03/09/2012 - 15:26

الصوت الإيراني المنحاز في قمة "عدم الانحياز"../ نصري الصايغ

الخطاب الإيراني في القمة، ترجمته دول كثيرة وفق فهمها ومصالحها وارتباطاتها، فشطبت منه ما لا يناسبها، تماماً، كما فعل بعض الاعلام الإيراني، عندما شطب سوريا والربيع العربي من خطاب الرئيس المصري. التاريخ يستحقه الأقوياء. دول عدم الانحياز، ليست من هذا التاريخ. بكل أسف

الصوت الإيراني المنحاز في قمة

"عدم الانحياز" غير قابل للحياة، مرة أخرى.. الكتلة التي تمثلها مجموعة عدم الانحياز، هي الأكبر بين التكتلات الإقليمية، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد "الكتلة الكبرى" المتمثلة بالجمعية العامة للأمم المتحدة، ومع ذلك، فهي كتلة لا وزن لها، على المسرح الدولي. ومحاولة إيران لإعادة الروح إليها، غير مجدية. لعل المرغوب منها، أن تتصالح المجموعة مع عللها المتفاقمة.

عندما نشأت، كان الصراع السياسي والايديولوجي والعسكري (بالوكالة) في أوجه. معسكران يتواجهان ويقتسمان النفوذ في عالم خارج للتو من حرب عالمية، وحروب تحرير قومية، أفضت إلى إنجاز استقلالات هشة، بحاجة إلى انحياز لتلتحق بالتبعية بمعسكر. لتنجو سلطتها من عواقب الاستقلال، أو إلى استقلال حقيقي، تدفع ثمنه من استقرارها واقتصادها ووحدتها الوطنية.

يومذاك، كان العالم المنقسم بحاجة إلى متنفس سياسي واقتصادي دولي، خارج الفسطاطين، "الاشتراكي السوفياتي"، و"الامبريالي الغربي"... ولم تكن صدفة أبداً، ان يستشعر الحاجة إلى طريق ثالث، قادة رفضوا الالتحاق بأحد المعسكرين، وفضلوا إقامة علاقات متوازنة، بناءً على ما تفرضه المصالح الوطنية الخاصة، والمصالح الدولية المرتجاة. علاقات تبتعد عن مقولة، "صديق صديقي... وعدو عدوي".

تيسّرت لهذه الرغبة دول، وقيادات فذة لهذه الدول: جمال عبد الناصر في مصر الثورة، جوزف بروز تيتو في يوغوسلافيا الراغبة بالاستقلال التام عن الاتحاد السوفياتي ومنظومته، وجواهر لال نهرو، قائد القارة الهندية ذات الثقل الاستراتيجي والأخلاقي، وأحمد سوكارنو رئيس أكبر دولة إسلامية، والعامل على خلق مسافة واضحة عن واشنطن وكوامي نكروما، قائد النضال في افريقيا السوداء وملهمها. والتأمت مجموعة الدول "غير المنحازة" في مسيرة لم تنج من الانحياز والتبعية. كانت كتلة النقائض والتضاد. عمرت كثيراً وأنتجت قليلاً.

وعلى الرغم مما مثلته هذه الكتلة السياسية الكبيرة، فإن إنجازاتها غير قابلة للتسييل. كأن التاريخ تكتبه قوتان تتطاحنان في العالم، إلى أن اندثر المعسكر الاشتراكي، وسادت أميركا على العالم، مفضلة أن تكون الشرطي الوحيد، الذي ينفذ إرادة وقرارات الأمة الأميركية، التي وضعت قوميتها فوق الدول والمؤسسات كلها في العالم. "أنا الله. وهذه آيتي فأطيعوني".

ظنت الولايات المتحدة أنها قادرة على رسم نظام عالمي جديد، بقيادتها، من دون أن يشاركها أحد، ولا حتى حلفاؤها. ودشنت قيادتها بأفكار محافظة جديدة، واندفاعات عسكرية مغامرة، انتهت إلى تكديس خسائر ميدانية باهظة، وتدمير بلدان تعيش كوارث الحروب وما ينتج منها، وإغراق اقتصادات دولتها ودول العالم، في أزمات لا شفاء منها بعد، وقد لا تشفى منها أبدا.

في هذا المنعطف العالمي، وفي لحظة التغيرات التي لم ترسُ بعد على نظام بديل، وفي حقبة من الفوضى الدولية العامة، حيث مؤسسات المال الحاكمة والمتحكمة، غارقة في دوامة انهيارات نقدية قارية، وحيث الحروب الأميركية بالأصالة وبالوكالة، قد أدخلت التكتلات الإقليمية بهاجس النجاة، برهانات ميؤوس من نتائجها، وحيث العنف يولد كالفطر، والمجاعة تنمو، وفقدان الأمل يزداد إقناعاً، في هذه اللحظة من اصطفاف أممي، راغب في استعادة سيناريو الثنائية القطبية، بكل ما تعنيه من شلل في قمة المؤسسات الدولية، وتعسكر في المواقع الملتهبة، في هذه اللحظة من "ربيع عربي"، غارق في الدماء السورية، وفي أسئلة ما بعد إسقاط الديكتاتوريات، انعقد مؤتمر عدم الانحياز في طهران، ليقول شيئاً جديداً... فقاله ولم يستطع ترجمته ولن. الجديد: نحن موجودون بالفعل، مؤتمرون بالفعل. ولكن ما الذي يجمعنا. كل واحد منا وجد ضالته أو ضلالته، في حضن آمن، بكلفة سيادية ومالية كافية.

كأن العالم محكوم برمته بثنائية بين الكبار، يضيع فيها الصغار بين أقدام الفيلة، أو بأحادية عظمى، تسحل وتدمر فيها قضايا الشعوب وحقوقها الأساسية في الحرية والديموقراطية والعدالة والخبز والبيئة السليمة، أو بفوضى، كما هي الحال الآن، حيث القرار متروك ليوم لا يعرف تاريخ قدومه.

المراقب لأسماء ووجوه زعماء دول عدم الانحياز، يتساءل: ما الذي يجمع هذا الجمع؟ في المشكلات، الجوامع كثيرة. في المعاناة الآلام باهظة. في السياسات، لا شيء البتة. وما يجمعون عليه أقوال بلا أفعال، وإنشاء للحفظ...

لا قدرة لهذه المجموعة على صياغة مبادرة تحمي مصالحها، أو تحدد توجهاتها، أو تعدل من انحيازاتها... فلسطين بلا حل دولي، برغم المساعي المتعثرة عمداً. سوريا بلا حل داخلي، معاند قصدا، أو حل دولي، يؤجل لما بعد الحسم واتساع المقتلة، أو حل إقليمي، غارق في الخنادق المتعسكرة.

كان صوت القيادة الإيرانية في مؤتمر عدم الانحياز، خطابا منحازاً لفلسطين، واتهاميا للغرب بقيادة أميركا ومقاوماً لإسرائيل... كان خطابا لقطب إقليمي يقف وحيداً في محور قليل العدد، قوي المراس في الممانعة والصمود وتلقي أنواع العدوان وصنوف الحصار.

كانت إيران، ناصرية بطريقة ما، سوفياتية بطريقة أخرى، استقلالية بقدرة مثبتة... ولم يكن أحد معها. حليفها الوحيد، سوريا، عبء دام وثقل لا يسهل حمله وموقف لا يجدي تبريره.

من استمع إليها، ظن أنه يعيش في كوكب آخر. ولكن صوتها كان منها، نابعاً من حيزها، كدولة إقليمية، تواجه وحدها معسكر الغرب كله، معسكر العرب كله، معسكر إسرائيل الكبرى كلها، كان صوتها رائعاً، لولا تهربها من الأزمة السورية، فكأنها ليست مقيمة اليوم في قلب الأزمات كلها، دولياً وإقليمياً وداخلياً، عسكرياً واقتصادياً وإستراتيجياً ومذهبياً... وهنا الطامة الكبرى.

ترى، من كان مع إيران عندما سمع صوتها؟ من اقتنع به؟ معظم من كانوا عندها، ضدها. جيرانها يكدسون السلاح فوق السلاح، خوفا منها، وهو خوف مأمور به أميركيا.

من سمع خطاب إيران؟ بعض "إخوانها" في الخليج وداعمي "الإخوان" في كل مكان، يثيرون في وجهها قميص التشيع ويتاجرون به، ويفضلون عداوتها على عداوة إسرائيل، الشريك الخفي في تأليب العرب على إيران الثورية بالنية، وليس بالفعل.

الخطاب الإيراني في القمة، ترجمته دول كثيرة وفق فهمها ومصالحها وارتباطاتها، فشطبت منه ما لا يناسبها، تماماً، كما فعل بعض الاعلام الإيراني، عندما شطب سوريا والربيع العربي من خطاب الرئيس المصري.
التاريخ يستحقه الأقوياء.
دول عدم الانحياز، ليست من هذا التاريخ. بكل أسف.
"السفير"
 

التعليقات