصبر والإعذار أملاً في تحسين أحوالهم في المستقبل. وهو ما تحقق فعلا بصورة نسبية، خصوصا في ظل حكومة الإصلاحيين، حيث يتاح لهم الآن أن يمارسوا حقوقهم المدنية جميعها بلا تمييز، وإن ظل تمثيلهم محدودا في أجهزة السلطة ومؤسسات الدولة (لهم 20 مقعدا من بين 300 في مجلس الشورى).

لأنني ظللت مقدرا موقف إيران كدولة مستقلة تملك قرارها وتعتز بإسلامها، ومكبرا تحديها للهيمنة الأميركية وعداءها لإسرائيل ومساندتها للشعب الفلسطيني، فقد ظللت طول الوقت مؤثرا التعاطي مع الشق الملآن من الكوب وليس شقه الفارغ. كما أنني ظللت أتعامل مع إيران الدولة وليس إيران الطائفة. ولم يخطر على بالي يوما ما أنني سني المذهب يتعامل مع مجتمع من الشيعة، حتى قلت للدكتور إبراهيم الجعفري رئيس وزراء العراق السابق حين لقيته ذات مرة في الكويت: لقد ذكرتمونا بأننا سنّة.

الأمر اختلف بصورة نسبية في السنوات الخمس الأخيرة. من ناحية ارتفعت أسهم المحافظين، الذين شددوا من قبضتهم على الدولة في إيران (جناحهم القوي في قم اعترض بشدة على ترشيح واحد من أهل السنّة لعضوية رئاسة مجلس الشورى، ونجحوا في فرض إرادتهم). من ناحية ثانية سقط النظام البعثي في العراق، وتحولت الجماعات الشيعية ذات الصلات القوية مع إيران إلى لاعب أساسي في الساحة العراقية، الأمر الذي أنعش غلاتهم وأحيا طموحاتهم على مختلف الأصعدة. وهو ما تزامن مع انهيار النظام العربي، وغياب أي دور عربي مؤثر في المنطقة.

في الفراغ العربي تمدد الجميع. إيران استشعرت اطمئنانا استراتيجيا بعد سقوط نظام طالبان وصدام حسين، وسعت إلى تثبيت الوضع المستجد في العراق (بين البلدين حدود مشتركة بطول 1350 كيلومترا) وإطلاق العنان لنفوذها من خلال التواصل مع كل الفئات، والجماعات الشيعية في المقدمة منها. وكان الجو مواتيا تماما لأنشطة غلاة الشيعة، الذين اعتبروا أنهم بصدد فرصة تاريخية ينبغي أن تستثمر ليس فقط لصالح المذهب وأهله، وإنما أيضا لتصفية حسابات التاريخ ومراراته.

أشدد على وصف هؤلاء بالغلاة، لأن الشيعة في إيران وفي غيرها ليسوا سواء. فلديهم غلاة ومعتدلون. مثلما هي الحال عند أهل السنة أيضا، الذين كان لغلاتهم ممارساتهم الغبية والمشينة ضد الشيعة في العراق. وإن ظل الآخرون في الموقف الأقوى، لأن الهم الأساسي للجماعات السنية هو مقاومة الاحتلال، وقلة منهم ـ جماعة القاعدة تحديدا ـ هي التي أعلنت حربها على الشيعة، بل على السنة الذين يعارضون مشروع «الإمارة الإسلامية» الذي شغلوا بإقامته.

إذا سألتني لماذا الجماعات الشيعية في الموقف الأقوى، فردي المباشر على ذلك هو: لأنهم مؤيدون من قبل جهاز الأمن والشرطة والجيش، وبيدهم السلطة والمال. ثم انهم مدعومون بدرجة أو بأخرى من جانب إيران والأميركيين. وحتى أكون أكثر دقة فإن إيران الدولة والمراجع، إذا لم تكن مساندة لتلك الجماعات، فإننا لم نسمع لها صوتا يعلن استنكار وإدانة ممارساتهم، الأمر الذي يسوغ لنا أن نستعيد في هذه الحالة المثل القائل بأن السكوت علامة الرضى. صحيح أن مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي عبر مؤخرا عن استنكاره لما يحدث في العراق من اقتتال أهلي، ورفضه لكل ما من شأنه إثارة الفتنة بين السنة والشيعة، وتحذيره من المخططات الخبيثة التي تستهدف الوقيعة بين أكبر جماعتين في العالم الإسلامي، إلا أن نداءاته التي جاءت بعد فوات الأوان لم يُستجب لها في الواقع، وظل الطرح المذهبي يزداد قوة حينا بعد حين.

على الأرض بدا أن ثمة واقعا جديدا يتشكل على نحو مثير للقلق ومستفز. فقد تواترت الإشارات التي تحدثت عن تزايد النفوذ الإيراني في العراق، إلى حد أن بعض الجماعات في الجنوب أصبحت تعتمد اللغة الفارسية في معاملاتها (في البصرة خصوصا). وتبين أن هناك تصفيات جسدية مستمرة للشخصيات البارزة من أهل السنة، وفي مقدمتهم أساتذة الجامعات والمهنيون. وبعدما أطلق أحد قادة الشيعة (السيد عبد العزيز الحكيم) دعوته إلى إقامة فيدرالية تضم تسع محافظات في الجنوب تتركز فيها الثروة النفطية، نشطت حركة تهجير أهل السنة من تلك المحافظات التي تتداخل فيها العوائل والعشائر السنية والشيعية، لتكون خالصة للشيعة دون غيرهم. وفي بغداد تدور الآن معركة لتهجير أهل السنة من أحيائها الغربية بعدما نجحت جهود جيش المهدي في «تطهير» شرق العراق من السنة. وذهبت الممارسات إلى أبعد من حدود العراق حيث أصبحت المجامع والدوائر السنية تتحدث عن جهد مكثف للتبشير بالمذهب الشيعي في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، من جزر القمر إلى تونس والجزائر. إضافة إلى أقطار القارة الإفريقية ومختلف البلاد الآسيوية.

لم يكن بوسع أحد أن يحدد بالضبط الجهة أو الجهات التي تقف وراء تلك الأنشطة، لأن الجهات مختلفة والمراجع متعددون في داخل إيران وخارجها. ولكن الحاصل أن هذه الممارسات اتهمت إيران والشيعة على إطلاقهم بالمسؤولية عنها، الأمر الذي أثار حساسية وقلق دوائر أهل السنة. ثم جاءت واقعة إعدام الرئيس السابق صدام حسين صبيحة يوم عيد الأضحى، التي حوّلها بعض الغلاة إلى احتفال شيعي عمم الغضب والحساسية على العالم العربي والإسلامي. فبعد أن كان الاستياء محصورا في دوائر معينة، فإن عملية الإعدام نقلته إلى الشارع، ومن ثم فإن الاشتباك الحاصل بين الطرفين داخل العراق، أصبح حالة عربية وإسلامية أسوأ ما فيها ليس فقط أنها تشعل نار الحرب الطائفية في المنطقة، ولكن أيضا أنها تصرفنا عن المعركة الكبرى ضد الهيمنة الأميركية والتوحش الإسرائيلي، لتلقي بنا في أتون فتنة كبرى بين الشيعة والسنّة.

شاءت المقادير أن ينعقد مؤتمر الدوحة في هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، وأن يدخل المشاركون قاعة المؤتمر وهم مدركون أنهم يمشون على أرض مليئة بالألغام والأشواك. كان المشاركون في المؤتمر (حوالى 200) قادمين من 44 دولة عربية وإسلامية، أغلبهم من أهل السنة الذين قدموا حاملين الهم الثقيل معهم. الشيعة جاؤوا من إيران ولبنان والعراق والبحرين، وكان إلى جوار هؤلاء وهؤلاء وفد من إباضية عمان، ووفد آخر جاء ممثلا لزيدية اليمن.

في الجلسة الأولى ألقيت كلمات اقتربت من الموضوع ولم تدخل في منطقته الحساسة. لكن الشيخ يوسف القرضاوي حين تحدث فإنه فتح الجرح، وانتقد قائمة الممارسات التي أثارت غضب أهل السنّة، قائلا: إنه لا جدوى من التقريب من دون مصارحة. وحين فتح الملف فإنه أثار القضايا التي أشرت إليها قبل قليل، وأضاف إليها انتقاده لقيام بعض الأطراف الشيعية بطباعة وتوزيع كتب تسب الصحابة، وتستدعي معارك التاريخ لتجددها في هذا الزمان. وما إن فتح الباب على هذا النحو حتى استولى المشهد العراقي ومحنة أهل السنة فيه على المؤتمر، واشترك في حملة النقد والمصارحة علماء آخرون، من مصر والسودان وسوريا ولبنان والمغرب وقطر. وكان طبيعيا أن يتحدث علماء الشيعة الذين فوجئوا بالعاصفة، فمنهم من نفى بعض المعلومات ودعا إلى التحقيق في مدى صحتها، ومنهم من استنكر مواقف ومعلومات أخرى واعتبر أنها تنسب إلى غلاة الشيعة، الذين لهم حماقاتهم التي لا تختلف كثيرا عن حماقات غلاة أهل السنة. ولكن أهم إنجاز حدث أن المصارحة تمت، وأن رسالة الغضب وصلت إلى العنوان الصحيح.
البيان الذي صدر عن المؤتمر جاء معبراً عن هذه الأجواء. إذ نص على حرمة الدم المسلم واستنكار الجرائم التي ترتكب على الهوية المذهبية في العراق. ودعا إلى الوقوف صفا واحدا أمام العدوان الذي تتعرض له الأمة، وكان ذلك اقتراحا إيرانيا فهم منه أن طهران تتطلع إلى وقوف المسلمين إلى جانبها في حالة تعرضها للعدوان العسكري الأميركي. وهو الموقف الذي عبر عنه الشيخ القرضاوي بوضوح، حين قال: إن المسلمين يجب أن يحتشدوا في مواجهة أي عدوان تتعرض له الأمة، سواء كان أميركياً موجهاً إلى إيران، أو إسرائيلياً موجهاً ضد فلسطين. توافق الطرفان أيضا على نقطتين مهمتين: الأولى: رفض كل تطاول أو إساءة إلى آل بيت رسول الله وصحابته، واحترام مقدسات كل طرف. والثانية: ضرورة احترام حدود كل طرف وعدم السماح بالتبشير لمذهب الشيعة في بلاد السنة أو العكس.

حين قرأت في التوصيات دعوة إلى تشكيل مجمع في قطر يضم علماء المذاهب المختلفة يعزز فكرة التقريب ويرصد معوقاتها وخروقاتها، تساءلت بيني وبين نفسي: أين الأزهر الذي خرجت منه في الأربعينيات فكرة التقريب؟

"السفير"

التعليقات