19/02/2011 - 15:06

انتصار فكرة الثورة../ د.جمال زحالقة

إن انتصار الثورة في مصر تحديدًا، هو رسالة لكل الشعوب العربية بأن نهاية الطغيان ممكنة، فإذا سقط في مصر يمكن أن يسقط في كل بلد، إذا توفرت إرادة جماعية لإسقاطه، ولا حاجة لانتظار الانتقال المتدرج لإنهاء النظام

انتصار فكرة الثورة../ د.جمال زحالقة
إذا كانت الثورة التونسية هي هزّة أرضية تساوي خمسة في سلم ريختر، فإن الثورة المصرية هي زلزال وتسونامي يصل إلى ثمانية في هذا السلم. لقد حلم الكثيرون عشرات السنين، ونحن منهم، بثورة تطيح بنظام طاغية عربي، وها قد شهدنا ثورتين خلال شهر واحد والحبل على الجرّار. 
 
لقد شعر الملايين خارج تونس ومصر، بأنهم انتصروا وأن النصر لهم، وهذا دليل على عمق الانتماء للأمة ولقضاياها، وهذه بشرى بأن رسالة الثورة وصلت إلى العرب جميعاً حاملة أبعادها العاطفية والوجدانية والأخلاقية والعقلانية.
 
انطلقت الثورة في تونس وانتقلت شرارتها إلى مصر، لتصبح ثورة مصر عنوان المرحلة. العالم العربي يغلي، لا تونس بردت ولا مصر هدأت، والأمور بدأت تسخن في اليمن والبحرين وليبيا والجزائر، ومن الواضح أن كل المجتمعات العربية وكل الدول العربية تلمست طريقاً للخروج من أزماتها المزمنة ومشاكلها المستعصية. من الواضح أيضاً أن الشعوب العربية استعادت قدرتها على أن تحلم، وعلى أن تفكر في أن تجرؤ على فعل لتحقيق أحلامها.
 
لم تسقط الثورة المصرية، وقبلها التونسية، العائلة الحاكمة فحسب، بلا أسقطت جملة من النظريات، وما أسماه البعض بالمسلمات وما روّج له آخرون من مفاهيم. ولعل أول ما سقط هو فكرة الانتقال التدريجي للديمقراطية، وقد روّج لهذا الأمر مفكرون عرب، بعضهم من الصف الأول، استناداً إلى اعتبارات من الوزن الثقيل، منها الخشية من أن يؤدي الانتقال السريع عبر الثورات إلى فوضى الاحتراب الطائفي أو إلى سيطرة تيارات إسلام سياسي راديكالية تلغي الديمقراطية حالما تصل إلى السلطة عن طريقها، وفي كلتا الحالتين لا يؤدي الانتقال السريع نحو الديمقراطية إلى الديمقراطية. لذا دعت نخب ثقافية كثيرة إلى هدنة "تعلق فيها شعارات إسقاط الأنظمة القائمة لصالح مطلب إصلاحات ديمقراطية متدرجة".
 
في العقدين الأخيرين توالت الوعود بالانتقال التدريجي السلمي نحو الديمقراطية في عدد من الدول العربية منها الأردن ومصر وسوريا والمغرب والجزائر واليمن والبحرين والكويت والسودان، وكان هناك في مراحل معينة درجات متفاوتة من الانفتاح وحرية التعبير المحدودة، وحتى انتخابات خاضتها معارضات. في كل هذه التجارب، إذا صح التعبير، توقفت عملية "الانتقال التدريجي"، وانكفأت إلى الوراء وتراجعت بدل أن تتقدم.
 
لم تقدم الأنظمة العربية على ما يسمى بالإصلاحات الديمقراطية، حتى لو كانت محدودة، لاقتناعها بها، أو لأنها تخدم مصلحتها، بل كنوع من الاستجابة المرتبكة لضغوط داخلية وخارجية. لقد توقفت هذه الإصلاحات بسبب تحرك مضاد لشبكة المصالح التي تقوم عليها الأنظمة العربية والمكونة عادة من العائلة الحاكمة والمرتبطين بها من الفاسدين والمستفيدين، ومن أصحاب رؤوس أموال وبيروقراطية عسكرية وإدارية، وهذه الشبكة تعكس توزيع مراكز القوى في هرمية السلطة، وهي تنفي مقولة الحكم الفردي بمفهومة التقليدي، وهي تفسّر أنه في كثير من الأحيان لا يستطيع رأس السلطة الإيفاء بالوعود التي قطعها على نفسه أمام الناس مثل محاربة الفساد أو فتح المجال أمام توسيع مساحة الحريات الفردية واحترام حقوق المواطن.
 
حتى الآن فشل الانتقال المتدرّج نحو الديمقراطية، هذا ما أثبتته التجربة العملية، وهذا ما يمكن التوصل إليه بالتحليل النظري، على اعتبار أن المجموعات الحاكمة لا تتنازل بمحض إرادتها عن امتيازاتها من سلطة ومال. الواقع أن إستراتيجية النفس الطويل لم تؤد إلى تغييرات فعلية، بل ساهمت أساسًا في إطالة عمر الدكتاتوريات وأنظمة الطغيان. لقد ساد في العقدين الأخيرين خطاب التحول التدريجي، بغض النظر عن نوايا ودوافع وأهداف حامليه، ووضع كل من دعا إلى إسقاط أي نظام عربي في قفص الاتهام المجازي بتهمة الخطاب الخشبي والشعاراتية والبصلة المحروقة، وحتى عدم مواكبة روح العصر، وعدم الاعتراف بأن "عهد الثورات قد ولى"، وعدم الكف عن الحديث عن الجماهير ودورها، وغير ذلك من التهم التي أسهمت في تعطيل النقاش حول مستقبل الأنظمة وحتى إلى تسخيفه.
 
إذا وضعنا جانباً الكتاب المأجورين من الأنظمة، فإن دافع دعاة التغيير التدريجي المنسجمين مع أنفسهم هو الخوف من ثورات دامية ومواجهات عنيفة بين معارض ومؤيد، وكذلك هم فقدوا إيمانها بقدرة الشعوب واستعدادها للثورة على الأنظمة الدكتاتورية وإسقاطها.
 
جاءت ثورة تونس وبعدها ثورة مصر لتنسف كل التنظير عن فكرة الانتقال التدريجي في إطار الأنظمة القائمة. كانت الثورة سلمية لم يستعمل فيها المتظاهرون العنف، ولكنهم في المقابل لم يتراجعوا أمام العنف السلطوي، بل بالعكس كلما سقط شهداء وجرحى زادت عزيمة الناس وارتفع منسوب الغضب عندهم وأصبحوا أكثر تمسّكًا بمطلب إسقاط الطاغية والنظام. فهي إذن مظاهرات سلمية تستند إلى استعداد وجاهزية مكتسبة للتضحية ودفع ثمن الحرية. لقد استندت المظاهرات السلمية على إجماع في الشارع، وبهذا هي مهدت للديمقراطية الحقيقية، فالمظاهرات مثلت الشرعية الحقيقية، وكانت بمثابة استفتاء أو برلمان قال كلمة الشعب.
 
لقد أثبتت الثورة أنّ نظام الطغيان يسقط بالثورة، وبعدها يمكن الحديث بجدية عن ديمقراطية وحريات وعدالة واجتثاث الفساد وفصل السلطات. هذا الدرس تلقفته الشعوب العربية التي تعاني من نفس الأنظمة الشمولية، وهي لم تعد تقبل بها، وأصبحت أكثر استعداداً للثورة عليها. لقد انتصرت فكرة الثورة، أما إذا أرادت بعض الأنظمة أن تنقذ نفسها وتتفادى مصير مبارك وبن علي من خلال تنفيذ إصلاحات تستجيب لمصالح ومطالب الشعوب، فعليها أن تقوم بذلك بسرعة وأن تتحرك بجدية، فلم يعد سهلاً إقناع الشعوب بالانتقال التدريجي نحو الديمقراطية في إطار النظام القائم، وربما لم يعد ذلك ممكنناً أصلا.
 
 إن انتصار الثورة في مصر تحديدًا، هو رسالة لكل الشعوب العربية بأن نهاية الطغيان ممكنة، فإذا سقط في مصر يمكن أن يسقط في كل بلد، إذا توفرت إرادة جماعية لإسقاطه، ولا حاجة لانتظار الانتقال المتدرج لإنهاء النظام.

التعليقات