بنظرات هائمة يتأمل الأركان، الزوايا الساكنة، القبة المنقوشة من الداخل، المئذنة المرتفعة التي تطل من طاقة النافذة المجاورة، وبهدوء شديد يصفه بالسكينة ونفحات 'السيدة عائشة' صاحبة المسجد 'المبارك'، يحدثنا حول روحانيات البقعة المباركة التي يزورها أسبوعيا وأحيانا يوميا ليتخلص من زخم العيش وقسوة الحياة وأعباء الدنيا، إنه أحمد الجعفري أحد مريدي الطريقة 'الجعفرية' الصوفية.

انقطع الحديث مع 'الجعفري' بدخول كلب إلى ساحة المسجد الخارجية، المشهد الغريب وصفه الجعفري بـ'المعتاد'، قائلا إن 'أبرز ما يعكر علينا صفو اللحظات الربّانية هنا، الإهمال الشديد للمزارات الإسلامية، فساحة مسجد السيدة عائشة (جنوبي القاهرة)، ملعب يرتع فيه أطفال الشوارع والحيوانات كالقطط والكلاب التي تتجمع حول الفضلات وبقايا الطعام التي تلقى داخل المسجد دون رعاية أو اهتمام من المسؤولين أو الزوار البسطاء، الذين يعتبرون المسجد مأوى من لا مأوى له'.

المسجد منسوب لقبر السيدة عائشة بنت جعفر الصادق، التي يمتد نسبها إلى علي بن أبي طالب، ابن عم الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وأنشئ في القرن السادس الهجري كقبة صغيرة إلى جوار قبرها، وتهدم المسجد القديم وأعاد بناءه، في العصر العثماني وتحديدا في القرن الثامن عشر الميلادي، الأمير عبد الرحمن كتخدا، الذي قام بتطوير معظم ما يعرف بمساجد آل بيت النبي محمد.

ويشكو 'الجعفري' إهمال الحكومة وهيئة الآثار المعنية بترميم المباني الأثرية، فضلا عن ضعف القبضة الأمنية والسرقة وانتشار المتسولين وإلقاء المخلفات، مضيفا أن المشهد المأساوي يتكرر على مستوى معظم المساجد التي تضم قبورا منسوبة إلى نسل النبي محمد كمسجد 'السيدة زينب' و'السيدة نفيسة' و'مسجد الحسين' ومسجد 'السيدة فاطمة النبوية'.

فمسجد 'السيدة زينب' بنت علي، حفيدة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، الواقع في الحي الذي يحمل اسمها، وهو حي شعبي شهير بأسواق الملابس ومحلات المأكولات الشعبية، يحيط به باعة جائلون يفترشون الأرصفة، وزائرون للمسجد من القاهرة وخارجها، وتشوه مخلفات الجميع محيط المسجد.


 
وبحسب روايات مؤرخين مختلف عليها، يضم المسجد قبر السيدة زينب، ويعتبره كثيرون من أهم المزارات الإسلامية بمصر، ولكن المراجع التاريخية لا تحدد تاريخ إنشائه، وإن كان تم تطويره لأول مرة عام 1547 ميلادية، بأمر من والي مصر العثماني آنذاك علي باشا.

ويتكرر المشهد العشوائي مع 'مسجد السيدة نفيسة' حفيدة علي بن أبي طالب، الذي يقع في منطقة السيدة نفيسة جنوبي القاهرة، في بداية ما يسمى بـ'طريق أهل البيت'، الذي يبدأ بمقام 'زين العابدين' بن الحسين (حفيد النبي محمد)، وينتهي بمسجد 'السيدة زينب' مرورا بـمسجد 'السيدة نفيسة'.

المسجد تم بناؤه أوائل القرن الثالث الهجري، وتم تجديده ليصير على الهيئة التي هو عليها الآن في عهد الأمير عبد الرحمن كتخدا، وحديثًا تم تجديد المدخل وفرشه بالرخام الفاخر.

أما 'مسجد الحسين' الذي تم إنشاؤه في عهد الفاطميين سنة 1154م، ويعتقد البعض بوجود رأس الحسين مدفونًا به، ولكنه أمر غير مثبت، فيطل على أكبر عدد من الأسواق الشعبية بقلب القاهرة في أحياء العتبة والموسكي والغورية وخان الخليلي وشارع الأزهر، وغيرها من الأسواق، التي يتوافد عليها عشرات الآلاف يوميا، فضلا عن سكان تلك المناطق المكتظة، وزوار المسجد صاحب الشعبية الأكبر.

المسجد المبني بالحجر الأحمر له منارة مصممة على نمط المآذن العثمانية، ويطل على ما تعد أكبر كتلة سكان بقلب العاصمة، في منطقة تعاني من الزحام وتتكرر بها الحرائق مع انتشار الورش الصناعية وغياب معايير الأمن الصناعي عن أغلبها، حيث شهدت المنطقة 3 حوادث حريق خلال شهر أيار/ مايو الماضي، كان أقربها حريق الغورية، الذي هدّد تراثا عمره يتجاوز خمسة قرون، حين طال مسجد السلطان الغوري، الذي يعد أحد أشهر معالم القاهرة التاريخية، وأسسه السلطان المملوكي الأشرف قنصوه الغوري سنة 1503.

مساجد 'آل البيت' كما تشتهر في مصر، ورغم ما تعاني من قصور وإهمال شديد، إلا أنها تعتبر أفضل حالا من مساجد تاريخية أخرى على بعد خطوات منها لا يعلم عنها الكثير من المصريين شيئا، ومهددة بالزوال نتيجة تآكل جدرانها وسقوط أجزاء كبيرة منها بفعل عوامل التعرية والإهمال، بحسب رصد، خلال جولة في مناطق أثرية إسلامية بالقاهرة. 

مسجد السلطان الغوري بشارع المعز لدين الله، الذي يمتد عمره إلى أكثر من 500 عام، تسبب الحريق الذي طال جدرانه الشهر الماضي في تشويه وجهته الشرقية.

وعلى بعد خطوات إلى الشرق من مسجد 'السيدة زينب'، يعاني مسجد حسن باشا طاهر، المبنى عام 1809 ميلادية، هبوطا شديدا أدى إلى ظهور العديد من الشروخ فضلا عن انهيار جدرانه والنقوش المنحوتة عليها.

أما مسجد السلطان برقوق، الذي بناه السلطان المملوكي الظاهر برقوق، ليكون مدرسة لتدريس المذاهب الفقهية الإسلامية السنية الأربعة، بين عامي 1384ـ 1386، الكائن في شارع المعز إلى جوار الجامع الأزهر، في مقابل مسجد 'الحسين'، فيعاني من غمر مياه الصرف الصحي لأساسات جدرانه، ما أدى إلى تدهور شديد في حالة المسجد، فضلا عن حركة المرور الكثيفة بالمنطقة والورش المجاورة التي تهدد المباني الأثرية بشكل عام لعدم وجود أساسات نظرا لبنائها فوق سطح الأرض.

تحمل القاهرة لقب مدينة 'الألف مئذنة'، لما تضم من عديد المساجد المنتشرة بكافة أركانها ومن بينها كثير من المساجد الأثرية، ورغم ذلك تشهد مصر تراجعا غير مسبوق في حجم السياحة بلغ 50% تقريبا وفقا لأحدث تقارير 'الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء' المصري، الصادر نيسان/ أبريل الماضي، ولسياحة الآثار بما فيها الإسلامية نصيب من هذا التراجع، إذ تناقصت المساجد الأثرية في القاهرة من 622 أثراً إسلاميا مسجلا سنة 1951 إلى 500 مسجد فقط حاليا نتيجة الإهمال المدمر لهذه المساجد.

وفي هذا السياق، قال رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، في وزارة الآثار المصرية،السعيد حلمي، في تصريحات له، إن مصر لديها 'خطة لتطوير المساجد الأثرية بالتعاون مع وزارة الأوقاف وخاصة بعد سرقة كنوزها الأثرية'، مضيفا أن 'تأمين المباني والزوار مسؤولية الجهات الأمنية وليس وزارة الآثار'.

ولفت حلمي إلى أن 'الوزارة تعتمد على التمويل الذاتي وأنها تعاني أزمة مالية في الوقت الحالي'.

واعترف 'حلمي' بعدم الاهتمام الكافي من جانب الدولة بهذه المساجد لوقوعها وسط الكتلة السكانية، مضيفا 'لذلك اضطررنا إلى هدم 72 منزلا بمنطقة الدرب الأحمر (جنوب شرقي القاهرة)، للحفاظ على ما تحتويه المنطقة من 65 مسجدا وأثرا'، موضحا أن عملية التطوير مكلفة جدا، وأن 'الآثار تكلفت مليار و200 مليون جنيه (نحو 120 مليون دولار) لترميم المساجد الأثرية مديونية على وزارة الأوقاف حتى اليوم'. 

من جانبه، دعا أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بجامعة القاهرة، إبراهيم محمود، إلى الخروج من هذه المنطقة وتحويلها لمدينة أثرية تحت اسم 'القاهرة التاريخية' أو 'الأثرية'، مقترحا تفريغ المناطق الأثرية كالحسين وخان الخليلي وشارع المعز لدين الله الفاطمي والسيدة زينب والسيدة عائشة والقلعة من الأسواق. 

وأضاف أنه 'على الدولة وضع خطة لتحويل قلب القاهرة القديمة لمتحف مفتوح يدر على مصر ملايين الدولارات سنويًا، مع وضع الدولة خطة لتسكين أهالي تلك المناطق في المدن السكنية الجديدة للحفاظ على التراث المصري من الزوال'.
 
وأكد محمود أن 'المساجد الأثرية تعاني خطرا مدمرا لكونها مفتوحة لأداء الصلاة ويتعامل معها البشر يوميا، ولذلك فإن مدها بالخدمات كالمياه والصرف الصحي والكهرباء فضلا عن السلوك البشري الخاطئ، كل هذا يهدد بزوالها'. 

وأوضح أن ارتفاع منسوب المياه في المساجد القديمة يعود إلى بنائها على ردم دون دك أساسات وتفريغ للقاعدة، ثم البناء كما نفعل اليوم، مشددا على ضرورة 'تخفيض منسوب المياه الجوفية أولا قبل بدء الترميم، مع التفتيش الدقيق يوميا للعناية بالآثار'.

اقرأ/ي أيضًا | مسجد حسن بك.. شاهد على عروبة يافا

وحذّر من 'زوال تلك المباني التاريخية العظيمة قريبا إذا استمر إهمالها بهذا الحال، مما ينذر بمحو عصور تاريخية من ذاكرة التراث لأن الأثر مؤرخ وشاهد على عصره'.