الكتاب: مهاجرون، مستوطنون، سكان أصلانيون
الكاتب: باروخ كيمرلينغ
الناشر: عام عوفيد- تل أبيب، 2004
عدد الصفحات: 628

باروخ كيمرلينغ باحث اسرائيلي معروف في المجتمعين الاسرائيلي والفلسطيني وفي قضايا الصراع العربي الاسرائيلي، ومختص في الجيش والحرب، له العديد من الكتب والمقالات الكثيرة التي ترجمت إلى عدة لغات. من أهم كتبه The Palestinian people الذي صدر بترجمة عربية عن "مدار"- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- وترجمه في حينه صديقنا المرحوم محمد حمزة غنايم بعنوان "الفلسطينيون: صيرورة شعب" وقدم من خلاله رواية مختلفة عن الصراع بعكس رواية الاكاديميا الاسرائيلية، الأمر الذي سمح للبعض بإدخاله ضمن حلقة "السوسيولوجيين الإنتقاديين". وصدر له في العام 2001 كتاب عن نهاية الهيمنة الأشكنازية (أحوساليم) وهي اختصار تجميع مفردات عبرية، أشكناز علمانيين قدامى اشتراكيين قوميين، وكان يعني صفوة المجتمع البيض المتنفذة WASP وقد ترجمها غنايم بابداع "أفول طبقة الزنابير".

في العام 2004 صدر له كتاب "مهاجرون، مستوطنون، سكان أصلانيون" ويروي فيه مرة أخرى حكاية مجتمع المهاجرين اليهود في اسرائيل، بداية الاستيطان والتناقضات التي يعيشها هذا المجتمع.

تتحرك الحكاية داخل دوائر منفردة لكنها متقاربة، مثل الماضي والحاضر، يهود اسرائيل والعالم، عرب البلاد. وهو يخوض في البحث عن الصراعات الداخلية لصياغة الشكل المتغير للمجتمع بين التيارات والمصالح المختلفة والمتناقضة، كل هذه الصراعات المحتدمة هي في الأصل على خلفية الصدام بين مجتمع المهاجرين المستوطنين وبين السكان الأصليين .

يرسم الباحث بخط رفيع وواضح صورة التركيبة الملوّنة للمجتمع الإسرائيلي نتاج الهجرة، ويقرأ تناقضاته بصورة مختلفة منذ تأسيس الدولة اليهودية الى نهاية القرن العشرين مع أنه يؤكد في مقدمة الكتاب أنه "لا يمكن فهم السلوك الاجتماعي والسياسي والثقافي لكل واحد من مركبات الدولة، بدون فحص الجذور التاريخية المشتركة والمنفردة من القرن التاسع عشر حتى التقاء المركبات ولماذا تنفرد من جديد وتتناقض مرة أخرى داخل الدولة ".. يبدأ الكتاب وينتهي وهو يصف التجربة الفاشلة لإنتاج تجانس سياسي وجهاز أحادي الثقافة في إسرائيل وتشكل دولة تتميّز بتعدد الثقافات.

يقول كيمرلينغ: لأننا نعلم علم اليقين بعدم التجانس القائم في بنيوية مجتمع الدولة وللحفاظ على المبنى القائم من فترة الييشوف حتى تأسيس الدولة تم بناء أجهزة للتجانس والأسرلة هدفها بناء جهاز أحادي الثقافة كحاجة ماسة، ولم نكن نقصد فقط بناء الأمة nation building انما خلق مجتمع موحد ومتكتل ومواجه للصراع مع العرب اضافة الى تحويل الذراع العسكري للدولة (ويقصد الجيش) ليس فقط كجهاز مدافع عن الوجود إنما كثقافة سائدة وهاجس امني في صلب الحياة المدنية.

يتوقف الباحث في الكتاب عند إشكاليات وتناقضات الدولة اليهودية، وأهمها عدم فصل الدين عن الدولة وسيطرة تعريفات مقاييس الانتماء للمجموعة وفق الشريعة اليهودية التي استطاعت أن تحوّل الحاخامات ورجال الدين الى جزء من البيروقراطية السياسية لخلق رمز مؤسساتي للدولة.

يتكون الكتاب من قسمين، الاول عن الدولة وخلفيتها التاريخية وعن تشكيل مجتمع المهاجرين المستوطنين الذين هاجروا الى البلاد وفق وعد الهي او قدموا الى وطن ميثولوجي ضائع بعكس مجتمع المهاجرين في أميركا واستراليا وجنوب أفريقيا. ويتناول في هذا القسم مجتمع الدولة العبرية وتقليص فوارق التجانس وغيابها مرة أخرى كلما هاجرت مجموعة جديدة من المهاجرين، سواء كانوا روسًا أو من الفلاشا .

القسم الثاني من الكتاب جاء بعنوان نهاية التجانس والتعدد الثقافي وهو من ثمانية فصول. يطالب المؤلف في فصله الأول بمراجعة نقدية وجديدة للصهيونية، يليه الدين، القومية والثقافة الدينية القومية والإشكاليات القائمة بين المتدينين الاشكناز والدولة لينتقل الى الشرقيين المتدينين منهم ومن ثم إلى الطائفية القائمة بين الشرقيين والغربيين فإلى العلمانية اليهودية الاسرائيلية وأصولها والمهاجرين ناطقي الروسية إلى الفلاشا الأثيوبيين .

يخصص الباحث فصلا هاما عن العرب الفلسطينيين في اسرائيل وقد اخترت التوقف عنده. عنوان هذا الفصل هو "الفلسطينيون كعرب والعرب كاسرائيليين" ويستعرض فيه مرة أخرى وقائع تاريخية كما فعل في كتاب "الفلسطينيون صيرورة شعب" لكن بصورة تلخيصية مقتضبة. وعبر القراءة الاكاديمية السريعة من الفترة البيزنطية الى نهاية بناء قبة الصخرة في العام 705 م ينتقل الى الحرب الصليبية على القدس وتحريرها بقيادة صلاح الدين الأيوبي في العام 1187 م بعد اقل من مئة عام على قيام مملكة اللاتين كما يسميها في الكتاب، لينتقل الى الفترة العثمانية ويتوقف عند ظاهر العمر وأحمد الجزار وحملة ابراهيم باشا في العام 1830 ، ومرة أخرى يعود للعثمانيين، حيث تبدأ الهجرات الصهيونية الى فلسطين في العام 1882 ، عندها لم يشعر أهل البلاد الأصليين أن أحدا يهدد مصالحهم، كان هناك من لاحظ في بداية القرن الماضي أن مخططا ما يجري لكنه لم يكن جديا لكن حملات الهجرة المكثفة في الثلاثينيات من القرن العشرين وبداية التطور المدني بدأ يشعر أهل البلد بالتهديد الملموس وخافوا ان تتحول السلطة الى يد اليهود المهاجرين .

في هذه السنوات، أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، بدأت تنشأ ثقافة محلية جديدة في المدن الساحلية عكا، حيفا ويافا وغزة. وفي هذه الاثناء ازداد سكان البلاد وارتفع عدد السكان من 250000 نسمة الى 750000 نسمة بين العام 1922 حتى العام 1936 . نسبة التكاثر الطبيعي وصلت الى %3 والتي تعتبر أعلى نسبة في العالم برغم حركة الهجرة الاستيطانية الصهيونية الى فلسطين ولأسباب اقتصادية انتقل عدد لا بأس به الى مدن الساحل .

في العام 1936 يعلن الفلسطينيون اضرابا استمر ستة أشهر كاد أن يفقد الانتداب أو الاحتلال البريطاني سلطته الا ان "التمرد" لم يكن مدروسا لأسباب تعود الى قيادته "الفلاحية" الذين تمردوا أيضا على "اسياد المدينة". استطاعت بريطانيا ومعها الحركة الصهيونية أن تقمع الاضراب الكبير الذي طردت قيادته المركزية الى خارج الحدود .

بعد الاضراب الكبير تهلهل المجتمع الفلسطيني وبدا ضعيفا منهكًا، فقد ميزاته وتعمق الشرخ داخله، وهذا ما تبيّن بعد سنوات عندما كانت المواجهة بين العرب واليهود عند قرار التقسيم، انهار المجتمع الفلسطيني ككيان سياسي واستطاعت السلطات البريطانية أن تقطع أوصاله وتمنع التواصل الجغرافي وتحول المجتمع الفلسطيني الى مخيمات لاجئين .

اختفت اكثر من 350 قرية عن الوجود وغابت الحياة العربية المدنية عن يافا التي وصل تعداد سكانها في فلسطين الى 80000 نسمة وبقي فيها 3000 نسمة بعد قيام الدولة اليهودية. ومنذ النكبة ناضل الشعب الفلسطيني من أجل الحفاظ على هويته الفلسطينية.

ينتقل كيمرلينغ بعد النكبة ليروي روايته عن العرب الفلسطينيين في اسرائيل الذين تحولوا من الاكثرية الى الاقلية "مواطنين" في الدولة اليهودية، أيتام على مائدة اللئام، بقايا مجتمع مشرد ومهزوم، لا طبقة وسطى ولا مثقفين وبدون قيادة سياسية والذين عرّفتهم الدولة اليهودية، التي قامت على خراب شعبهم وبلدهم، كأبناء اقليات طائفية، مسلمون، مسيحيون ودروز. واعتبروا على هامش المجموعة الاسرائيلية. عزلت الدولة اليهودية العرب من الحياة المدنية ومن مراكز التأثير في المجتمع والدولة بل ذهبت الى ابعد من ذلك حين صادرت ما تبقى لهم من أراض وفرضت عليهم الحكم العسكري حتى أواسط الستينيات .

يخوض كيمرلينغ في البحث في هوية العرب الفلسطينيين، من نشاط الحزب الشيوعي الاسرائيلي الى حركة الارض التي قمعتها اسرائيل واخرجتها خارج القانون الى بداية الوعي القومي في السبعينيات. يقول كيمرلينغ عن دور حزب ماكي أو على الاصح راكاح انه عمل من اجل قضية المساواة أو ما يسميه "لقضية العربية المحلية" لكنه عزل نفسه كليا عن التطورات الثقافية الجارية في العالم العربي .

يذكر يوم الارض كمنعطف أساسي في حياة العرب في اسرائيل لينتقل الى اوضاعهم الاقتصادية ومدى ارتباطهم بالدولة اليهودية، الى الثمانينيات وأحداث اكتوبر 2000 ، ومن ثم يتوقف عند الاندماج ويأخذ مثلا الحزب العربي الديمقراطي برئاسة النائب السابق عبد الوهاب دراوشة الذي طالب أكثر من مرة بالانضمام الى الائتلافات الحكومية. ويقدم لنا "نقيضه" التجمع الوطني الديمقراطي الذي يتبنى طروحات قومية. ومن ثم يقدم لنا عرضا عن "الثورة الدينية" في اوساط العرب ويذكر الحركة الاسلامية الشمالية والجنوبية بين التشدد والبراغماتية .

من موضوع الى آخر وباختصار يقدم كيمرلينغ نظرة شاملة وإن كنا نختلف معها كثيرا الا ان روايته مختلفة بحق ليلخص في النهاية أنه برغم غياب التجانس الذي كان قائما الى حد ما ايام الييشوف فإن ما تبقى منه هو التسلط المطلق للاكثرية اليهودية وهوية دولتها اليهودية على الاقلية العربية. يقتبس هومي بابا الذي يقدم حدود هويات المضطهد بكسر الهاء والمضطهد بفتح الهاء كغير واضحة، الى درجة ان المضطهدين يقلدون مضطهديهم ويحاولون أن يتبنوا هوية وثقافة سائدة ومتسلطة وبالعكس .

يتابع كيمرلينغ أن المثقفين العرب في اسرائيل نجحوا في السنوات العشر الاخيرة في قراءة الثقافة الاسرائيلية السائدة ومن جهة اخرى عمموا ثقافتهم وهويتهم وطرحوا شعار دولة المواطنين الا أن الجماهير العربية اكتشفت للتو انه صعب المنال، حتى الحكم الذاتي الثقافي بات دعوة عربية يحسب لها حساب خوفا من "إنسحاب جغرافي سياسي للعرب في الجليل والمثلث".

لا يشكك الباحث في كون الاقلية العربية الفلسطينية تشكل أكبر تحد جدي تواجهه إسرائيل بخصوص مسألة طابعها اليهودي ليس فقط لان أسس الاخلاق والديمقراطية الليبرالية تحتم عليها حل هذه المعضلة بل لأنه لا يمكن اعتبار أقلية يزيد تعدادها على مليون نسمة أقلية، حيث تتحول اسرائيل سنة بعد سنة إلى دولة ثنائية القومية من الناحية الديمغرافية وفي الواقع أيضا .

سوسيولوجيا جديدة وهستوريوغرافيا بنظرة الاكاديمي الناقد، جعلت كيمرلينغ في سلسلة مقالاته البحثية هذه التي تجمعت في الكتاب يروي رواية أخرى نقيضة للرواية الإسرائيلية المعروفة. انه كتاب هام آخر عن إسرائيل واستحقاقات القضية الفلسطينية.