كانت الأمم المتحدة في دورتها المنعقدة في خريف عام 1947، تتكون من 57 دولة فقط. كانت تركيبة الدول على النحو التالي: مجموعة أميركا اللاتينية والتي تضم 20 دولة وهي: المكسيك والأوروغواي والبارغواي وتشيلي وكولومبيا والبرازيل وفنزويلا والبيرو وبنما وكوستاريكا وجمهورية الدومينيكان وغواتيمالا وهاييتي ونيكاراغوا والأرجنتين والسلفادور وهندوراس والإكوادور وبوليفيا وكوبا، و 9 دول من أوروبا الغربية وهي بريطانيا وفرنسا والسويد والنرويج ولوكسمبورغ وأيسلندا والدنمارك وهولندا وبلجيكا، و 6 دول عربية هي: السعودية ومصر والعراق وسورية ولبنان واليمن، و 4 دول آسيوية إسلامية هي: إيران وباكستان وتركيا وأفغانستان، و 4 دول آسيوية غير إسلامية هي: الهند والصين وسيام (تايلاند) والفلبين، والاتحاد السوفييتي و 3 دول مؤيدة له هي: بولندا وأوكرانيا وروسيا البيضاء (بيلاروس)، ودولتان أفريقيتان (بالإضافة إلى مصر) هما الحبشة (إثيوبيا) وليبيريا، و 4 دول كومنولث وهي: كندا وأستراليا وجنوب أفريقيا ونيوزيلندا، والولايات المتحدة الأميركية، ويوغسلافيا الدولة الشيوعية المستقلة، وتشيكوسلوفاكيا، واليونان.

كانت بريطانيا، عندما طالبت بتحويل المشكلة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة في شباط / فبراير 1947، تهدف إلى التخلص من ضغوطات الرئيس الأميركي "ترومان" عليها بشأن الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لم تخطط بريطانيا أن تصل بها الأمور إلى ما آلت عليه في تشرين أول / أكتوبر 1947، حيث إن الاتحاد السوفييتي التي اعتقدت أنه سيعارض الولايات المتحدة فيما ترمي إليه، كان قد أعلن في الدورة السابقة للأمم المتحدة في نيسان / أبريل 1947، أنه يؤيد التقسيم مبدئيًا إذا كان هو الحلّ الوحيد الذي يمكن تنفيذه، ثم عاد إلى تأكيد ذلك على لسان ممثلة في اللجنة المخصصة "سيميون تسرابكين" في 13 تشرين أول / أكتوبر 1947، أي بعد يومين فقط من إعلان الولايات المتحدة تأييدها للتقسيم بشكل علني. قال "تسرابكين" إن بلاده تفضل حلّ الدولة الواحدة، وإن تعذر ذلك بسبب الخلاف بين اليهود والعرب، فإن الحلّ الذي سيؤيده الاتحاد السوفييتي هو التقسيم. هذا الإعلان كان يعني أن مؤيدي التقسيم قد "تجاوزوا العقبة الرئيسية في طريقهم إلى هدفهم"، كما أعلن المندوب الغواتيمالي "جراندوس" المتحمس للتقسيم أكثر من الصهاينة أنفسهم.

قبل التطرق إلى أعمال اللجنة المخصصة بعد الإعلان الأميركي والإعلان السوفييتي بخصوص التقسيم، لا بد ان نعود إلى بيانات اللجنة العربية العليا والوكالة الصهيونية أمام اللجنة المخصصة.

البيان الأول للجنة العربية العليا أمام اللجنة المخصصة

كان المتحدث باسم اللجنة العربية العليا هو جمال الحسيني، نائب رئيس اللجنة العليا، والذي قدم بيانًا موسعًا حول المسألة الفلسطينية، وذلك في اجتماعها الثالث في 29 أيلول / سبتمبر 1947.

قال الحسيني في بداية حديثه أن "القضية الفلسطينية بسيطة وواضحة، حيث إن عرب فلسطين موجودون حيث وضعتهم العناية الإلهية والتاريخ"، لذلك "يحق لهم العيش في سلام في بلادهم، وفقًا لتقاليدهم وتاريخهم". ويحق لهم كذلك "الدفاع عن أنفسهم أمام كل عدوان". واعتبر الصهيونية عدواناً على الأرض والشعب، وعلى الأمم المتحدة مساعدة الشعب الفلسطيني في دفاعه في وجه هذا العدوان. وهنا تطرق الحسيني إلى التحقيقات الثمانية عشر السابقة حول فلسطين، وقال عنها "إن سلطات الانتداب كانت تهمل ما لصالح العرب، وتنفذ ما لصالح الصهاينة بعناية". وتعرض الحسيني إلى الأسس القانونية الذي تستند عليها الحركة الصهيونية، كارتباط اليهود بفلسطين قبل ألفي عام، والذي إن كان صحيحًا فهناك حق للعرب في أماكن أخرى في العالم مثل إسبانيا وأجزاء من فرنسا وتركيا وغيرها. أما عن الارتباط الديني، فقال إن لدى المسلمين والمسيحيين ارتباطًا دينيًا خاصًا بفلسطين، وليس الأمر مقصورًا على اليهود. وقال عن وعد بلفور بأنه كان وعدًا "غير أخلاقي وغير عادل وغير قانوني"، لأن بريطانيا لم تمتلك فلسطين، ولا يحق لها التصرف فيها". كذلك أشار إلى أن الوعد تطرق إلى شيئين متناقضين وهما إنشاء وطن قومي لشعب فوق الوطن القومي لشعب آخر، ولا يمكن ذلك دون تقويض حقوق ومصالح الآخر، مع أن الوعد يضمن الالتزام بحماية حقوق السكان الأصليين.

وقال الحسيني إن بريطانيا والصهيونية، تعاونتا على مدار الثلاثين عامًا الماضية "لتنفيذ سياسة تهدف إلى تدمير الوجود الوطني لأصحاب فلسطين العرب". أما نقطة الخلاف الرئيسية بينهما فهي على الأسلوب حيث "إن الصهاينة يريدون تدمير البنية العربية في فلسطين بسرعة من خلال ضربات سريعة متتالية، بينما تهدف بريطانيا إلى عمل نفس الشيء ولكن بوسائل أكثر راحة وسلاسة". وتطرق الحسيني إلى تخلي الولايات المتحدة عن مبادئها الديموقراطية من أجل دعم الصهيونية التي تمكنت من خلال نفوذها المالي ونفوذها الصحفي إلى دفع بريطانيا لتجاوز الحدود التي وضعتها لنفسها بشأن المسألة الفلسطينية، وجعلت أميركا حليفًا لها.

في النهاية أعلن جمال الحسيني أن موقف اللجنة العربية العليا هو رفض تقرير "أنسكوب"، ودعا اللجنة إلى تبني موقف إقامة دولة عربية ديموقراطية على كامل أراضي فلسطين، وصرح أن هذه الدولة ستحترم الأقليات، وتضمن حرية العبادة والوصول إلى كافة الأماكن المقدسة لجميع الطوائف. وأضاف أن عرب فلسطين سيقاومون بكل ما استطاعوا من قوة وبكل الوسائل المتاحة، كل محاولة للسيطرة على جزء من بلادهم أو تقسيم وطنهم من أجل إعطاء اليهود جزءاً كبيرًا منه.

الظهور الأول للحركة الصهيونية أمام اللجنة المخصصة

في الجلسة الرابعة للجنة المخصصة للمسألة الفلسطينية، في 2 تشرين أول / أكتوبر 1947، مثل أمام اللجنة رئيس إدارة الوكالة الصهيونية في أمريكا "آبا هيلل سيلفر"، الذي قدم خطابًا طويلًا ردّ فيه على خطاب جمال الحسيني ممثل اللجنة العربية العليا، و"كريتش جونز" وزير المستعمرات البريطاني، وتطرق إلى توصيات لجنة "أنسكوب".

انتقد "سيلفر" مقاطعة اللجنة العربية العليا للجنة "أنسكوب"، وتساءل: لماذا يأتي اليوم مندوب اللجنة العربية من أجل المطالبة بالعدل والاستقامة أمام الأمم المتحدة، مع أنه نفى في خطابه سلطتها، أي الأمم المتحدة، ورفض أن تكون لها الأحقية في اختيار نظام الحكم الذي يجب أن يكون في فلسطين؟ ثم ناقش مقولة السيد جمال الحسيني بأن يهود أوروبا ليسوا من نسل اليهود الذين عاشوا في فلسطين قبل آلاف السنين، بل اعتبر هذه المقولة عنصرية، "وليس حريًا بعرب فلسطين أن ينشغلوا بالبحث عن نسب اليهود". ثم ادعى أن فلسطين لم تكن مستقلة عن محيطها خلال حكم العرب والمماليك والعثمانيين لها، وكانت كذلك فقط عندما قام اليهود ببناء دولتهم فيها لمدة ألفي عام قبل الشتات. وأعتمد هنا على ما جاء في تقرير لجنة "بيل"، بأن فلسطين كانت "خارج التاريخ في فترة الحكم العربي والعثماني منذ القرن السابع الميلادي".

ثم اعتمد في محاولة تثبيت الحق اليهودي في فلسطين، على وعد بلفور وصكّ الانتداب البريطاني، وعلى أقوال سياسيين بريطانيين مثل "اللورد م. ميلنر" الذي قال في 23 حزيران / يونيو 1923، بأن "مصير فلسطين لا يجب أن يكون مرتبطًا بمشاعر الأغلبية العربية في البلاد، بل يجب الأخذ بالاعتبار التاريخ اليهودي في هذه البلاد". ومقولة "فيلد مارشال سماتز" عضو مجلس الحرب البريطاني، الذي نشر وثيقة وعد بلفور ووصفها بأنها "أحد الأعمال الأكبر في تاريخ البشرية". واعتمد أيضًا على توصيات لجنة "بيل"، واعتبر إقامة إمارة شرق الأردن بأنه التقسيم الأول لأرض "إسرائيل"، ومع ذلك فإن الوكالة الصهيونية توافق على اقتراح تقسيم الربع المتبقي من هذه الأرض، ويقصد فلسطين.

ثم أعلن موافقة الوكالة الصهيونية على كل البنود التي أقرتها لجنة "أنسكوب" بالإجماع، ورفض مشروع الدولة الفدرالية والذي اقترحته أقلية لجنة "أنسكوب" ووصف المشروع بأنه غير مقبول بالمرة، حتى أن يكون أساسًا للنقاش، حيث إن وضع اليهود كأقلية سيستمر إلى الأبد حسب هذا الاقتراح. وفي النهاية أعلم اللجنة بأن قرار الحركة الصهيونية هو الموافقة على مشروع أغلبية لجنة "أنسكوب" وهو التقسيم، بدون الدخول في تفاصيل المشكلات التي يتضمنها هذا الاقتراح. وقال إن اليهود في فلسطين وجميع أنحاء العالم سيحاربون من أجل تنفيذ مشروع التقسيم إذا اضطروا إلى ذلك، بسبب إعلان بريطانيا أن قواتها لن تشارك في تنفيذ الحل الذي ستقرره الجمعية العامة.

اللجنة العربية العليا والوكالة الصهيونية أمام اللجنة المخصصة مرة أخرى

في الجلسة السابعة عشر للجنة المخصصة، المنعقدة في 17 تشرين أول / أكتوبر 1947، قدم "موشي شرتوك" ممثل الحركة الصهيونية خطابًا مطولًا أمام اللجنة المخصصة. وفي اليوم التالي مثل جمال الحسيني أمام اللجنة ليردّ على ادعاءات "آبا هيلل سيلفر" في الجلسة الرابعة، وعلى خطاب "موشي شرتوك" من الاجتماع السابق.

حاول "موشي شرتوك" في خطابه المطول تأكيد حق اليهود التاريخيّ والقانوني على أرض فلسطين، معتمدًا على وعد بلفور وصكّ الانتداب، الذي حصلت عليهما الحركة الصهيونية مقابل اشتراكها مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، التي أدّت إلى تحرر العرب من الإمبراطورية العثمانية. وقام "شرتوك" بنفي الادعاء العربي والفلسطيني بأن يهود أوروبا هم من الخزر ولا يمتون بصلة لليهود الذين عاشوا في فلسطين قبل آلاف السنين. كذلك قال "شرتوك" إن الادعاء العربي بنفي الحق البريطاني في وعد اليهود بفلسطين، لا يستوي مع موافقة العرب على وعود بريطانيا بما يخص سوريا والعراق، إذ إنهما أيضاً ليستا ملكًا لبريطانيا كما هي فلسطين. وهاجم "شرتوك" الادعاء العربي بخصوص التعاون الصهيوني النازي، واتهم العرب بأنهم هم من تعاون مع النازي وصدرت بحقهم أوامر اعتقال، وكان يقصد المفتي أمين الحسيني. في النهاية قال بأن وجود 400 ألف عربي كأقلية في دولة يهودية هي الوحيدة عالميًا، ويحيط بها 33 مليون عربي، أهون من وجود 700 ألف يهودي كأقلية في الدولة العربية الموحدة.

حاول الحسيني في كلمته أمام اللجنة المخصصة في الجلسة الثامنة عشر، أن يثبت أن اليهود الأوروبيين هم من الخزر، مستندًا إلى الموسوعة العبرية ومصادر أخرى، ولذلك ليس لليهود أي حق تاريخي في فلسطين. أما عن محاولة "آبا هيلل سيلفر" بإلغاء الروابط التاريخية بين العرب وفلسطين، فقد قال الحسيني إن العرب عاشوا منذ القدم في فلسطين، وأن الذين احتلوا فلسطين في القرن السابع الميلادي، ينتمون إلى نفس الشعب، ويتحدثون نفس لغته. وفي مقارنة بين الثورة الفلسطينية الكبرى في الأعوام 1936-1939، وبين حركة العصيان العبري التي ابتدأت عام 1946، قال إن ثورة العرب كانت علنية وعادلة ضد غزاة أجانب، بينما العصيان العبري هو مجرد عمليات إرهابية ضد الحكومة البريطانية لإرغامها على الموافقة على هجرة اليهود إلى فلسطين. وحاول أيضًا دحض مقولة "شرتوك" بأن العرب لم يشاركوا في الحرب العالمية الأولى، بل استشهد بأقوال لمسؤولين بريطانيين عن دور العرب في الحرب العالمية الأولى بل والثانية أيضًا، وهنا حاول الدفاع عن اتهام رئيس اللجنة العربية العليا، بأنه كان متعاونًا مع النازية خلال الحرب الكونية الثانية. وفي النهاية قال إن العرب الفلسطينيين "قد عقدوا العزم على وضع حدّ نهائي للتعديات على حقوقهم وحرياتهم، وأن يعيشوا مستقلين في كنف دولة موحدة وديمقراطية، وتشمل فلسطين بأكملها".

اعتقد "إيفات" المؤيد للتقسيم، رغم أنه لم يعلن ذلك، أنه بحاجة إلى دفعة أخرى لإقناع أعضاء اللجنة المخصصة بالتقسيم، ولذلك سمح للدكتور "حاييم وايزمان"، والذي لا يحمل أي صفة تمثيلية، بأن يمثل أمام اللجنة في نفس الجلسة التي تحدث فيها جمال الحسيني، بحيث يكون خاتم المتحدثين قبل التقدم إلى الخطوة التالية.

ابتدأ "وايزمان" كلمته بالقول بأن بريطانيا أصدرت وعد بلفور لأنها أرادت أن تؤسّس الوطن القومي للشعب اليهودي، "وتمكينه أن يصبح مرة أخرى أمة بين الأمم الأخرى". ثم أشاد بشجاعة السياسيين البريطانيين الذين كانوا خلف صدور الوعد، وصياغة صكّ الانتداب وذكرهم بالاسم، ثم ادّعى أن تقسيم فلسطين هو الحلّ الأمثل للخروج من مأزق الصراع على فلسطين، رغم أن وعد بلفور يعطي اليهود منطقة أكبر بثماني مرات مما هو مقترح الآن. وقال إن ال 700 ألف يهودي في فلسطين، أصبحوا شعبًا له لغته وتقاليده وعاداته الخاصة، ولذلك لديهم الحق في إقامة دولتهم الخاصة. وأشار إلى أن وعد بلفور لا يعني بأي شكل من الأشكال أن يكون اليهود أقلية داخل دولة عربية معادية لليهود، بل يجب أن يحصلوا على دولتهم المستقلة.

كما اعتمد "وايزمان" في كلمته على ما قاله المندوب السوفييتي في الجلسة الثانية عشر للجنة المخصصة، والذي قال "إن على الشعب اليهودي أن لا يعتمد على دولة أخرى من أجل أمنه ورفاهيته"، بل إن الدولة اليهودية المقترحة ستكون قادرة من خلال الريّ المكثف والزراعة والصناعة، على تأمين مساكن لأكثر من مليون يهودي من النازحين في أوروبا. وأشار إلى أن فلسطين هي المكان الوحيد الذي يمكن لليهود النازحين الذهاب إليه، بعد دمار بيوتهم في ديارهم. لذلك طالب "وايزمان" اللجنة المخصصة باعتماد خطة أغلبية لجنة "أنسكوب".

"إيفات" ينفذ حيلة أميركية محكمة

في التاسع من تشرين أول / أكتوبر، طلب "إيفات" رئيس اللجنة المخصصة أن يقدم ممثلو الدول في اللجنة اقتراحات للحل تستند إلى تقرير لجنة "أنسكوب"، خلال خمسة أيام فقط. في الموعد المحدد وجد "إيفات" نفسه واللجنة أمام 17 مقترحًا للحل، كان العديد منها يتناول نقاطًا فرعية، وليس حلّاً شاملًا للمشكلة الفلسطينية.

خلال فترة الأيام الخمسة التي حددها "إيفات" طالب هذا الولايات المتحدة بإيضاح رأيها بخصوص تقرير لجنة "أنسكوب"، وهذا ما حدث فعلًا كما تقدم. ثم جاء الإعلان السوفييتي مباشرة بعدها مؤكدًا على نفس حلّ التقسيم. ثم تبع ذلك إعلان وزير الخارجية الكندي "لويس سان لوران" بتأييد بلاده للتقسيم، ثم تبعه ممثل جنوب أفريقيا "جون لورانس"، ثم ممثل نيوزيلندا السير "كارل بيرندسن" الذي قدم دعمًا قويًا للتقسيم. كان من الواضح بعد كل هذه الإعلانات أن "إيفات" سيطالب اللجنة بمناقشة حلّ التقسيم فقط، وهذا ما طالبت به الولايات المتحدة والسويد، أن يجب على اللجنة البدء في السير قدمًا نحو مناقشة التقسيم فقط، وعرض نتائج هذا النقاش على الجمعية العامة، لكن "إيفات" الذي رأى أن التقسيم تؤيده عشر دول بشكل علني فقط، ما يجعله غير قابل للإقرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة بسبب حاجته إلى تأييد ثلثي المصوتين، وبعد أن أغرق اللجنة بالفوضى الناتجة عن الاقتراحات السبعة عشر التي قدمت إليه حسب طلبه، ارتأى غير ذلك، بل فاجأ الجميع بعد انتهاء المناقشات داخل اللجنة المخصصة في 18 تشرين أول / أكتوبر 1947، والتي كان ختامها كلمات ممثلي الجمعية العربية العليا والوكالة الصهيونية، المذكورة أعلاه.

بدل ذلك، قام "إيفات" برفض اقتراح الولايات المتحدة والسويد، وقال للجنة، في 21 تشرين أول / أكتوبر 1947، بأنه لا ينوي طرح المبادئ الأساسية لتقرير أغلبية "انسكوب" للتصويت داخل اللجنة المخصصة، بل إنه قرر تعيين لجنة فرعية هدفها دراسة موضوع التقسيم، ووضع تقرير وخطة مفصلة حول هذا الموضوع. كما أنه قال للجنة بأن تقرير أقلية "أنسكوب" والذي يتحدث عن الدولة الواحدة، سيدفن إذا لم تتم مناقشته بشكل تفصيلي، ويعطى حقه الكامل في ذلك، لذلك أنشأ لجنة ثانية تتناول اقتراح الأقلية. بعدها تعرض نتائج تحقيقي اللجنتين للتصويت داخل اللجنة المخصصة، بحيث تقرر الأغلبية بشأن خطتي أو اقتراحي لجنة "أنسكوب". بالإضافة إلى ذلك عيّن لجنة ثالثة مكونة منه، ومن أمير "سيام" وممثل آيسلندا، على أن يكون هدف هذه اللجنة هو محاولة أخيرة لجسر الهوة بين العرب واليهود، لكن هذه اللجنة لم تفعل أي شيء حتى انتهاء عمل اللجان الثلاثة. واتهم "إيفات" بأنه لم يعمل بشكل كافٍ للتوفيق بين الطرفين، رغم أنه رغم أن "كل ما هو ممكن للتوفيق قد تمّ القيام به". يظهر أن الهدف من اللجنة الفرعية الثالثة هو أن يخرج "إيفات" نفسه من أي نقاش يتعلق باقتراحي لجنة "أنسكوب"، وان يبدو موضوعيًا فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. ويعتقد البعض أن النهاية المبكرة والفاشلة لجهود التوفيق سمحت للجنتين الفرعيتين الأخريين بالتباعد بشكل كامل عن بعضهما البعض.

كانت اللجنة الأولى لمناقشة التقسيم مكونة من دول المؤيدة لهذا الحلّ، وهي: كندا، وتشيكوسلوفاكيا، وغواتيمالا، وبولندا، وجنوب أفريقيا، والاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة، والأورغواي، وفنزويلا. أما اللجنة الثانية، فتكونت من الدول التالية والتي تؤيد بشكل صريح مشروع الدولة الواحدة (ما عدا كولومبيا): أفغانستان، وكولومبيا، ومصر، والعراق، ولبنان، وباكستان، والسعودية، وسورية واليمن.

بعد تشكيل اللجان الثلاثة، استعاد ممثلو الدول العربية أنفاسهم، واعتقدوا أن "إيفات" أعاد إحياء مشروع الدولة الواحدة باقتراحه هذا، لكنهم لم يعرفوا أنهم وقعوا في مكيدة ذكية، اقترحها مسؤول أميركي على "إيفات" قبل اجتماع اللجنة في ذلك اليوم، بل يقال إن من اقترحها على "إيفات" هما "لوي هندرسون" و"دين راسك" رئيس قسم الأمم المتحدة بوزارة الخارجية الأميركية، وهم بذلك يضربون عدّة عصافير بحجر واحد، إذ إنهم يبعدون العرب ومؤيديهم عن النقاش حول التقسيم، حيث إنهم سيكونون "مزعجين" إذا اشتركوا في هذا النقاش، في نفس الوقت يحافظون على سياستهم الخالية من المخاطر اتجاه العرب، إذ سيكون باستطاعتهم مناقشة التقسيم في اللجنة الفرعية بدون أن يغضبوا العرب، كذلك تكون هذه الخطوة وسيلة للضغط على الوكالة الصهيونية من أجل قبول تعديلات الولايات المتحدة على اقتراح التقسيم الذي عرضته لجنة "أنسكوب" بحيث يصبح النقب جزءاً من الدولة العربية بدل أن يكون تابعًا للدولة اليهودية.

اكتملت التمثيلية الأميريكية عند غياب "هيرشيل جونسون" ممثل الولايات المتحدة عن الجلسة، وحضور الجنرال "هيلدرينج"، المؤيد المتحمس للصهيونية مكانه، ثم معارضة هذا السريعة لاقتراح "إيفات" والذي جاء حتى قبل أن يعرض "إيفات" فكرته بشكل كامل. كانت معارضة "هيلدرينج" الصاخبة لتشكيل اللجان الفرعية، هي عبارة عن تمثيلية تم إخراجها بعناية فائقة.

الخارجية الأميركية تصرّ على تعديل اقتراح التقسيم

كان على اللجنة الفرعية الأولى، التي تشكلت بمبادرة رئيس اللجنة المخصصة، مناقشة اقتراح الأغلبية في لجنة "أنسكوب"، أي تقسيم فلسطين، مع الأخذ بعين الاعتبار التعديلات المقترحة من قبل الولايات المتحدة، والتي كانت بإيعاز من وزارة الخارجية الأميركية للوفد الأميركي في الأمم المتحدة. وكان الاقتراح الأميركي يتضمن ضم النقب الجنوبي إلى العرب، وكذلك مدينة صفد ذات الأغلبية العربية. قال وزير الخارجية "مارشال" للوفد الأميركي في الأمم المتحدة، أن قرار الدولة هو نقل النقب إلى العرب، لأنها "منطقة عربية خالصة"، و"منطقة قاحلة وجافة ومناسبة للزراعة فقط". كذلك اعتبر "مارشال" إن النقب إذا أصبح جزءاً من الدولة اليهودية "فإن هذا من شأنه أن يخلق إسفينًا في منطقة عربية يسكنها مسلمون تقليديون متعصبون ومتشددون". أما بشأن ادعاء اليهود بأنهم يريدون منفذًا إلى البحر الأحمر، من خلال خليج العقبة، قال "مارشال" إن "العقبة ليست في فلسطين"، وأن محاولة جعلها جزءاً من فلسطين وإقامة ميناء فيها هو في "موضع شكّ جدّي".

كان ممثلا الولايات المتحدة في اللجنة المخصصة، "هيرشيل جونسون" والجنرال "هيلدرينج"، من معارضي اقتراح "مارشال" بضم النقب إلى الدولة العربية، حيث اعتقد بأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تطالب بذلك، وقد يسبب هذا التعديل في خطة التقسيم، إثارة الشكّ حول عدالة التقسيم، وستتم معارضته من كل مؤيدي التقسيم في اللجنة، وستقوم الحركة الصهيونية بمعارضته بشدّة، بينما ستقوم الدول العربية وحدها بتأييد هذا الاقتراح، وهذا من الممكن أن يؤدي إلى فشل التصويت لصالح التقسيم، مما سيسبب بإيقاع اللوم على الولايات المتحدة، لأنها زعزعت ثقة بعض الدول بصحّة تقسيم فلسطين.

أما الوكالة اليهودية، فقد أعلنت حالة الطوارئ، حيث اعتبرت اقتراح الولايات المتحدة تراجعًا عن وعود سابقة، ويمكن اعتبار هذا الاقتراح بمثابة سلاح خطير في أيدي أعداء التقسيم، حيث سيؤدي إلى شكوك لدى المندوبين في الأمم المتحدة بالخطة الشاملة التي اقترحتها أغلبية لجنة "أنسكوب"، مما يعني أن فشل الخطة سيكون حتميًا. لذلك بحثت الوكالة الصهيونية عن حلّ يضمن لها تراجع الخارجية الأميركية عن اقتراحاتها، وكان عليها أن تتخذ خطوات سريعة من أجل منع هذه "الكارثة".