كثيراً ما يقع الدارس أو الباحث في تاريخ الغناء والموسيقى العراقيين في أخطاء تاريخية كبيرة، وله في ذلك العذر نتيجة التشوهات والأعمال التخريبية التي كانت شديدة الإتقان والدراسة من قبل أزلام السلطة الدكتاتورية التي حكمت العراق طيلة الخمسة والثلاثين عاماً المنصرمة.

فمنذ عام 1973 حين كلف صدام حسين، الذي كان يشغل منصب نائب مجلس قيادة الثورة، الموسيقار منير بشير في تكوين > وتاريخ الموسيقى العراقية في تشويه مستمر. فلقد اتضحت أهداف تلك اللجنة منذ انعقاد اجتماعها الأول الذي كان بحضور منير بشير رئيسا لها ومحمد سعيد الصحاف الذي كان يشغل منصب مدير الإذاعة والتلفزيون والملحن العراقي كوكب حمزة الذي انسحب من اللجنة في نفس اليوم وآخرين، عندما بدأ الحديث عن مهام وأعمال اللجنة حيث قيل: بقيت أغاني المطربة سليمة مراد تبث من خلال دار الإذاعة والتلفزيون العراقية إلى يومنا هذا، ولكن دون ذكر ملحنيها أو الشعراء الذين كتبوا كلماتها، وهذا ما وقعت فيه الكاتبة عناية جابر في مقالها >، ولها عذرها في ذلك للأسباب التي سبق ذكرها، ولكن على الكاتب أن يبحث في موضوعته التي يتناولها كي يعطي القارئ المعلومة الصحيحة وهذا واجبه، فشأنه يختلف تماماً عن شأن المستمع الذي تعجبه أغنية ما، فيصبح مسحوراً بمطربها، وهذا للأسف ما غلب على تلك الأحاسيس الجميلة في مقالة الكاتبة وهي تتناول ثلاث أغان من أغاني المطربة الراحلة سليمة مراد، فتقول: (في أغنية > نرى ان تماسك البناء اللحني المستقى روحيا من الخزين التراثي المقامي...) وهذا تماماً ما أدت اليه قرارات السلطة الدكتاتورية في إنشاء > فانتهى الامر إلى أن كاتبة عربية تتناول بعضاً من تاريخ الموسيقى العراقية وتتناول بعض الأعمال الغنائية، ولكونها لا تعرف ملحن تلك الأعمال كونها تنسبها إلى التراث الموسيقي العراقي. وتستطرد الكاتبة في مقالها لتقول: (بشكل عام، ركزت سليمة مراد جل اهتمامها في الغناء، على الخزين الفولكلوري لتنطلق منه إلى التعبير عن روح عصرها ومحاكاة أذواق الناس المعاصرين لها، كما أن اغنيتها > تحديدا، تتمتع بصفة السحرية، لأنها نتاج الخيال البيئي رغم اختلاط التعابير الواعية بتلك غير الواعية)، وما نخشاه ان يفهم احد من كلام عناية جابر أن المطربة سليمة مراد هي من لحنت الأغنية معتمدة بذلك على الخزين الفولكلوري العراقي، إذ لم نسمع أو نقرأ من قبل أن سليمة مراد قد لحنت أي عمل من أعمالها لأنها وببساطة لم يسبق لها أن درست الموسيقى أو العزف على آلة موسيقية، فلقد كانت الراحلة معتمدة على صوتها الجميل فقط.

وفي تناولها للأغية الثالثة كتبت عناية جابر لتقول: (من حيث الأداء في أغنية > بدت سليمة مراد كثيرة الإسهاب في غنائها الشجي لا تختزل من شدو صوتها، وكثيرة التكرار للجملة اللحنية، كما تفرد مساحة للآلات العازفة لمحاورتها موسيقياً او لمحاورة صوتها، وتعطيها وقتاً كاملا انما ليس على حساب ترابط العلاقة الغنائية والموسيقية مع بعضها، فلقد كانت تُدرك بحسها الغنائي السليم خطورة ترك الموسيقى > على صياغة عمل غنائي موسيقي كوحدة متكاملة، وخطورة هذا المنحى في الغناء أي عدم ضبط الموسيقى، يكمن في احتمال الوقوع في شرك تجزئة الجمل اللحنية في وحدات متفرقة ضمن عملية بناء الاغنية). ترى هل كانت حقاً سليمة مراد تتمتع بتلك القدرات التقنية الموسيقية العالية؟!.
إن تلك الأغاني الثلاث التي تناولتها الكاتبة عناية جابر والتي أرادت من خلالها الثناء على القدرات الصوتية الساحرة للمطربة سليمة مراد، والانطلاق من هذه الحيثيات لجعلها مدخلاً لفضح الاحتلال الأميركي وبعض القنوات الفضائية العربية، هي من إبداع الموسيقار الكبير صالح الكويتي، الذي غيبته > عن تاريخ الموسيقى العراقية لتصبح جل أعماله لقيطة تحمل اسم التراث الغنائي العراقي، فلقد لحن الفنان صالح الكويتي تلك الأغنيات وغيرها للمطربة سليمة مراد حين كلف بعمل الموسيقى التصويرية وتلحين الأغاني لأول فيلم عراقي >، الفيلم الذي غنت المطربة سليمة مراد جميع أغنياته، وصالح الكويتي هو الأب الروحي للفنانة سليمة مراد، فقد احتضنها منذ أيامها الأولى عند اشتغالها في ملاهي بغداد أواسط الثلاثينيات من القرن المنصرم.

ولسليمة مراد حصة الأسد في أعمال الملحن صالح الكويتي وشقيقه داود الكويتي، وكذلك الملحن أكرم زبلي الذي لحن لها أغنية > التي اشتهرت بشكل لافت للظر في جميع البلاد العربية، لذا فنحن نظلم تاريخ الموسيقى العراقية ونخدم مخططات الدكتاتور عندما نعزو بعض الأعمال الموسيقية الخالدة إلى التراث من دون ذكر أسماء مبدعيها.

وهنا نجد أن أعمال المطربة سليمة مراد > هي أعمال تعرضت إلى أبشع صور التشويه والتخريب منذ أن تسلمت سلطة الدكتاتور زمام الحكم في العراق، فهي ليست على وشك التخريب، فلقد سبق أن نالها الذبح والإعدام أسوة بعاشقيها من العراقيين.