عزمي بشارة ابن النكبة، إبن إحدى أفظع الفواجع الإنسانية في القرن العشرين، شعبه تعرّض لاجتياح موجات من الصهيونيين الوافدين من شتى أرجاء العالم، ليستقروا في فلسطين. ولم يكن ليتسنى لهم ذلك إلا، بكل بساطة، بطرد أهل الأرض من بيوتهم والحلول محلّهم. ولا بأس إذا تخلل العملية مجازر في حق من يُبدي شيئاً من الممانعة.

كانت عملية سلب ونهب واحتلال وقتل وتهجير. كانت الهجمة همجية بقدر ما كانت منهجية. أبشع ما فيها أنها نُفذت بإرادة دولية عليا أسبغت عليها غلالة شفافة من الشرعية الدولية، إذ اقترنت بقرارات من مجلس الأمن الدولي، بتواطؤ عجيب بين أكبر دول العالم. كان المحور قرار تقسيم فلسطين العشوائي الجائر عام 1947، وكان إغضاء فاجر عن كل التجاوزات الفظيعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية والجرائم الموصوفة التي استهدفت آمنين أبرياء.

وهبّت الدول العربية إلى نجدة شعب فلسطين فكانت الحرب العربية الاسرائيلية الأولى عام 1948 التي كانت مخزية في حصيلتها التي فضحت العجز العربي في ظل تقصير فادح في الاستعداد للمعركة، وفي ظل تفاوت صارخ في الإمكانات العسكرية بين الجانبين، وفي ظل ضعف التصميم والعزيمة في الذود عن قضية الأمة، والأمة كانت شعوباً متناثرة.

عزمي بشارة هو ابن هذه النكبة الأليمة، والتي كانت لطخة عار على جبين حضارة القرن العشرين.

النكبة أسفرت عن آلاف من القتلى والجرحى والمهجّرين اللاجئين والمفقودين. واللاجئون منهم توزعوا على مخيمات أقيمت لهم في فلسطين خارج نطاق الاحتلال وفي الجوار العربي وبخاصة الأردن ولبنان وسوريا وسائر الأقطار العربية.

كان قدر عزمي بشارة أن يمكث في الأرض المحتلة. فعاش النكبة بكل تداعياتها منذ نعومة أظافره، غريباً في وطنه، مواطناً من درجة خاصة: سَمِّها ثانية أو ثالثة أو ما شئت. فكانت له الهمّة والجرأة أن يُنافح عن حق الفلسطيني داخل الأرض المحتلة بإمكاناته الهزيلة، بإمكانات اليافع الأعزل. ثم كان له أن نشط سياسياً بين بني قومه في الأرض المحتلة فآل به الأمر إلى انتخابه عضواً في الكنيست ممثلاً لشعبه العربي المقهور.

واكتسب بهذه الصفة حصانة قانونية وظّفها في الجهر بمواقف وطنية وقومية مدوّية، يعبّر فيها عن التزامه المطلق قضية وطنه فلسطين، التي وَجَدَ فيها، كما يجد كل عربي مخلص، قضية وجود لا مجرّد قضية حدود، قضية إنسان مشرّد لا مجرّد قضية أرض مغتصبة.

فلا غرابة إن أَلفى عزمي بشارة نفسه أخيراً ملاحقاً من سلطة الاحتلال الغاشم، طريد العدالة، وقد كانت العدالة أولى ضحايا الكيان الصهيوني منذ إنشائه.

وعزمي بشارة لا يستطيع اليوم أن يعود إلى بيته في فلسطين، فهو مهدد إن عاد بحياته وحريته وكرامته. مكتوب له، في أحسن الاحتمالات والعياذ بالله، أن ينضم إلى حشد يناهز العشرة آلاف معتقل فلسطيني في السجون الاسرائيلية.

عزمي بشارة بطـل من أبطال الأمة الميامين، شرف له أن يكون مطـارَداً من جانب العدو الصهــيوني. شــرف له أن يُتهــم، ولو زوراً، بالتعــاون مع الإرهــاب. وقد أضــحى واضحاً وضوح الشمس أن الإرهاب في قاموس قوى العـالم المتحضر في منزلة وجهة النظر، فإذا مارس العنف فلسطيني أو لبناني أو عراقي فهو إرهاب، ولو كان ذلك دفاعاً عن أرض وعرض. وإذا مارس العنف إسرائيلي فهو دفاع عن النفس، ولو كان ذلك على أرض يغتصبها. وإذا مارس العنف أميركي فهو في خدمة الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، مهما كان الثمن وأيّاً يكن الهدف. وعزمي بشارة لم يمارس العنف في حياته لا مباشرة ولا مداورة. ذنب ذلك الرجل الوطني المثقف بامتياز أنه لم يتزحزح عن الخط الوطني القومي الذي شبّ عليه.

إن حالة عزمي بشارة لا يجوز أن تمرّ من دون أن يكون لها دويّها في العالم. يجب أن تكون منطلقاً لحملات إعلامية قومية تفضح السياسة الاستيطانية التوسعية التي تسلكها الدولة العبرية، وتسليط الضوء على ألوان العذاب الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني المناضل على يد غاصب أرضه ودياره وكرامته، وكشف حقيقة ما تمارسه الدولة الصهيونية من هتك لحقوق الإنسان، وهي التي يصرّ العالم الغربي زوراً على وصفها بالديموقراطية الفريدة في الشرق الأوسط. فأي ديموقراطية هي تلك التي جعلت ديدنها هتك حقوق الإنسان بأبشع صورة في التعاطي مع الشعب العربي في فلسطين وجوارها. ونحن في لبنان عانينا الأمرّين من سياسات الدولة العبرية التوسّعية والعدوانية والعنصرية.

"السفير/ ملحق خاص"