31/10/2010 - 11:02

صبراً أيها المستعجلون../ معن بشور

صبراً أيها المستعجلون../  معن بشور
تكاد تكون مسألة اعتراف الحكومة الفلسطينية المنتخبة بالكيان الصهيوني، أو بالاتفاقات المعقودة معه، هي المسألة المحورية في كل ما نشهده اليوم في فلسطين وحولها من حصار عربي ودولي خانق، ومن صراع سياسي محتدم، بالإضافة إلى محاولات متكررة لإشعال فتيل الفتنة والاقتتال الفلسطيني الفلسطيني الذي كان الى وقت قصير من المحرمات في التاريخ الوطني للشعب الفلسطيني.

ولن نناقش اليوم مسألة الاعتراف الفلسطيني بالكيان الصهيوني، أو بالاتفاقات المعقودة معه، من موقع عقائدي أو أخلاقي أو مبدئي، (مع أن العقائد والمبادئ والأخلاق هي ثمرات تجارب طويلة مرت بها الشعوب والأمم، بل مرت بها الإنسانية بأسرها)، بل سنناقش هذا الاعتراف من موقع “واقعي وواقعي جداً”، كما يحب “الواقعيون الجدد” المحيطون بالرئاسة الفلسطينية أن يفعلوا، أي من موقع الخبرة التاريخية للشعب الفلسطيني نفسه وتجارب قياداته الوطنية بالذات.

بعد حرب اكتوبر/ تشرين الأول عام ،1973 قيل للقيادة الفلسطينية بوضوح إنه إذا أردت أن تستثمري هذه الحرب لمصلحة القضية الفلسطينية، فما عليك إلا تقديم برنامج “مرحلي واقعي” يمكن تسويقه لدى المجتمع الدولي.

وهكذا كان بالفعل، فقد أقر المجلس الوطني الفلسطيني في يونيو/ حزيران 1974 ما سمي آنذاك برنامج “النقاط العشر” أو “البرنامج المرحلي الفلسطيني” الذي دعا إلى قيام سلطة وطنية فلسطينية على أراضي ،1967 بما يعني ضمناً التنازل “مرحلياً” عن بقية الأرض الفلسطينية وقبول فكرة “الدولتين” بعد أن كانت، ولعقود، موضع اعتراض فلسطيني وعربي شديد، خصوصاً أن رصاصات “فتح” الأولى انطلقت في 1/1/1965 ولم تكن الضفة الغربية وغزة محتلتين.

قيل يومها إن موازين القوى لا تسمح بأكثر من ذلك، وانهالت الاعترافات بعد ذلك البرنامج على منظمة التحرير الفلسطينية، وصدر عن القمة العربية ما يفيد التأكيد بأنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، لكن في الميدان انطلقت ضد المنظمة حرب شرسة في لبنان، بعد أقل من عام على اقرار برنامج “قيام السلطة الوطنية”، وهي حرب داخلية واكبتها أكثر من حرب “إسرائيلية” عليها لإخراجها من لبنان (،1978 1981) لتصل إلى الذروة في الغزو “الإسرائيلي” للبنان في يونيو/ حزيران 1982.

بعد الخروج الفلسطيني المسلح من لبنان (بيروت ثم طرابلس) وبعد مبادرة الملك فهد الشهيرة في خريف 1982 (أي بعد الخروج من بيروت)، والتي سبقتها بأيام مبادرة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، ظن كثيرون يومها أن فرصة “الحل” قد لاحت أخيراً، وما على الفلسطينيين سوى إبداء المزيد من المرونة والواقعية.

وبدلاً من أن تتقدم مسيرة “الحل الواقعي” للمسألة الفلسطينية، تم اغراق الفلسطينيين بالدم من جديد، في اقتتال عرفه البقاع والشمال في لبنان (صيف وخريف 1983)، ليمتد إلى مخيمات بيروت والجنوب ،1985 فبدا إثر ذلك الاقتتال المتصاعد أن الحل المرتقب بات مستحيلاً.

ولكن المياه عادت لتتجمع في نهر الكفاح الفلسطيني العظيم من جديد، بفضل البطولة النادرة لشعب فلسطين الذي طالما بدا كطائر الفينيق ينبعث دائماً من قلب الرماد، وبفضل الطبيعة الاستثنائية للقيادة الفلسطينية التاريخية التي كانت تعرف كيف تصل إلى بوابة “النار” لكنها لا تلجها، فكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة)، التي أزعم أن فكرتها دارت في رأس الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) حين كان في طرابلس في الربع الأخير من عام ،1983 وقد ألهمته “انتفاضة” الزيت المغلي، في جنوب لبنان وسألني أبو جهاد (رحمه الله) حينها أن أجمعه بلبنانيين جنوبيين يحدثونه عن الجانب “المدني” من المقاومة الوطنية اللبنانية.

بعد تلك الانتفاضة الأولى التي دامت سنوات، وبعد تطورات إقليمية ودولية (كحرب الخليج الأولى)، أدت الى انعقاد مؤتمر مدريد في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1991 (ذكرى وعد بلور.. يا للمصادفة) وبمشاركة فلسطينية من الداخل، (وفي اطار الوفد الأردني آنذاك)، جاء من يهمس في أذن قيادة منظمة التحرير: “ما لكم وللعرب.. فكل طرف منهم يعمل سراً لحسابه الخاص وبشكل منفرد، فلماذا لا تعقدون “مفاوضاتكم السرية” أيضاً مع "الإسرائيليين". فكانت محادثات أوسلو ثم الاتفاق عام 1993 بعد محادثات ثنائية سرية بين فلسطينيين و”إسرائيليين” في العاصمة النرويجية ومن وراء ظهر الفريق الفلسطيني المفاوض في واشنطن آنذاك.

وظن كثيرون يومها أن الفلسطينيين، وعلى الرغم من كل التنازلات المبدئية والسياسية التي تنطوي عليها اتفاقيات أوسلو وملاحقها، قد بدأوا فعلاً رحلة الهبوط على أرضهم، بعد عقود من التشرد، بل بدأوا رحلة الإقلاع نحو دولتهم التي سميت تأدباً في اتفاق أوسلو ب “السلطة الفلسطينية”.

وقد حددت اتفاقية أوسلو جداول زمنية، ووضعت ملاحق، بدا فيها أن الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 (بعد أن جرى التنازل عن بقية أرض فلسطين) ستكون خالية من الاحتلال خلال سنوات لا يزيد عددها على أصابع اليد الواحدة، فإذا بالفلسطينيين يكتشفون أن كل بند من بنود هذا الاتفاق يحتاج إلى محادثات خاصة (كما قال آنذاك الرئيس الراحل حافظ الأسد)، بل ليكتشفوا أن ما تسمى مفاوضات الحل النهائي ليست إلا محاولة لاستدراج تنازلات فلسطينية نهائية عن القدس ومسجدها الأقصى ومقدساتها، وعن حق العودة للاجئين، فكانت الانتفاضة التاريخية للرئيس الراحل ياسر عرفات في كامب ديفيد الثانية عام 2000 و”وقفته” الشهيرة أمام “رئيس الولايات المتحدة بيل كلينتون”، ليأتي الرد الفوري عليها من خلال قيام شارون بتدنيس المسجد الأقصى (وبحماية من حكومة منافسه ايهود باراك) فجاءت الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) في 28/9/2000 حيث تزاوج الحجر بالرصاص، والتظاهرات الشعبية بالعمليات الاستشهادية، وتحول أبو عمار من مفاوض حائز على جائزة “نوبل للسلام” إلى رئيس محاصر في “المقاطعة” في رام الله لا يجرؤ زملاؤه من الملوك والرؤساء حتى على الاتصال الهاتفي به. وبدأ الحصار على أبي عمار، كما هو اليوم على حكومة فلسطين، مزدوجاً، حصار “إسرائيلي” أمريكي من جهة، وحصار رسمي عربي لم يشفع لديه عند أصحابه كل ما أبداه أبو عمار من مرونة كبيرة، كانت تثير اعتراض حتى أقرب أصدقائه والمدافعين عنه.

ومع ذلك استمرت الانتفاضة، ومعها المقاومة، ضد الاحتلال، واستمر الحصار والمقاطعة لأبي عمار في “مقاطعة” رام الله، فقيل يومها لولي العهد السعودي آنذاك، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، إن الحل بيديك، وما عليك إلا أن تطلق مبادرة سلام عربية ترتكز على “انسحاب كامل مقابل تطبيع كامل”. فكانت قمة بيروت مارس/ آذار 2002 والتي أجمع المشاركون فيها على تأييد هذه المبادرة.

ورغم أجواء التفاؤل والمصالحات التي رافقت قمة بيروت، فقد منعت حكومة تل أبيب الرئيس عرفات (رحمه الله) من الحضور إليها، ثم ردت على المبادرة العربية، فوراً بعد إعلانها، بأن اجتاح الجيش “الإسرائيلي” مدن الضفة الغربية، ليقيم المجزرة تلو المجزرة من كنيسة المهد في بيت لحم إلى مخيم جنين، حيث رفضت حكومة تل أبيب السماح بدخول لجنة تحقيق دولية كان مجلس الأمن قد شكلها للتحقيق بمجزرة ذلك المخيم البطل.

بعد ذلك بقي أبو عمار محاصراً في مقره في رام الله، ما عدا جولة بسيطة في جنين، (كان ثمنها توقيع اتفاق مثير للجدل لفك حصار كنيسة المهد)، حتى وفاته “الغامضة” في خريف ،2004 وبقيت الضغوط مستمرة عليه (بما فيها ما يشبه انتفاضة أجهزة أمنية في غزة ضده وعشية وفاته) من أجل إعادة “هيكلة” السلطة الفلسطينية واستحداث منصب رئيس الوزراء، الذي تسلمه، فيما بعد، أبو مازن (محمود عباس) باعتباره شخصية معتدلة، وكانت “الخطبة الشهيرة” لأبو مازن في اجتماع العقبة الرباعي في يونيو/ حزيران 2004 الذي ضمه إلى الرئيس الأمريكي بوش، والعاهل الأردني عبدالله، وشارون، تمثل ذروة ما يمكن أن يقدمه الفلسطينيون، وكانت “الهدنة المعروفة” التي سرعان ما خرقتها حكومة شارون لتضع أبو مازن وحكومته في الزاوية.

واكتشف رئيس وزراء فلسطين آنذاك أن المطلوب منه ليس الاعتراف بالكيان الصهيوني فحسب، بل الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني بذريعة مكافحة “المتشددين” الفلسطينيين باسم “مكافحة الإرهاب”، فيما المتشددون الصهاينة، وبينهم إرهابيون موصوفون، يتناوبون على حكم “إسرائيل” الواحد تلو الآخر من نتنياهو إلى باراك إلى شارون.. فايهود أولمرت.. حتى لا ننسى شامير وبيغن وبن غوريون.

رد أبومازن على التعنت “الإسرائيلي” بالاستقالة من رئاسة الحكومة ليعود رئيساً منتخباً للسلطة بعد وفاة أبي عمار، وأشرف على انتخابات ديمقراطية نزيهة جاءت بأكثرية واضحة من حركة حماس، فإذا بأشد “دعاة” الديمقراطية والمتحمسين لها في الغرب يرفضون الخيار الديمقراطي لشعب فلسطين، ويمتنعون عن الاعتراف بأن نجاح “حماس” هو في جزء منه نتيجة اليأس الفلسطيني مما تسمى “عملية السلام” المتعثرة منذ سنوات، وبدلاً من الضغط على تل أبيب لتتراجع، اشتد الضغط والحصار، دولياً فعربياً ففلسطينياً، على حكومة اسماعيل هنية لإفشالها سياسياً واقتصادياً ولإسقاطها عقائدياً ومبدئياً إذا رضخت للشروط المفروضة عليها.

وإذا كان الموقف الدولي من حكومة حماس مفهوماً بسبب الدعم الغربي غير المحدود “للدولة العبرية”، وإذا كان الموقف الرسمي العربي معروفاً بسبب الإذعان الدائم للإملاءات الأمريكية، فما هو غير مفهوم موقف قوى فلسطينية، مرت هي نفسها بهذه التجربة المرة، من حكومة فلسطينية منتخبة.

وبغض النظر عن أخطاء وانفعالات وقع فيها بعض قياديي حماس، فمن الواضح أن استهداف الحكومة الفلسطينية اليوم هو لاستدراجها إلى الطريق ذاتها التي جرى فيها استدراج منظمة التحرير نفسها، قبل اتفاق أوسلو وأثناءه وبعده، إلى فخ الاعتراف بالكيان الصهيوني (وهي الورقة الأقوى بيد الفلسطينيين) ومن ثم إدارة الظهر الكامل لها، وشن حروب عليها وعلى الشعب الفلسطيني.

فهل نتعلم من دروسنا، أم نتجاهل ونقفز فوقها ونكرر أخطاءنا والخطايا؟ وبهذا المعنى فالرئاسة الفلسطينية، وعلى رأسها أحد مؤسسي أعرق حركات التحرر الوطني في العالم المعاصر، مدعوة اليوم ليست إلى الضغط على حماس للرضوخ للإملاءات الأمريكية (باسم مراعاة المجتمع الدولي)، بل للضغط عليها لكي تتشدد في مواجهة هذه الإملاءات، فتتكامل المرونة السياسية للرئاسة وحركة فتح مع التشدد المبدئي للحكومة وحركة حماس.

حينها فقط يمكن أن نرى في آخر النفق نوراً، وهو نور لا يكون مضيئاً بالفعل إلا إذا استمد نوره من نار المقاومة المشتعلة.

لقد آن الأوان لكي نتصرف جميعاً، فلسطينيين وعرباً، على أن تل أبيب بعد حرب لبنان في يوليو/ تموز 2006 هي غيرها قبل هذه الحرب التي هزمت فيها على يد المقاومة اللبنانية المجاهدة، وأن واشنطن بعد حروبها على العراق وأفغانستان هي غيرها قبل تلك الحروب التي تتراجع فيها قواتها يومياً، وبشكل متسارع، أمام ضربات المجاهدين من أبناء الأمة في البلدين.

فما النصر إلا صبر ساعة.. فقليلاً من الصبر أيها المستعجلون.

التعليقات