وبالتالي هذه الاضطرابات هي خرق للحالة النفسية التي تتسم بالثبات النسبي والتي يكون فيها هذا الشخص متمتعا بالتوافق الشخصي، الأسري والاجتماعي(3).

 

"لما استشهد ابني واعتقل أولادي ومنذ أربع سنوات ونحن نحيا ونموت كل يوم مئة موته بسبب الجيش اللي رايحين جايين علينا. أحيانا كانوا يجوا الجيش ويناموا عنا بالدار يستنوا اولادي لحتى يعودوا على البيت، وكل مرة كانوا يخربوا لنا عفش البيت ويكسروه. أوضاعنا صعبة كثير واليوم أربعة من اولادي بالسجن، والله بعلم بالوضع لما بلاقي حالي لوحدي بالدار بلاقيش حدا يمد ايده يساعدني لما بطلب ايشي وما بلاقي حدا من اولادي بنجن".

 

إن الأمهات الـ 12 اللاتي قتل أبناؤهنّ بالرصاص في أكتوبر 2000، عالقات داخل بنية مقسومة، بشكل مطلق، بين الخاص والعام. تتوصل هذه الدراسة لاستنتاج أن الفاقدة لو اختارت إعطاء فقدانها معنى عاما، سيتوجب عليها دفع ثمن قوامه عدم التحدث عن مشاعرها، غضبها، ألمها وحزنها. وهي حالة تضعها في وضع من عدم الانسجام بين العالمين – عالم المعاناة الشخصية وعالم التوقعات الاجتماعية، القومية والدينية منها كأم شهيد (8).

 

وبالتالي فالتركيز على البدائل والسلوكيات الصحيحة لحدث الفقدان مثل توديع الشهيد وحضور الجنازة وتقبل الخبر وعدم ترك مجال للخيال بأن الميت سيعود أو أنه لم يمت. كذلك تم التركيز على سلوكيات إيجابية، مثل طبخ جميع أنواع الطعام التي كان يحبها الشهيد، ونقاط القوة التي دفعت الفاقدات لتجاوز مرحلة صعبة من حياتهم، والعودة إلى روتين الحياة من أجل بقية أفراد الأسرة الموجودين وللمحافظة عليهم، واحتضانهم من جديد.

 

كانت الفاقدات يعبرن بطلاقة ويصرحن عن كل ما بداخلهن عن اشتياقهن للزوج أو الابن. كان هناك مشاعر حزن عند سرد قصص توديع الشهداء ودموع وبكاء ومشاركة وجدانية من الجميع وتأكيد على ضرورة ممارسة الحياة الطبيعية بعد الفقدان، وتجاوز المرحلة واستعمال ملابس وأغراض الشهيد لأخوته، ولكن هناك من صمم على إبقاء ملابس الأسير أو الشهيد بالخزانة مدة 8 سنوات، وتمت مناقشة الموضوع على أن ذلك غير صحي، ويكفي أن يحتفظ بالأشياء نظيفة للذكرى. تم التأكيد أيضا أن ثقة الزوجة الفاقدة بنفسها يجب أن تكون أكبر من كل الكلام والإشاعات حتى تستطيع أن تعيش وتربي أطفالها بمزيد من القوة والصلابة.

 

أخرى حيث تم طرح قضية مهمة وبنفس الوقت ممنوع الحديث عنها أسريا وثقافيا، حيث أنها تؤثر على حياتهن بشكل كبير وأحيانا تسبب مصاعب ومشاكل في حياتهن.

 

هذه القضية هي نظرة الناس والمجتمع إلى زوجة الشهيد أو زوجة الأسير حيث أكدت الفاقدات على أن هذه الزوجة تكون تحت المجهر، وإذا خرجت أو دخلت تكون محط أنظار الأهل والجيران، وكأنهم يودون أسرها في حجرة وإقفال كل المنافذ عليها – هذه النظرة لهذه الزوجة التي يستكثر عليها الناس أن تلبس أو تخرج أو ترفه عن نفسها وكأنهم يريدون لها الموت مثل زوجها أو السجن مثل الأسير. "وهذه النظرة وهي نظرة لا إنسانية كثيرا ما تؤدي بهذه الزوجة إلى القلق وحدوث المشاكل بينها وبين أسرتها أو أسرة زوجها".

 

 "سوزان" تقول إن الناس بتراقبها وكأنهم لا شغل لهم غيرها. عبرت النساء بطلاقة عن هذا الموضوع الذي هو يلمس واقعا يتكرر كل يوم مع زوجين، وأكدت الفاقدات "أن ثقة هذه الزوجة بنفسها يجب أن تكون أكبر من كل الكلام والإشاعات حتى تستطيع أن تعيش وتربي أطفالها بمزيد من القوة والصلابة".

لقاء آخر يطرق باب وكما يبدو فهو حساس جدا، وقد تخجل الفاقدات من التعبير والكلام فيه وهو موضوع تأثر العلاقة الجنسية بين الزوجين بعد حادثة الفقدان أو الأسر: "

 

"أم عماد" فاقدة جديدة تؤكد أمام فاقدات أخريات أن علاقتها الزوجية بعد اعتقال ابنها قد انقطعت مدة قصيرة ولكنها عادت لطبيعتها لأنها شعرت أن زوجها يقف إلى جانبها ويواسيها وهو يبادلها مشاعر الحزن. وكذلك الأمر بالنسبة لــ "أم حسني" التي قالت أن زوجها كان سندها في كل محنة لذلك لم تطول مدة الانقطاع بينهما. لكن بقية الفاقدات أكدن على أن بعد حادثة الفقدان "تكون الزوجة نفسيا لا تتقبل موضوع العلاقة الجنسية لأنها تكون تعبانه نفسيا".

 

يصبح الفقدان أمرا معقدا وفي أحيان يجرؤ البعض عن التفوه به. فإضافة إلى العلاقات الزوجية هنالك بطبيعة الحال قضايا أكثر حساسية تعتبر من الممنوعات للإنسان العادي. هذه الفاقدة "أم سامر" لا تعرف مصدر معاناتها أهو الاحتلال أو السلطة الفلسطينية، فتقول: "

 

(8) عواد، ن. (2006). قصة الأمهات الـ 12 اللاتي قتل أبناؤهنّ بالرصاص في أكتوبر 2000. رسالة ماجاستير غير منشورة. قسم الدراسات متعددة المجالات، وحدة الدراسات الجندرية- جامعة بار ايلان.

* د. سهيل حسنين أستاذ مشارك في مجال الخدمة الاجتماعية وعلم الإجرام. من سكان بلدة عبلين. متخصص في مجالات محددة: البحوث التقييمية، سياسة السيطرة الاجتماعية، المشكلات الاجتماعية (وخاصة العنف والمخدرات)، والخدمة الاجتماعية الراديكالية. أصدر مجموعة من الكتب والأبحاث، منها: الانتفاضة الفلسطينية الأولى من منظور علم الإجرام، المخدرات والسياسة 1948-1990، عدالة الأحداث في الضفة الغربية وقطاع غزة وصدر مؤخرا (2010) الكتاب: المرأة الفلسطينية، الاحتلال، الفقدان الجمعي والدعم الشمولي.