من السهل أن تشعر بالاغتراب حين تدخل أروقة الجامعة، خاصة في يومك الأول، وهذا الشعور شرعي وطبيعي، حيث تستوعب ماذا يعني أن تكون أقلية في جو غريب عنك ثقافيًا واجتماعيًا، ويشكل الدخول إلى الجامعة أول لقاء جدي بين الفلسطيني والآخر الإسرائيلي.
سيشكل هذا، بالإضافة إلى اللغة، حاجز قد يصعّب على الطالب الفلسطيني التأقلم في الجو الأكاديمي، ما يمكنني قوله هو إن كلما كان صوتي أعلى داخل القاعات والمحاضرات كلما شعرت بقوة أكثر.
من الصعب أن تنطق أول حرف في المحاضرة، خاصًة إن كنت تعي بأن التعامل مع الأكاديمية يشبه التعامل مع أي مؤسسة إسرائيلية أخرى، لكن هذه الخطوة الأولى هي أهم خطوة قد تتخذها لتبدأ هذه التجربة من حياتك، وستخجل في البداية وستشعر بالخوف، هذا أمر طبيعي لكن علينا كسر هذا الحاجز.
دخولنا إلى الجامعات الإسرائيلية هو تحد صعب، وخاصة في الجامعة العبرية التي تحاول أن تعطيك شعور 'الاحتواء'، عبر أساليب العنصرية المجمّلة التي تتبعها، ويبقى على الطالب الفلسطيني أن يحافظ على هويته في ظل هذه الظروف.
يمكن تحقيق ذلك عن طريق إنجازات تعليمية أكاديمية وإنجازات سياسية، الانخراط في العمل السياسي هو غاية في الأهمية، كون الجامعة هي ساحة كأي ساحة نضال أخرى وعلينا استغلال هذه المساحة لأن أهم الثورات والنضالات في تاريخ البشرية انطلقت من الجامعات.
على الإنجازات التعليمية أن تكون في سلم أولوياتك، والحصول عليها أمر ليس سهلًا، لأنك المغترب، لكن القوة تكمن في قدرتك على التأقلم ومن دون الحاجة للانخراط في المؤسسة أو تقديم التنازلات، التعبير عن الرأي هو حق أساسي، وعليك استغلاله في المحاضرات وفي العمل السياسي والاجتماعي الذي تتبعه مهما حاولت الجامعة أن تحد منه، والجامعة العبرية لها سوابق عديدة في الحد من حرية التعبير.
بالإضافة إلى المذكور أعلاه، الخروج خارج أسوار الجامعة هو أمر في غاية الأهمية، والتعرف على هموم المقدسيين اليومية ساعدني في حياتي الخاصة وفي حياتي الأكاديمية أيضًا، إذ توسعت آفاقي خارج المنهاج وبرامج التدريس التي تقصي الطالب العربي.
بالنهاية، علينا ألا ننسى أننا بشر ولنا احتياجاتنا، وأننا طلاب نريد أن نعيش كل شيء في آن واحد، من سياسة واجتماعيات وتحصيل أكاديمي وغيره، وهذا أمر طبيعي.
يقولون أن القدس هي قلب القضية، ولطالما شعرت أن هذه المقولة هي شعار فارغ، بعد أن انتقلت للعيش هناك، بدأت أفهم لماذا القدس هي فعلًا قلب القضية، فلا كذب فيها ولا تجميل، وفيها كل أنواع الانتهاكات التي قد تخطر ببالك، وأخرى لن تخطر ببالك إلا اذا رأيتها بأم عينك، ليس من السهل وصف القدس والعيش فيها، كما ليس من السهل وصف الاسيتقاظ كل صباح على خبر اعتقال أو اقتحام أو تهويد أو استيطان أو اعتداء على الأطفال في المدارس، والقائمة طويلة، وطبعًا أنا أتحدث من وجهة نظر المستمعة، فكم بالحري إن كنت أنا من تعيش هذه الانتهاكات بالفعل.
 ليس من السهل وصف صوت المروحية كل يوم، ولا مشهد قوات الاحتلال في كل زقاق، من الصعب وصف النقلة النوعية ما بين القدس 'الشرقية' والقدس 'الغربية' (وفق مصطلحات الاحتلال)، الذي يفصل بينهما شارع ليس إلا، من الصعب وصف التناقض الذي تشعر به حين تستقيظ على خبر حملة اعتقالات للقاصرين في سلوان وتذهب بعد ذلك إلى محاضراتك في الجامعة العبرية، أي في أكبر مؤسسة كولونيالية.
تعلمت الكثير من العيش في هذه المدينة، تعلمت أن القدس هي الحقيقة، وهي واقع الاحتلال، ولن أكذب إذا قلت أنها كانت صدمة بالنسبة لي، لأن السماع عنها شيء والعيش فيها شيء مختلف تمامًا.
 قد يبدو ما كتبته حول القدس محبطًا، وهذا طبيعي، لأن الواقع محبط، لكن بالرغم من ذلك، أنصح كل فلسطيني بالعيش في القدس ولو لفترة قصيرة لأنه سيكتشف أن الكثير من الأمور قد فاتته، وهناك الكثير من الأمور لا يعرفها.
والجامعة العبرية، كأي مؤسسة أكاديمية أخرى، هي ذراع من أذرعة البنية الاستعمارية، ليس فقط لأنها تدعم العسكر وجيش الاحتلال بشكل مباشر من خلال تقديم المساعدات للجنود، وليس فقط لأنها قائمة على أراضي فلسطينية صودرت بشكل غير شرعي في عام 1968، بل أيضًا لأسباب غير مرئية وغير مباشرة، فما يميز الجامعة العبرية عن غيرها هي محاولاتها الفاشلة بتصوير نفسها أمام العالم على أنها المساحة الديمقراطية الوحيدة، وتصوير نفسها على أنها مكان تسود فيه التعددية الثقافية.
ومجرد أن عربًا يتعلمون في الجامعة هذا لا يقول أنها تؤمن بالتعددية، بدليل أن العربي ممحي تمامًا من المساحة العامة، فلا لغتك تظهر على اللائحات، ولا رموزك تظهر، ولا في المنهاج التعليمي، فأنت مغيب عن الساحة، وهذا هدف كل استعمار، الذي يعتمد مبدأ 'الهدم من أجل البناء'، فهو يمحي كيانك ووجودك (جسديُا ومعنويًا)، وأنت في هذا الوضع الصعب، وكإنسان يريد أن ينشط، لا تحاول فقط أن تخرج مع شهادة جامعية، بل تحاول جاهدًا ان تعيد ملامحك إلى الساحة والفضاء العام الذي يقصيك بقوة.
هذا المعهد الذي يسمى الجامعة العبرية لا يبني مكانًا لنا، وبما أن الدراسة فيه هي واقع مفروض علينا، لا يسعنا إلا أن نبني مكاننا من دون أن ننخرط في النظام والبنية نفسها والعمل من داخلها. تجاربي في الثلاثة أعوام الأخيرة أثبتت أن الجامعة تخاف من الصوت الفلسطيني، وتحاول قمعه بشتى الطرق، بداية بإدخال قوات شرطة لاعتقال طلاب داخل الحرم الجامعي وحتى الاستفراد بطلاب وتقديمهم إلى لجنة طاعة.