31/10/2010 - 11:02

عزمي بشارة في أيامه اللبنانية ../ جهاد بزي

عزمي بشارة في أيامه اللبنانية ../ جهاد بزي
عندما يغادر الدكتور عزمي بشارة لبنان، سيعود إلى <هناك>.

<هناك> هي الكلمة التي كان اللبنانيون يقولونها حين يريدون أن يسألوا بشارة عن فلسطين. وبشارة هو واحد ممن يحترمون السؤال، وممن لا يرمون إجابات جاهزة محفوظة. في إجابته عن كل سؤال، ثمة ما يشبه التحدي بينه وبين نفسه، في ان تكون فكرته جديدة ومفهومة. ثمة تحدّ بأن تكون فكرته شاملة.

يوم الجمعة الفائت، في محاضرته في جامعة القديس يوسف، اعتذر بشارة من المترجمين لأنه اعتبر أنه عذبهم. ربما فعل. كلامه مفتوح يصل إلى حدود التفكير بصوت عال في أحيان كثيرة. ولديه الكثير ليقوله. الأكيد ان حضوره لم يتعذب يومها من رجل يستطرد من السياسة إلى الفلسفة إلى اليوميات البسيطة للفلسطيني <هناك>، أو للعربي حيث كان. والرجل، بسمرته العربية وصوته الذي يحاول أن يضبطه لكنه يفلت منه دائماً ليرتفع عالياً، هذا الرجل لا يشبه الصورة التقليدية لأكاديمي ودكتور جامعي. ومحاضراته، غير المكتوبة، هي دائماً مقدمة لأسئلة الحضور تحثه على المتابعة الشديدة وعلى طرح الأسئلة. وفي محطاته اللبنانية، في القديس يوسف وفي الحركة الثقافية أنطلياس، وأمس في فندق البريستول بدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية، تعب هو قبل أن يتعب جمهوره منه، وبدا أن الوقت لا يتسع لكل ما عنده.

أول من أمس، في انطلياس، وبدعوة من الحركة الثقافية، ووسط مجموعة أكاديمية بغالبية من اساتذة الجامعة اللبنانية، أجاب بشارة عن سؤال <الهناك>. قال إن <هناك> بالنسبة له هي عدة قضايا وموضوعات. <القضية الفلسطينية والهم العربي وإسرائيل وعرب الداخل.. ولبنان. لبنان أحمله في قلبي هناك أيضا>. وتابع: <المسائل العربية واحدة تجمعنا كلنا>.

انطلاقاً من هذه المساحة الواسعة التي في قلبها الصراع ضد الهيمنة الأميركية، يقف بشارة عند خوفه الذي لا يضاهيه خوف الآن: الصراع الفلسطيني الفلسطيني>. وكأي مثقف غارق في قضاياه، يبدو كمن يقف ليحكي وحيداً في محيط لا يكترث: الهم الحالي والجهد ليس في حقن الدماء، بل حتى في حقن دموع لأنه لا يحق لنا أن يحصل مثل هذا الصراع في ظل احتلال.. لا تصح مقولة الحرب الأهلية في حالتنا لأننا لا نملك دولة بعد ونقاشنا الفلسطيني الداخلي حول قضايا نظرية مختلف عليها، وحسمها، لا يعني أن الطرف الإسرائيلي سيقبل بهذا الحسم>.

يتابع: ترى إسرائيل أن الحل بالنسبة إليها هو في فك الارتباط من طرف واحد من دون أن تعطي الفلسطيني حلا عادلا وشاملا. أي أن تدير ظهرها للمسألة الفلسطينية بأن تترك المناطق المكتظة بالسكان. الوحدة الداخلية ليست رفاهية بل قضية وجود. لدي انطباع بأن اسرائيل تعتقد أن نشوء صراع فلسطيني داخلي سيؤدي إلى خروج طرف فلسطيني يقبل بما تريده إسرائيل وما يرفضه الآن كل الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم. هذا الطرف الذي سيعمد بالصراع الداخلي والذي سيعتمد على اسرائيل في حسم هذا الصراع ويكون بالتالي مرتبطاً تماماً بإسرائيل. لا استبعد مثل هذا التخطيط أو التنظير الاسرائيلي، ربما يصل الى درجة التنفيذ. لذا فالجهد الاساسي منصب الآن على ترتيب البيت الفلسطيني. يقول المثل إن الذكي يخرج من مأزق لا يدخل إليه الحكيم اصلاً. ونحن نحتاج إلى ذكاء يخرجنا من هذا المأزق الذي لو تمتعنا بالحكمة لما دخلنا فيه>.

الوضع الصعب، بحسب بشارة، هو وصول حماس، التي لا تملك من مقوّمات حركة التحرر إلا المقاومة، وصولها إلى السلطة في ظل احتلال، مما جعلها تخسر الاثنين، أي المقاومة والسلطة. وفي المقابل، فإن الدعوة إلى الاستفتاء حول وثيقة الأسرى هي مشروع فتنة لأن من يريد هذا الاستفتاء يريد إفشال الحكومة المنتخبة>.

عزمي بشارة كان يحكي في أنطلياس، بينما الخبر الفلسطيني يأتي من غزة كئيباً يقول عن الصدامات بين فتح وحماس في غزة والضفة الغربية. بشارة كان يقول إنه إذا ترك الحوار الفلسطيني الفلسطيني لمن هو غير معني بالحوار من أناس معينين في حماس أو فتح، فهذه وصفة طبية ممتازة لإفشال الحوار. عزمي بشارة كان يختم مداخلته قبل ان يفتح الباب لأسئلة الحضور المتشعبة. كان يقول: نحن الآن لا نتوقع جهوداً إلا من المخلصين. صدقوني، نحن أمام همّ حقيقي إن لم نتجازوه فإسقاطاته ستطالنا جميعا. عدم اتضاح افق للمستقبل يؤرقنا جميعاً. بحاجة إلى كل الوطنيين العرب.

أما بالنسبة إلى لبنان، وبما يشبه الحرق يقول: نحن معكم. نتضامن معكم في هذه الأيام مثلما تتضامنون معنا. للأسف وصلنا إلى مرحلة أننا نتضامن معكم>.

بشارة تجنب الخوض في الداخل اللبناني، حتى في قضية مثل السلاح الفلسطيني. زيارته إلى بيروت محض ثقافية، ولا يريد ان يخوض في وحل ثان.

في البريستول

في البريستول امس، وبدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية ورئيسه خير الدين حسيب، تابع بشارة مناقشة همومه. قال إن السلطة التي لم تكن تستحق أن تكون وسيلة صارت هدفاً يتصارعون لأجله. وأضاف انه لا باس أن نعود لننتبه إلى وحشية الإسرائيلي وقتله للأطفال بعدما أختزلت قضية فلسطين إلى غزة والضفة. سخر من عزم وزير السياحة الفلسطيني (جودة مرقص) على الاستقالة، سائلاً: هل هناك من يعرف ماذا تعني عبارة وزارة السياحة الفلسطينية؟. عاد إلى الاستفتاء ليقول إنه في حقيقة امره يسأل الشعب الفلسطيني: هل تريد ان تأكل أم لا تريد ان تأكل؟ من يريد هذا الاستفتاء فهو من يريد حصد نتائج عملية إفشال الحكومة الفلسطينية. وقال إنه لا يلوم حماس لأن العرب في تعاطيهم السلبي مع هذه الحكومة يتقدمون على أميركا في محاولة إرضاء اميركا، مع أن حماس ليست طالبان وفلسطين ليست أفغانستان، وهناك جارات عربيات على خصومة مع فتح لا مع حماس وحتى هذه لا تريد التعاطي مع حماس.

أما بالنسبة لأوروبا فهي تفوّت فرصة تاريخية للحوار مع تيار إسلامي منتخب لتحاوره. لكنها، على العكس من هذا، ترفضه وتساهم في فرز المنطقة بين موال لأميركا وبين موال للأصوليات. يعود إلى المطلوب اليوم: حكومة الوحدة الوطنية وإعادة بناء وصياغة منظمة التحرير الفلسطينية لتضم حركتي حماس والجهاد والفصائل التي لم تكن حين إنشاء المنظمة. ثم ماذا؟ ثم لا شيء. نحن غير مقبلين على تسوية للقضية الفلسطينية. لماذا نحن من يطرح التسوية؟ فليطرحوا هم التسويات ونحن من يرفض ويقول لهم ائتونا بغيرها. لكن علينا أن ندير مجتمعنا بما يليق به وأن يكون قابلا للحياة. وهو شعب يستحق. شعب بطل ومناضل لم يتنازل ولم يوافق.

ياسر عرفات ذهب إلى كامب ديفيد ورجع رافضاً، وانظروا ما الذي حدث. قلت له: ها أنت لم تتنازل عن القدس وانظر كيف استقبلك شعبك كصلاح الدين. كيف لو أنك حررتها؟ شعب بطل يستحق اكثر مما يحدث الآن.

يقول إن الصهيونية عاجزة عن التعايش مع السكان الأصليين وإن فك الارتباط هو ترانسفير جديد لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين فوق أصغر رقعة ممكنة من الأرض. يسأل عن سبب اللاجدية في النضال ضد الجدار في وقت العالم كله مع الفلسطيني في هذه القضية وهناك قرار دولي ممتاز وقضائي حوله. يتابع ان الجدار جريمة بذيئة لا توصف، لا يعرف معناها إلا من استيقظ صباحاً فإذا بشقيقه الذي كان على بعد شارع منه صار على بعد آخر العالم بسبب جدار فصلهما.

جدار الفصل واحد من همومه. وكثيرة هي هموم عزمي بشارة في ايامه البيروتية. الجمهور لم يكل من السؤال حيث يذهب الرجل. يريد ان يعرف اكثر من سياسي طينة غير الطين الذي يعجن منه الساسة. اللغة مختلفة. واقعية وتحليلية وصادقة، واللهجة الفلسطينية تجعل الكلام أحلى. عزمي بشارة مختلف. فرد يناقش في كل شيء. نائب عربي في كنيست إسرائيلي لم ينقطع عن الاحتكاك بحكايات شارعه. مناضل ومفكر. يقول كلمته كما هي ولا يخاف إلا على قضيته. يبحث كثيراً. يؤلف كتباً ويكتب روايات. يحاضر في بيروت عن العتمة في العالم العربي، وربما العتمة في العالم. العتمة التي يضع إصبعه عليها تصيب بالكآبة. لكن وجوده وأمثاله بين العرب مشرق.

وجوده حاجة، إن هنا، أو في فلسطين، أي <هناك>.


"السفير"

التعليقات