31/10/2010 - 11:02

حرب أكتوبر 73 ومكانها في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي/ د.مصطفى كبها

حرب أكتوبر  73 ومكانها في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي/ د.مصطفى كبها
قبل ثلاث وثلاثين سنة من اليوم، في السادس من تشرين الثاني 1973 الموافق العاشر من رمضان عام 1393 للهجرة، اندلعت على جبهتي سيناء والجولان حرب كثيرة المسميات، ففي القاموس السياسي العربي تدعى "الحرب العربية -الإسرائيلية الرابعة" أو "حرب أكتوبر" أو "حرب رمضان" ويغلب عليها في القاموس السياسي الإسرائيلي اسم " حرب يوم الغفران" وذلك لوقوعها في يوم عيد الغفران حسب السنة العبرية في تلك السنة.

احتلت دروس هذه الحرب، على المستوى العسكري- التكتيكي، لها مكاناً مهماً في الفروض الدراسية لطلاب الكليات العسكرية في العالم، لا سيما وأن في هذه الحرب تم تنفيذ بعض العمليات العسكرية التي تتطلب تنفيذها تجهيزاً وتدريباً بمستوى مهني متقدم وكفاءات قتالية عالية، كعملية عبور القوات المصرية لقناة السويس واقتحامها لخط بارليف الحصين، هذه العملية التي تعتبر، وبحق، إحدى ألمع العمليات العسكرية في القرن العشرين، وهي لا تقل في دقة تنفيذها وفداحة نتائجها عن معارك فاصلة أخرى وقعت في ذات القرن خاصة في الحرب العالمية الثانية كعملية الإنزال التي قام بها الحلفاء في شواطئ نورماندي أو معركة العلمين، ذائعة الصيت، التي دارت رحاها في كثبان الفيافي الرملية بين مصر وليبيا.
كان جمال عبد الناصر بعد أن قبل بمبادرة روجرز الأمريكية التي أنهت حرب الاستنزاف والتي استمرت قرابة الثلاث سنوات، فد أوعز إلى الفريق محمد فوزي، القائد العام للقوات المسلحة في حينه، بالاستمرار في عمليات التحضير لاستئناف المرحلة الثالثة من مراحل استراتيجية " محو آثار العدوان " والتي كان قد أعلن عنها في الحادي عشر من حزيران 1967 بعد عدوله عن استقالته وعودته لمزاولة كافة مسؤولياته. وتقتضي هذه الخطة بالعودة، عن طريق القوة، إلى حدود ما قبل حرب حزيران وذلك طبق مراحل ثلاث هي مراحل "الدفاع" و"الردع " و"التحرير". ولكن عندما بدأت مصر بتطبيق هذه الخطة جوبهت برد إسرائيلي عنيف أوجب المصريين تعليق الخطة الأصلية والبدء بحرب الاستنزاف التي جوبهت هي الأخرى باستنزاف مضاد الشيء الذي أوجب في النهاية القبول بوقف لإطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر بدأت في الخامس من آب 1970، وكان المفروض أن تنتهي في الخامس من تشرين الثاني من نفس السنة.

ولكن وفاة عبد الناصر المفاجئة في الثامن والعشرين من أيلول أوجبت بعض التغييرات على الخطة الأصلية. ويبقى السؤال الذي لم يبت فيه حتى الآن هو هل كانت حرب أكتوبر 1973 هي المرحلة الثالثة (مرحلة التحرير) من استراتيجية بناها عبد الناصر لمحو آثار العدوان؟ أم هي استحداث قام به السادات ورجاله، وقفت من ورائه الرغبة في شن حرب محدودة يصل الجيش المصري من خلالها إلى عمق أقصاه 18 كم شرقي القناة ويتم من خلال ذلك تحريك المساعي السلمية المعتمدة على خطط الديبلوماسية الأمريكية أي تحييد كامل للإتحاد السوفييتي، الحليف الأساسي لمصر والعالم العربي عبر عقدين من الزمان.

وتبعاً لهذا الخلاف بين من خاضوا في هذا الموضوع اختلفت تسميات خطة الحرب من خطة "جرانيت " إلى خطة "القباب العالية " إلى خطة "بدر" كما كان يحلو للسادات ورجاله تسميتها. ولم يكن اختلاف المسميات يقتصر على البعد اللفظي بل تعداه إلى المضامين والمدى الجغرافي الذي طمحت كل خطة من الخطط الوصول له. ففي حين يتحدث محمد فوزي عن خطة وضعت في صيف 1970 وصادق عليها جمال عبد الناصر قبل وفاته تصل في قمتها إلى الحدود الدولية في رفح، يتحدث سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري أثناء الإعداد للحرب وفي مرحلتها الأولى،عن خطة تقضي بالوصول إلى مضائق المتلا والجدي والسيطرة عليهما.

أما رجال السادات فيتحدثون عن خطة سعت لعبور قناة السويس والسيطرة على التحصينات شرقها إلى مدى لا يتجاوز ال -18 كم. وكما يبدو فإن الخلاف على المدى الأقصى كان سبب الإطاحة بسعد الدين الشاذلي من منصبه على الأرجح في اليوم السادس أو السابع للحرب، مع العلم أن هناك تضارب في الآراء حول المواقف التي تبناها أو سعى إليها كل منهما.

لن يستطيع رجال السادات ومؤيدوه مهما حاولوا طمس دور عبد الناصر وتجاهله (بشكل يخدم جهود هذه المجموعة في صناعة أسطورة "بطل العبور " التي سعى أنور السادات جاهداً في بنائها لنفسه) أن ينكروا ما تم تحقيقه في حرب الاستنزاف كعتبة مرّ عليها الجيش المصري في طريقه إلى إنجازه الكبير في عملية العبور. فقوات المغاوير التي كانت طلائع القوات المصرية العابرة للقناة تم تدريبها وتأهيلها من خلال عشرات عمليات العبور المحدود أثناء حرب الاستنزاف والخطوط العريضة للتغلب على السواتر الترابية والستار الغازي الملتهب والدشم والتحصينات الهائلة شرق القناة كانت قد شكلت بلا شك أثناء حرب الاستنزاف.

في المقابل كان السادات ومعاونوه هم الذين طوروا الخطة وتابعوا التنظيم والتدريب والأهم من ذلك أضافوا عنصراً أساسياً لها وهو إحياء فكرة الجبهة الشرقية التي فشلت فشلاً ذريعاً أثناء حرب الاستنزاف وتطويرها من خلال فتح جبهة عريضة ثانية في الجولان والتنسيق مع القيادة السورية (علماً أنه اتضح فيما بعد،من مصادر لم يثبت بالشكل القاطع وثوق أقوالها، أن التنسيق لم يكن كاملاً وأن السادات أخفى عن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد تفاصيل اتصالات له كانت مع كيسنجر قبل الحرب وأثناءها). والأهم من ذلك كله أنه ليس بوسع أحد أن يسلب من السادات الحقيقة القائلة بأنه كان الشخص الذي اتخذ القرار لبدء الحرب ولإنهائها وفي الحالتين كان القرار يتطلب قدراً ليس قليلاً من الحزم والجرأة.

إذا أردنا أن نلخص أهم ما ميّز هذه الحر ب نستطيع القول إنها كانت صراعاً بين الصواريخ السوفياتية إن كانت من طراز "ساجر" المضادة للدروع أو صواريخ " سام 6 " المطاردة للطائرات الأمريكية الحديثة من طراز سكاي هوك وفانتوم وبين القلاع الإسرائيلية الثابتة والمتحركة والطائرة. فالصواريخ المحمولة على الكتف أدت دوراً مفصلياً في التصدي للهجوم الإسرائيلي المضاد الذي شن في الحادي عشر من أكتوبر وفي معارك الدروع الهائلة في منطقة المزارع الصينية والتي لم يشهد التاريخ الحربي العالمي أشرس منها منذ معركة العلمين الضروس. أما حائط صواريخ سام 6 المضاد للطائرات والذي بناه المصريون في الساعات الأخيرة من حرب الاستنزاف، فقد كان بمثابة المظلة الحامية للقوات المصرية المتقدمة شرقي القناة حيث منعت سلاح الجو الإسرائيلي من استغلال تفوقه النوعي على سلاحي الجو المصري والسوري ومنعت وضعاً تكون فيه القوات البرية المتقدمة فريسة سهلة للطائرات الإسرائيلية كما كان الوضع في حرب 1967.

وفوق ذلك كله كان المقاتل الفرد المؤهل والمعد إعداداً جيداً على الجبهتين هو الورقة الرابحة التي مكنت تحقيق المنجزات التكتيكية في المراحل الأولى من الحرب. ولن تفلح التطورات اللاحقة في نهاية الحرب من محو المنجزات الأولى بالنسبة للمقاتلين الذين شعروا، من خلال تلك المنجزات، بمحو عار الهزيمة الذي ربض على صدورهم فترة ليست بالقليلة، مع العلم أن الولايات المتحدة وضعت كل ثقلها في الحرب من خلال جسر جوي مباشر إلى ساحات القتال كان من شأنه قلب الصورة ومنع الدول العربية من تحقيق نصر عسكري أول في حروبها المتكررة مع إسرائيل.

على الرغم من هذه الأهمية على المستوى التكتيكي العسكري وعلى الرغم من الفرص الهائلة التي فتحتها هذه الحرب على الصعيد الاستراتيجي طويل المدى للصراع العربي الإسرائيلي، فإن الطرف العربي لم يحسن استغلال تلك الفرص التي تمخضت عنها نتائج تلك الحرب ولم يحولها إلى نتائج سياسية ومعنوية ملموسة، في حين أحدثت مجريات تلك الحرب ونتائجها هزة ارضية في السياسة الإسرائيلية وكانت بمثابة الرافعة لتصحيح الأخطاء وتداركها ومحاولة إعادة التفوق العسكري بكل ثمن والحفاظ على الهوة التي كانت قائمة إثر حرب حزيران عام 1967.

لم يستغل المخطط الاستراتيجي العربي (إن وجد) نتائج هذه الحرب وتجلياتها ( وأهمها تقويض اسطورة التفوق الاستراتيجي العسكري غير القابل للجسر، واستعمال الدول العربية مجتمعة (ولأول مرة في تاريخها) سلاح النفط والضغط من خلاله على الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية) في مرحلة مفاوضات ما بعد الحرب، ولم يخطط لخطوات كانت من شأنها الحفاظ على المكانة الاستراتيجية المؤقتة التي أكتسبها العرب، كقوة واحدة، على مسرح السياسة الدولي بعد استغلالهم المؤثر لسلاح النفط.

بالنسبة لمرحلة مفاوضات ما بعد الحرب فقد تم تقزيم المنجزات التي حققتها القوات العربية في المراحل الأولى للحرب على الرغم من أن بعضها (كعبور القناة والسيطرة على خط بارليف) كان مازال قائماً بل أصبح حقيقة واقعة ولم تنتقص منه ثغرة الدفرسوار ووصول بعض الوحدات الإسرائيلية إلى مشارف مدينة السويس، بل ووصولها في بعض الاندفاعات الطولية إلى نقطة تبعد 101 كم فقط عن القاهرة.

لقد أدخلت هذه التطورات الأخيرة غرفة عمليات الجيش المصري (التي أدارها أنور السادات بنفسه وذلك بعد أن عزل رئيس أركانه الفريق سعد الدين الشاذلي في المراحل الأولى للحرب متهماً إياه بالانهيار العصبي) في حالة من الرعب والهلع ساهم في خلقها كذلك مرسلات سرية وصلت من هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، هوّلت لحجم الثغرة التي أحدثها الجيش الإسرائيلي في الدفرسوار ولحجم الخسائر المصرية المحتملة، عسكرياً ومعنوياً، إن لم يجنح المصريون إلى مسار انفرادي للتفاوض يكون من شأنه "إنقاذ ماء الوجه" والحفاظ على ما تم انجازه في الأيام الأولى للحرب.

لقد كان لهذه المرسلات التي وصلت إلى القاهرة تباعاً من واشنطن فعل السحر على طريقة إدارة أنور السادات للحرب على الجبهة المصرية وانعكاس ذلك سلباً على الجبهة السورية التي انعدم التنسيق معها والحرب مستعرة الأوار بعد، فكان ذلك بداية تقويض أهم أساس قامت عليه الحرب وهو العمل المنسق على جبهتين بشكل يمنع إسرائيل استعمال قواتها الضاربة بشكل تام وناجع على أي منهما.

في المفاوضات التي جرت لفصل القوات بعد وقف إطلاق النار بوساطة أمريكية جرى تجاهل المنجزات التي حققها الجيش المصري في بداية الحرب من وجهة النظر الاستراتيجية حيث تم التفاوض تحت وطأة محاصرة الجيش المصري الثالث والتعامل مع مصر وكأنها الطرف المهزوم التواق لإنهاء الحرب وكأن وضع الوحدات الإسرائيلية المتواجدة في الثغرة وضع جيد يسمح لها بخوض حرب استنزاف طويلة بشكل يؤهلها لفرض المزيد من التنازلات على الطرف المصري. والحقيقة أن هذه الوحدات كانت أحوج لوقف القتال والتراجع للوراء من القوات المصرية، وحتى من وحدات الجيش الثالث المحاصر.

لقد تم توظيف هذه المعادلة بشكل شبه تام لصالح السياسة الأمريكية في المنطقة، وذلك حين جنح الرئيس المصري، وبشكل انفرادي، للتفاوض مع إسرائيل معلناً على الملأ أن 99% من أوراق الحل في الشرق الأوسط هي في يد الولايات المتحدة الأمريكية، مانحاً بذلك هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، أهم جائزة ممكن أن يحلم بها وهي بداية تحييد دور مصر كرأس حربة للصراع وعزلها عن باقي الدول العربية. تلك العملية التي استمرت من خلال اتفاقيات فصل القوات عام 1974 ومسار المفاوضات السرية التي قادت إلى زيارة السادات للقدس في تشرين الثاني عام 1977 والتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل عام 1979.

كانت هذه العملية مصاحبة بتغييرات جوهرية في السياسة المصرية في الداخل والخارج. ففي الصعيد الداخلي قام السادات بتقوية نهج سياسة "الانفتاح الاقتصادي " وتقويض النهج الاشتراكي لسلفه وتبني شبه كامل للسياسة الاقتصادية الرأسمالية، كما وأجرى تغييرات بنيوية جذرية في مبنى القوات المسلحة حيث تم استبدال سياسة التسلح بالسلاح الروسي (الذي كان جمال عبد الناصر قد تبناه منذ منتصف الخمسينيات) بسياسة التسلح بسلاح غربي وأمريكي ومن الطبيعي أن تصاحب ذلك صعوبات في الاستيعاب، إن كان ذلك على مستوى كوادر القوى البشرية أو على البنى التحتية والتقنيات.

والأهم من ذلك هي الحقيقة أن الجيش المصري الذي استطاع أن يبني نفسه من جديد بعد هزيمة حزيران 1967 وخلال حرب الاستنزاف وفترة التحضير لحرب أكتوبر بشكل أوصله إلى حالة من التعادل الاستراتيجي مع الجيش الإسرائيلي، سرعان ما فقد هذا التعادل وذلك لانشغاله باستيعاب مقتضيات التحول من التسليح السوفياتي إلى التسليح الغربي والأمريكي، وما واكب ذلك من صعوبات إما على صعيد تحضير كوادر القوى البشرية الملائمة وتغيير الأسس التدريبية والتعبوية التي كانوا قد نشأوا عليها، وإما على صعيد التقنيات والبنى التحتية الملائمة لاستيعاب ذلك التحول.

وقد أدى انشغال الجيش المصري بذلك إضافة إلى تخفيض حال الجهوزية القصوى التي ميزت عمله على مدار الفترة الواقعة بين 1968 -1973، إلى المراوحة في المكان إن لم نقل التدني الشديد بالمستوى خاصة فيما يتعلق بالكفاءات الفردية للمقاتل المصري والتي تم التأكيد عليها في عملية إعادة البناء أثناء حرب الاستنزاف وفترة الإعداد لحرب أكتوبر. هذه التطورات أدت للإخلال في حالة التعادل الاستراتيجي التي تم الوصول إليها في الفترة المذكورة أعلاه، لا سيما وأن الطرف الثاني بذل جهوداً كبيراً في استيعاب دروس الحرب وتعويض الخسائر والاستمرار بسياسة التسلح والتعبئة بشكل جعل الهوة تتسع مجدداً بين الطرفين بل تزيد اتساعاً عما كانت عليه حتى بعد هزيمة حزيران 1967. فالجيش المصري لم يعوّض خسائره بكاملها ولجأ إلى تخفيض كبير في قواه البشرية (في فترة الإعداد لحرب أكتوبر كان عدد القوات المصرية المقاتلة يتراوح بين 800000 - مليون مقاتل) هذا فضلاً عن أنه لم يمارس القتال الفعلي منذ اتفاقيات فصل القوات الموقعة مع اسرائيل في ربيع 1974.

مع كل ذلك، علينا أن ننظر للأمور بمنظار المتفحص للنتائج التي استقر عليها الوضع بعد عاصفة الحرب. وعليه يمكننا القول إن الوضع لم يعد كما كان بل تم تغييره على الأرض لصالح الطرف العربي فالقوات المصرية أضحت تسيطر على قناة السويس بضفتيها (الشيء الذي مكنها من فتحها للملاحة لاحقاً عام 1975) وهذا أمر يجب عدم التقليل من أهميته، وكذلك الأمر بالنسبة لسوريا التي استعادت مدينة القنيطرة ومحيطها وذلك على الرغم من دخول القوات الإسرائيلية في نها ية الحرب لمناطق سورية لم تكن محتلة قبل الحرب في محيط قرية سعسع (تم الانسحاب منها بعد اتفاقيات فصل القوات على الجبهة السورية).

ولكن هذه المنجزات النسبية، إضافة إلى التنسيق المجزوء بين مصر وسوريا والتضامن العربي المؤقت، يمكن اعتبارها فورة واحدة من فورات مؤقتة ميّزت مسيرة الأقطار العربية منذ استقلالها، ولم يكن لها استمرار بل عودة إلى روتين النهضة المبتورة ومناخ الزمن الرديء.

التعليقات