25/06/2010 - 08:59

حرب استطلاعات الرأي على إيران../ سمير كرم

حرب استطلاعات الرأي على إيران../ سمير كرم
تفيد التقديرات ـ التي لا يمكن الحكم بمدى دقتها ـ أن نحو الف استطلاع للرأي العام يجرى في الولايات المتحدة سنوياً. وللتخفيف من اي شعور بالمبالغة لا بد من الإشارة الى ان صناعة استطلاع الرأي العام هي صناعة واسعة النطاق في الولايات المتحدة وتشمل كل الولايات وبخاصة المدن الكبيرة فيها. وفضلاً عن ذلك فإن هذا التقدير يشمل تلك الاستطلاعات التي تجريها المؤسسات والشركات بصفة مستمرة لمعرفة ميول «زبائن» منتجاتها من السلع والخدمات حتى تواكب احتياجات السوق واتجاهاته.

في الوقت نفسه فإن اتجاهات الرأي العام تشكل جانبا كبيرا من الدراسات الاكاديمية للعلوم السياسية في الولايات المتحدة. والمتخصصون في الرأي العام بين الاميركيين يشكلون نسبة كبيرة من دارسي العلوم السياسية.

مع ذلك فإن مجرد ذكر الرأي العام واستطلاعاته يرتبط في الذهن الاميركي بالسياسات العامة للحكم بوجهيه التنفيذي ـ البيت الابيض، وزارات الخارجية والدفاع والوكالات المتخصصة ـ والتشريعي ممثلا في مجلسي الشيوخ والنواب ولجانهما المتخصصة.

واذا ما اعتقدنا ان الصلة لا تنقطع أبداً بين الحاكم والمحكوم في النظام الاميركي بسبب عمليات استطلاع الرأي العام بشأن القضايا السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية فنحن محقون. اما اذا اعتقدنا ان استطلاعات الرأي إنما تزود الحكام بمعرفة يقينية عما يوافق عليه الرأي العام ولا يوافق عليه، وأن الحكام يسارعون الى تغيير اتجاهاتهم السياسية طبقاً لنتائج الاستطلاعات، فنحن نقع هنا في الخطأ.

لقد ظل البيت الابيض يعد الرأي العام لقبول فكرة ـ مجرد فكرة ـ حرب في فيتنام طوال عدة سنوات، بين انسحاب فرنسا مهزومة من هناك وبدء حرب اميركا على فيتنام، ولم يستطع ان يبني رأياً عاماً مؤيداً لحرب فيتنام. وتوالت الأعوام بعد ذلك وتوالى معها اتساع وتضخم حجم التدخل العسكري الاميركي في فيتنام بينما كانت استطلاعات الرأي العام الاميركي تدل على تناقص مستمر في تأييد هذه الحرب بمتوالية متجانسة مع ازدياد أعداد القتلى الاميركيين فيها. مع ذلك استمرت حرب فيتنام زهاء 13 عاما واتسعت لتشمل كلا من كمبوديا ولاوس، ولتشمل جامعات اميركا وميادينها في مظاهرات ضمت مئات الآلاف ضد هذه الحرب بعد ان تبين للشعب الاميركي ان استطلاعات الرأي العام لا تـصل الى آذان الحكــام المدنيــين والعسكريين، او انها تصل ولا من مجيب (...)

يكاد الوضع نفسه يتكرر في الوقت الحاضر مع إيران. فالولايات المتحدة ـ من ادارة بوش الإبن الى ادارة «التقدمي» باراك اوباما ـ مستمرة في جهد هائل من اجل تعبئة الرأي العام الاميركي لتأييد حرب على ايران. وقد استمر هذا الجهد لنحو ثلاث سنوات، ولم يوقفه تورط الولايات المتحــــدة في حرب في العـــراق وحرب في أفغانستان ونصف حـــرب تهدد بالتحول الى حرب كاملة في باكستان.

ولقد لجأت الادارة الاميركية في العهدين المتواليين الى كافة الأساليب في عملية بناء رأي عام مؤيد لحرب على إيران، بما في ذلك أساليب اختلاق اسباب لحمل الاميركيين على الاعتقاد بأن إيران تشكل خطراً أمنياً استراتيجياً على أميركا وعلى إسرائيل.

وتراوحت الدعايات في هذه العملية لبناء رأي عام مؤيد للحرب على إيران بين الحديث العام الخالي تماماً من التفاصيل الدالة عن خطر تحول إيران الى دولة نووية ... أي الى دولة تملك ترسانة نووية حربية، الى الحديث عن احتمالات قيام إيران بتزويد قوة إرهابية بسلاح نووي تهدد به أميركا أو أوروبا أو إسرائيل. وأخيراً جاء ما قاله روبرت غيتس وزير الدفاع الاميركي في جلسة استماع لمجلس الشيوخ (18/6/2010) من أن إيران قادرة على شن هجوم على اوروبا بواسطة عشرات او حتى مئات من الصواريخ، الامر الذي دفع الولايات المتحدة لأن تعيد النظر في نظامها الدفاعي الصاروخي.

وأضاف وزير الدفاع الاميركي ان «احدى المعلومات التي زودتنا بها المخابرات والتي ساهمت في اتخاذ القرار بتغيير النظام الدفاعي المضاد للصواريخ الذي تملكه الولايات المتحدة أنه في حال أرادت إيران شن هجوم صاروخي على اوروبا، فإن الأمر لن يكون مجرد صاروخ واحد او اثنين او حتى حفنة من الصواريخ، بل سيكون على الارجح وابلاً من الصواريخ. لذا فإن علينا التعامل مع عشرات او حتى مئات الصواريخ ».

ولا يحتاج المرء الى جهد ذهني كبير ليدرك ان الولايات المتحدة تشعر بانزعاج من مواقف اوروبا الرسمية والشعبية تجاه إيران وتجاه إسرائيل وتريد ـ بمثل هذه الشهادة الرسمية من وزير دفاعها ـ ان تخيف اوروبا وتصور لها إيران مصدراً للخطر على امنها. هذا من دون ان يذكر الوزير غيتس أية دوافع من اي نوع يمكن ان تدفع ايران الى شن مثل هذا الهجوم على اوروبا.

وقد تزامنت هذه الشهادة مع إعلان نتائج استطلاع للرأي اجراه معهد «بيو» الاميركي المتخصص في استطلاعات الرأي المتعلقة بالشعب والصحافة. ويفيد هذا الاستطلاع ان غالبية الرأي العام الغربي، وحتى في بعض الدول الاسلامية، يؤيد الخيار العسكري ضد ايران بسبب الخلاف حول ملفها النووي. وأظهر هذا الاستطلاع ـ الذي اعلنت مؤسسة «بيو» انها أجرته في 22 دولة، ان 66 في المئة من الاميركيين يؤيدون توجيه ضربة عسكرية الى إيران، وأن 59 في المئة من الفرنسيين يؤيدون هذا الخيار. وجاء رأي الأتراك مخالفاً حيث أيده 29 في المئة وعارضه 37 في المئة.

وهنا يظهر الوجه الحقيقي لصناعة استطلاع الرأي العام كما تمارسها مؤسسات متخصصة في الولايات المتحدة. ان استطلاع الرأي بهذه الصورة يبدو اقرب ما يكون الى عمل يتم في الخفاء ابتداءً من اختيار العينات التي تنتقى لتوجه لها اسئلة الاستطلاع الى «الخبراء» الذين يعهد اليهم بمهمة صياغة الأسئلة على النحو الذي يوجه الاجابات بصورة قصدية الى اتجاه متصور بصورة مسبقة. اي ان عملية استطلاع الرأي برمتها تكون مفصلة بحيث تنتهي الى نتائج محددة لا تختلف عما يريد المسؤولون اعلانه.

هكذا كانت تجرى استطلاعات الرأي التي قصد بها ان تبني رأياً عاماً مؤيداً لحرب فيتنام، انما اضيفت اليها خبرة المتخصصين بشأن النتائج، متى تكون سلبية ومتى تكون إيجابية من وجهة نظر المسؤولين مدنيين وعسكريين. إنما يلفت النظر بقوة ان عملية بناء رأي عام معاد لإيران ومستعد لإعطاء ضوء اخضر لحكامه ليبدأوا حرباً ضدها قد طالت كثيرا. فهل يرجع هذا الى حقيقة ان الرأي العام لا يطيق ان يتصور تحميله اعباء حرب جديدة بينما بلاده ـ الولايات المتحدة ـ منهكة في حروب قريبة للغاية من إيران، في العراق وأفغانستان وباكستان، وكلها بلدان تربطها بإيران حدود مشتركة؟ ام ان السلطات الاميركية بما فيها البنتاغون تعرف انها لا تستطيع التعويل على نتائج استطلاعات للرأي لا تتمتع بقدر كاف من المصداقية؟

إن الظروف الراهنة للازمات الدولية تؤكد للقاصي والداني أن هدف حماية إسرائيل هو الهدف الحقيقي من وراء عملية بناء رأي عام مؤيد للحرب على إيران؟

لا شك ان الولايات المتحدة منزعجة بشدة من اشتداد حدة الازمة بين إسرائيل وتركيا في أعقاب جريمة إسرائيل ضد سفن الحرية التي ارتكبت في المياه الاقليمية، بينما كانت السفن متجهة الى غزة محملة بمعونات لشعبها المحاصر. والولايات المتحدة منزعجة بشدة من وقوف إيران مع تركيا في صف واحد في هذه الازمة. وفضلاً عن ذلك فإن الولايات المتحدة قد اصابتها خيبة امل شديدة من مشاركة تركيا إيران والبرازيل في الاتفاق الذي هدف الى إنهاء ازمة الملف النووي الإيراني عن طريق توقيع طرفين غربيين (تركيا والبرازيل) على اتفاق يضمن لإيران حق الحصول على اليورانيوم المخصب ويضمن في الوقت نفسه ان يستخدم هذا اليورانيوم المخصب في الأغراض السلمية وحدها.

إن إدارة أوباما تشعر نتيجة لهذه التطورات بأن الامور تجري في غير الاتجاهات التي تسمح لها بأن تثبت لإسرائيل أنها لا تبعد عنها بأي قدر أياً كانت الاخطاء التي ترتكبها بحقها... اي بحق الولايات المتحدة نفسها. ولا تزال ادارة اوباما تترك للكونغرس بمجلسيه مهمة طمأنة اسرائيل الى ان شيئاً لم يتغير في سياسة الولايات المتحدة تجاهها، وأن الضغوط الاميركية ستستمر للدفاع عن اسرائيل وأهدافها حتى وإن تناقضت مع بيانات اميركية سابقة تتعلق بالنشاط الاستيطاني الاسرائيلي في الضفة الغربية والقدس.

ومن الطبيعي ان تشعر الادارة الاميركية ـ نتيجة للتطورات التي حدثت بعد عدوان اسرائيل الدموي على النشطاء المدنيين في قافلة الحرية ـ ان الامور تفلت من بين يديها، وأن قافلة الحرية بعد الجريمة الاسرائيلية، وعلى الرغم منها، تنجح في جمع التأييد لمطلب رفع الحصار عن غزة بصورة شاملة. ولهذا فإنها تستخدم هذا التوقيت لتشديد التهديدات بهجوم عسكري على إيران، إن لم يكن لإبعاد الانظار عن قضية غزة فمن اجل خلق وضــع بالغ التــــوتر حول ايران وتركيا معاً. وضع يصور لرجـــل البيت الابيض الاميركي انه يمكن ان يلحـــق أذى داخلياً بكل من الحكومتين التركية والإيرانية.

إن التهديد باللجوء الى الخيار العسكري مع إيران هو في الوقت نفسه تهديد بوضع تركيا في وضع الاختيار، بين تأييد إيران، او الانصياع لما يمكن ان يعهد به الى تركيا في خطة اطلسية عسكرية تستهدف إيران. وأكبر الظن هنا ان الولايات المتحدة تحاول استفزاز القوات المسلحة التركية لاتخاذ موقف مناقض لموقف حكومة أردغان قد يصل الى حدود الانقلاب عليها لصالح العلاقة مع حلف الاطلسي ومع الولايات المتحدة بوجه خاص خدمة لإسرائيل.

والوضع التركي ليس بهذه البساطة التي تتصورها الولايات المتحدة.. لكن هذا لا ينفي حقيقة ان رفــــع منسوب التهديد ضد ايران وفتح المجال واسعاً له ليشمل اوروبا هـــو تصرف لا يضع إيران في مركز رؤيته وحـــدها انما يضع ايضاً تركيا ونزاعها الراهن مع إسرائيل.

وتعرف الولايات المتحدة جيداً ان اللجوء للاختيار العسكري مع إيران من أجل إسرائيل يخلق موقفاً بالغ الخطورة لقواتها التي تحارب في البلدان الثلاثة المحيطة بإيران، وبالغ الصعوبة لإسرائيل التي لا تزال في مرحلة البحث عن نظام دفاعي مضاد للصواريخ... فالحقيقة التي تعرفها واشنطن جيداً أن إيران تملك قوة لا يمكن الاستهانة بها... فضلاً عن قوة حلفائها في المنطقة. الامر الذي يجعل خطة اميركية لحماية إسرائيل تحمل كل سمات خطة لكشف نقاط ضعف إسرائيل والتركيبة المجتمعية الاسرائيلية التي لا تتحمل اي درجة من الخسائر البشرية في حرب تتوقع الولايات المتحدة نفسها ان تكون في الاساس حرباً صاروخية.

لهذا فإن الولايات المتحدة لا تغامر فقط اذا اطلقت الرصاصة الاولى في حرب ضد إيران، انما هي تغــامر باستمرارهـــا في تصعيد عملية التحريض ضد إيران وسط كل المشـــكلات التي تواجهها من دون ان تطلق رصاصة واحدة.

والسؤال الآن إلى أي مدى تستطيع الولايات المتحدة الذهاب في حماية اسرائيل حتى ضد القانون الدولي؟
وأياً تكن الإجابة فإن استطلاعات الرأي لن تجــدي..تماماً كما لم تجد في الحروب السابقة.
"السفير"

التعليقات