معزوم في فلسطين'، فكرة استثنائيّة لبرنامجٍ تلفزيونيّ يجمعُ ما بين التراثِ والمكان والحضارة، بينَ مذاقِ الأمسِ ورائحة اليوم المنبعثة من عدّة أماكن تتشابكُ حجارتها ببعضها البعض، دون أيِّ تفتت أو انهيار، بل تؤدي بالضرورة إلى تشكّلِ سدٍّ منيع، حتى ولو كانت هذه الحجارة من طعامٍ فلسطينيّ تراثيّ.

بفكرةٍ جديدة، يطلّ برنامج 'معزوم في فلسطين'، من تقديم الإعلامي مصطفى قبلاوي، وإنتاج شركة الدّيار، التي يديرها موسى ذياب، وطاقم عملها، الذي يضم كلًا من مديرة الإنتاج، زينة عدوي، مدير التصوير، موفق عودة، والمصوّر جواد عمري ، مقدّمًا نموذجًا مبتكرًا يروي حكاية أشهر المأكولات الفلسطينيّة الشعبيّة في تداخلٍ مثير مع حكاية الإنسان والأرض والزمان، غير المنفصلة عن تراث المأكل والمشرب.

النواة

في حديث لعرب 48 مع مقدّم البرنامج، الإعلامي مصطفى قبلاوي، قال إنّ فكرة البرنامج تتلخص بتجوال كاميرا التلفزيون العربي بين المدن والقرى الفلسطينية، في كل فلسطين التاريخية، لنتعرف إلى ثقافة الإنسان والمكان من خلال الطعام، وقد قمنا بزيارة ترشيحا وحيفا والناصرة وعكا ونابلس وياصيد، لنتعرّف كيف يتأثر الطعام بثقافة أهلهِ، مشيرًا إلى أمثلة عينيّة: 'في نابلس يأكلون الرزّ والكبسة والطعام المُدخّن، كونهم يتواجدون على حدود الأردن، وخاصةً البدو، المعروفون بهذا الصنف من الطعام، بينما في ترشيحا يتميزون بصنع الكبّة، لكونهم مجاورين لحدود لبنان، وهي طعام شاميّ'.

وتابع قبلاوي أنّه من خلال كل حلقة 'يتم تسليط الضوء على أهمّ المأكولات في كل بلدة، ونتعرف من خلالها إلى الإنسان وقصّة التهجير القسريّ، نتحدث إلى الشبّان والشابات ونستمع إلى الموسيقى، وهي جولات خفيفة ومثيرة للاهتمام، مع الحفاظ على المعلومة التي تعكس صورة فلسطين بشكل صحيح وسليم ويمثل واقع حال المجتمع العربي كاملًا، مع عكس صورة الخير في مجتمعنا، عبر الأطباق المختلفة'.

يحاكي البرنامج هويتنا الجماعية كفلسطينيين، وفي هذا يقول قبلاوي: 'من الجيد أنّ هذا البرنامج يفتح الباب على كامل التراب الفلسطيني، فالبرنامج لا يحاكي حدود 48، أو 67، فكنّا في نابلس وياصيد والناصرة وعكا وحيفا وترشيحا وسنكون في رام الله والقدس وكفر ياسيف ودير الأسد'،  مشيرًا إلى أنّه من المتعة أن نستمع إلى أشخاص لا يظهرون في الإعلام عادةً، ولم يكن بإمكاننا أن نصادفهم لنتشارك تجربتهم وخبراتهم وقصصهم، بسبب البعد الجغرافي، وهذا البرنامج أتاح لي الاستماع إلى تجربتهم الإنسانية والوطنية والتاريخية والتراثية والشخصيّة بقصّة واحدة.

التجربة

وعن تجربتهِ، سرد قبلاوي، قائلًا إن قرية ياصيد، التي تبعد 15 كيلو مترًا عن نابلس، مشتهرة بالزرب، وهي عبارة عن طبق من الدجاج والأرانب والرزّ، يوضع بداخل حفرة متّقدة في الأرض، وهي أكلة غير متاحة في شمال فلسطين، معبّرًا: 'هذا أمر جديد بالنسبة لي، وأنا أتعلم الكثير من خلال تقديمي البرنامج، خاصةً عن ارتباط الطعام بالنكبة وكيف عاشوا في الحقب الماضية واستطاعوا تأمين مصادر قوتهم، وقد انكشفت على معلومات جديدة بمجتمعي وهويته الخاصة في كل بلدة ومدينة وقرية'.

ترشيحا على سبيل المثال، قبل عام 1948 كانت مركزًا تجاريًا أساسيًا يرتاده اللبنانيون للتسوّق بمحلات الصّاغة والحدادة، وخاصةً يأتون لسنّ السكاكين، وكانت تربط بين عدّة مناطق، وسمّيت بعروس الجليل لأهميتها، أما اليوم، فأبناء ترشيحا المهجرون يبلغون نحو 60 ألف نسمة، وما تبقى منهم 5 آلاف، وفي هذا الصدد، ذكر قبلاوي أنّه خلال مقابلته مع سكاكيني هناك، قال السكاكيني له إنّه بسبب حوادث الطعن التي كانت العام الفائت، لم يعد يبيع أي سكين في النهار، وبهذا تغيّر شكل الحياة قبل وبعد النكبة على هؤلاء العاملين دون أن يكون لهم يد في ذلك.

مقدّم البرنامج، مصطفى قبلاوي

'تتبدد وتتلاشى مشقة التصوير الخارجيّ أمام متعة الانكشاف على التجارب والثقافات الجديدة، الحديث مع كبيري السنّ والشبان، ليعبّروا عن تجربتهم وعلاقتهم مع مكانهم، ماذا تعني لهم، وماذا يفعلون بالأفراح والأتراح'، هذا ما قاله قبلاوي، واستطرد أنّه يتأمل بأن ينال البرنامج إعجاب الناس، وقد وصلت له رسائل إيجابيّة جدًا من الجزائر وتونس، والمغرب العربي المخلص لفلسطين والتوّاق لسماع قصصه، طالبين منه الذهاب لمدن أخرى سمعوا عنها ويريدون التعرّف إلى حاضرها اليوم، عدا عن الرسائل التي تصله من الداخل الفلسطيني.

وأعرب قبلاوي عن أمله بأن يتوسع البرنامج، الذي يعرض كل يوم إثنين، الساعة التاسعة والنصف مساءً بتوقيت القدس، ليصبح ساعة بدلًا من نصف، وإضافة فقرات إضافية، رغمًا عن أنّ تصوير الحلقة يستغرق نهارًا كاملاً، مع طاقم رائع من المصورين والمخرجين ومهندسي الصوت، يحاربون جميع الظروف ليظهروا أفضل ما لديهم، وهم على قدر كبير من المهنية، مما يمنحني الراحة في التعامل والانسجام بيننا.

واختتم حديثه أنّ البرنامج لايزال وليدًا في أسابيعه الأولى، ولكنها تجربة ممتعة وتعود بالأصداء الإيجابية رويدًا رويدًا، تجربة مختلفة عمّا قدمته سابقًا، وأتأمل أن أرسم صورة مشرفة عن فلسطين لامتدادنا العربيّ، وأقدم وجبة خفيفة للمشاهدين ليحبوها ويتمتعوا بها، لأنّ كل ذلك ضروريّ ومهمّ.

نجاح آخر

كما سلفت الإشارة، فإن البرنامج من إنتاج شركة الدّيار، التي تأسست في العام 2014، وهي شركة تعنى بإنتاج البرامج والمضامين والوثائقيّات، فهذا البرنامج ينضاف إلى برنامج 'كلاكيت فلسطين' الذي عرضت الحلقة الأخيرة منه على 'التلفزيون العربيّ' منتصف العام الجاري، ولاقى نجاحًا وإقبالًا كبيرين.

وكلاكيت فلسطين هو برنامج أسبوعي يُقدّم من فلسطين على مدار ثلاث عشرة أسبوعًا، في حلقاتٍ تستغرق إحداها حوالي نصف الساعة. ويجري البرنامج حواراتٍ مع أهم السينمائيين الفلسطينيين العاملين في مجال التمثيل و الإخراج السينمائي الفلسطيني، في مواقع لها دلالات تتعلّق بسير الضيوف الفنية والشخصية، وتُعرِّف المشاهدين ببقاع وأماكن مختلفة في فلسطين. ويدمج البرنامج في لقاءاته بين جيلين، ويحرص أن يكون ضيوفه من الأسماء اللامعة في عالمي الإخراج والتمثيل، وممن قدموا أعمالًا سينمائية وصلت إلى العالمية وحازت جوائز بالمهرجانات الدولية. قدّم وأعدّ البرنامج صالح ذبّاح، وهو صحافي فنيّ وكاتب مقالات نقدية سينمائية.

إذًا، تستمر شركة الديار للإنتاج في الطوفان بفلسطين لتنقل للمشاهد العربيّ في المهجر والمنافي واللجوء صورة فلسطين التي يُحب، تارةً عبر ما أنتج روّادها من أفلام، كانت سبّاقة في تسليط الضوء عليها، وتارةً من خلال تعريف المشاهد على أبرز أماكن فلسطين التاريخيّة، ليس من ناحيّة جغرافيّة مملة، إنما من خلال ارتباطها الوجداني بالإنسان وذكرياته وموروثه الثقافي الذي توارثه لناحية التقاليد والطعام (برنامج 'معزوم في فلسطين')  أو لناحية ما أنتجه الفلسطيني من سينما لتخليد بلاده وذكرياته وارتباطه بها (برنامج 'كلاكيت فلسطين').

اقرأ/ي أيضًا| "يوم الزي الفلسطيني" منعًا للتزوير والاندثار


معزوم في فلسطين

على شاشة التلفزيون العربيّ

الإثنين 21:30 بتوقيت القدس