تجربة الفقدان، الذاكرة المنسية وتغيير "الطابو" الاجتماعي: ما بين الحيز الخاص والحيز العام

"وهكذا، فإن التحرر مثله مثل عملية الولادة، وهو عملية ولادة مؤلمة. الإنسان الذي يتمخض عنها هو إنسان جديد، قابل للحياة فقط في حالة استبدال التناقض بين المضطَهد والمضطِهد بــــ "أنسنة" كل الناس. بكلام آخر إن حل هذا التناقض يتم من خلال المخاض الذي يجلب إلى هذا العالم الإنسان الجديد الذي لم يعد لا مضطَهدا ولا مضطِهدا، بل إنسانا يسعى إلى تحقيق حريته" (1).

تجربة الفقدان، الذاكرة المنسية وتغيير

"وهكذا، فإن التحرر مثله مثل عملية الولادة، وهو عملية ولادة مؤلمة. الإنسان الذي يتمخض عنها هو إنسان جديد، قابل للحياة فقط في حالة استبدال التناقض بين المضطَهد والمضطِهد بــــ "أنسنة" كل الناس. بكلام آخر إن حل هذا التناقض يتم من خلال المخاض الذي يجلب إلى هذا العالم الإنسان الجديد الذي لم يعد لا مضطَهدا ولا مضطِهدا، بل إنسانا يسعى إلى تحقيق حريته" (1).

 

سؤال يتبادر في ذهن كل شخص المهتم بتحرر الفاقد من فقدانه، وفي ظل الفقدان المستمر بل المزمن الذي يعيشه شعبنا الفلسطيني: هل الفاقد أسير معتقدات ومتطلبات اجتماعية والتي تحدد كيفية تعبيره عن فقدانه؟ والسؤال الأكثر تحديدا هو: هل المرأة الفاقدة هي بالأخص ضحية لــ متطلبات اجتماعية المرتبطة بالفقدان الحاصل في سياق سياسي وعسكري كما هو الحال في مناطق محتلة؟ نحن على وعي أنه لا يمر يوم بدون سقوط الشهداء وحدوث عشرات الاعتقالات والإصابات الناتجة من ممارسات قوات عسكرية للاحتلال الإسرائيلي وفي ظل تواجد السلطة الفلسطينية، ناهيك عن عشرات الآلاف من الأسرى السياسيين في السجون الإسرائيلية. بطبيعة الحال هذه عناوين لأخبار مجردة نسمعها ونشاهدها، فهل فكرنا مرة ماذا يعني هذا الحدث بالنسبة لزوجة شهيد أو معتقل أو مصاب؟

 

تعكس المقالة الحالية ملاحظات وأفكار تم طرحها في تجربة خاضتها فاقدات فلسطينيات وضمن مشروع حول "الفقدان، الاحتلال والدعم وفق منهج من فاقدة إلى فاقدة" (2).

 

"اضطرابات ما بعد الصدمة" وهذا هو المفهوم المستخدم لوصف الأعراض التي تتطور لدى الشخص الذي جرب كربا ما أو صدمة والتي لا تعتبر ضمن التجارب العادية التي يستطيع التعامل معها، وبالتالي هذه الاضطرابات هي خرق للحالة النفسية التي تتسم بالثبات النسبي والتي يكون فيها هذا الشخص متمتعا بالتوافق الشخصي، الأسري والاجتماعي(3).

 

"لما استشهد ابني واعتقل أولادي ومنذ أربع سنوات ونحن نحيا ونموت كل يوم مئة موته بسبب الجيش اللي رايحين جايين علينا. أحيانا كانوا يجوا الجيش ويناموا عنا بالدار يستنوا اولادي لحتى يعودوا على البيت، وكل مرة كانوا يخربوا لنا عفش البيت ويكسروه. أوضاعنا صعبة كثير واليوم أربعة من اولادي بالسجن، والله بعلم بالوضع لما بلاقي حالي لوحدي بالدار بلاقيش حدا يمد ايده يساعدني لما بطلب ايشي وما بلاقي حدا من اولادي بنجن".

 

يمكن القول إن ما يسمى بــ "اضطرابات الضغوط التالية للصدمة" تنجم من معاناة الفرد وما شاهده وأدركه من منظوره كصدمة شديدة، ويترتب عليها اضطراب محدد هو اضطراب الضغوط التالية للصدمة. فعلى سبيل، يمثل مشهد تدمير المنازل بالنسبة لساكنيها صدمة كبيرة خارج نطاق الخبرة الإنسانية العادية، ويؤدي هذا فيما بعد إلى ظهور أعراض الاضطرابات السلوكية التي قد تكون في صورة قلق وتوتر دائمين أو عدوانية خاصة عند الفئات التي تنقصها الخبرة والتجربة.

 

 وقد زاد الاهتمام في الدراسات العربية في مفهوم الصدمات والاضطرابات ما بعد الصدمات. وكان الاهتمام في تكوين أدب عربي مميز ومجموعة من الدراسات الميدانية التي تركز على تجارب فاقدين وفاقدات في مناطق عربية متعددة وخاصة في لبنان، فلسطين، العراق والكويت (4).

 

كما تظهر الدراسات الآثار النفسية والاجتماعية التي أنتجها الاحتلال على المرأة الفلسطينية، فهي تبرهن أن المرأة هي الفئة الأكثر تضررا نتيجة الفقدان. وزيادة على الخوف والحزن المزمنين فهي اضطرت على إهمال واجباتها الأسرية والتمشي وفق ظروف جديدة التي فرضت عليها. لكن النتيجة الإيجابية هي أن النساء، ضحايا الاحتلال، استطعن التعبير عن قدراتهن على التكيف مع هذه الظروف الجديدة والتفاعل معها، وهذا التكيف ناتج من توفر العوامل الاجتماعية التي تتمحور حول مميزة التماسك الأسري والروابط الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني وخاصة في أوقات الصدمات (5).

 

إضافة إلى ذلك، تم توثيق لروايات نساء خلال الانتفاضة الثانية والتي هدفت التعرف على الأدوار والصعوبات التي تواجه المرأة، وبالتالي تم التوصل لاستنتاج أن زوجات الشهداء يعانين من فقدان الأمان العاطفي والضغط الناجم عن تلبية احتياجات الأسرة الاقتصادية والنفسية (6) وأن زوجة الشهيد تعاني الكثير نتيجة الفقدان ولكن إيمانها بالله ساعدها بتقبل الفقدان وكان عزاؤها الوحيد مع الأهل والأقارب والأصدقاء (7).

 

إن الأمهات الـ 12 اللاتي قتل أبناؤهنّ بالرصاص في أكتوبر 2000، عالقات داخل بنية مقسومة، بشكل مطلق، بين الخاص والعام. تتوصل هذه الدراسة لاستنتاج أن الفاقدة لو اختارت إعطاء فقدانها معنى عاما، سيتوجب عليها دفع ثمن قوامه عدم التحدث عن مشاعرها، غضبها، ألمها وحزنها. وهي حالة تضعها في وضع من عدم الانسجام بين العالمين – عالم المعاناة الشخصية وعالم التوقعات الاجتماعية، القومية والدينية منها كأم شهيد (8).

 

حسب تجارب الفقدان في مناطق أخرى التي تعاني من ويلات الحروب والنزوح القسري وجد أن للفقدان تأثيرا على العلاقات الأسرية والزوجية. ففي دراسة ميدانية التي احتوت 50 امرأة يعانين من الفقدان الناتج من صراع مسلح في فترة الحرب في البوسنة والهرسك ومقارنتها ب 50 امرأة يعانين من الفقدان العادي و50 امرأة لم يعانين من الفقدان تم التوصل إلى تواجد أعراض المرتبطة بالفقدان السياسي مثل التوتر، الاكتئاب، الغضب، العنف وخلل في التواصل الاجتماعي والتي تؤدي كلها إلى مشكلات خاصة في مجال العلاقات الزوجية والجنسية. حيث تؤكد الدراسة أن هذا الفقدان يؤدي بالضحية إلى شعورها بالغضب والعنف تلقائيا في حالة شعورها في خطر وكطريقة لحماية أنفسها أو المحافظة على كيانها في مواقف الفقدان الجديدة التي تواجهها (9) وأن النساء، اللواتي هن عرضة للصدمات الناتجة من الصراعات السياسية، يعانين من أعراض ما بعد الصدمة ولمدة قد تتراوح عشر سنوات بعد الحرب.

 

وفي السياق الفلسطيني فنحن نتحدث عن احتلال متواجد في كل مكان، وعن فقدان جمعي مزمن ومتوازن. وما يميز هذا الفقدان الجمعي أنه يجسد عنف الاحتلال المستمر، وهذا الفقدان يشجع التضحية بالذات الفردية للحفاظ على كرامة الذات الجماعية. لكن هذا الطابع المعنوي للفقدان لا يعني إلغاء أو تجاهل عناصر الكوارث الفردية التي وصلت إلى حدود التعدي على أبسط حقوق الإنسان، ومنع الإنسان الفلسطيني عن ممارسة إنسانيته، إضافة إلى التهديد المستمر لأمنه ولحياته وممتلكاته؛ وإن أي فقدان راهن ليس بالوحيد لذلك يصعب الحديث عن مصيره بمعزل عن الفقدان السابق؛ هذه هي "تراكمية الصدمة" المصطنعة إسرائيليا بحق الشعب الفلسطيني، حيث تنطوي على حروب وقتل وتهجير واعتقال وتعذيب.

 

المسألة الأساسية المطروحة في المقالة الحالية هي أن الفقدان يجعل الفاقد يتأرجح بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي، أي بين الحيز الخاص (مشاعر ومعتقدات فردية) والحيز العام (متطلبات ثقافية وموروث اجتماعي) وهذا الفقدان يعتبر دافع للسيطرة على الحيز الخاص للفاقدات من خلال تحويله لحيز عام. التجربة الفلسطينية تبرهن ذلك. فالفاقدة "سلوى" أصبحت تعاني من التحكم والتسلط عليها من الناس حولها مثل أهل الزوج وأهلها، وزادت ضغوطاتهم عليها "سبب طلوعي من البيت هو ضرب سلفي لي وهذا ما جعلني أرفض قطعيا أن أرجع على البيت".

 

و"أم محمد" التي منذ سبع سنوات عندما استشهد محمد لم تعمل المعمول ولم تطبخ ما يحبه محمد. قالت لها فاقدة أخرى: أن ابنتك عندها ولد واسمه محمد احبيه مثل ما تحب خاله واعملي المعمول وسترينا أنه شيء عادي واطبخي ما كان يحبه واطعمي منه من تحبين. فقالت: أنت قلت لي في زيارتك الماضية هذا الشيء وانا طبخت لبناتي المقلوبة وكانوا بناتي ينظرنا في بعضهن البعض كيف حصل هذا فنحن لم نطبخ المقلوبة منذ 7 سنوات" فــ "أم محمد" أصبحت تذهب إلى السوق، وتطبخ وتعمل أعمالها المنزلية و"أنا الآن أعيش مقتنعة أن محمد مات والحياة مستمرة". قررت "أم محمد" ان تعيش حياتها كباقي البشر وتعمل أعمالها على أكمل وجه وتقبلت استشهاد محمد، وأن تزور بناتها المتزوجات، وأن تذهب إلى السوق لإحضار حاجات المنزل.

 

في المثال التالي نرى كيف يمكن تغيير سلوكيات اعتادت الفاقدات ممارستها. "الداعمة: شو رأيك انه احنا نسمح لأهل الشهيد أن يجلسوا بمكانه ويلبسوا لبسه؟ نعمة: أنا ما بحب أي واحد يلبس أواعيه أو يركب سيارته، وبنقهر لما بلاقي حدا راكب سيارته. صباح: أنا اعطيت أصحاب ابني أواعيه. نعمة: أنا كل ملابس زوجي خربت محل ما هدموا البيت وطخوه كيف بدي أعطي الناس ملابسه، لكن طلع قميص وبنطلون سليمين.. ما غسلتهم وبظل أشم عرقه. الداعمة: إنت لازم تغسليهم لأن ريحة العرق مع الفترة بتصير سيئة. كلثوم: لا يا ... أنا زوجي ملابسه إلها 8 سنوات بعرقها وخبيتها دايرة بالي عليها. ومن سنة راح ابني على الزيارة فدخلوه عند أبوه فصار ابوه يبوس فيه ويحضنه. فلما خرج ابني طلب مني ما أغسل ملابسه بظل يحضنهم ويشم ريحتهم. الداعمة: ما يلبس ثيابي إلا أعز أحبابي". لاحظوا كيف تساهم الداعمة في تنمية أفكار بديلة المرتبطة بالفقدان وبالتالي فهي وكيلة تغيير التي نجحت بأسلوبها غرس سلوكيات جديدة بدل من سلوكيات التي يعتبر الحديث عنها من الممنوعات.

 

مثال آخر تعكسه داعمة: "بداية تحدثت أم عامر عن تجربتها إزاء فقدان ابنائها الذين استشهدوا، والسلوكيات الصحيحة أن الناس لا يريدوننا أن نبكي بل نزغرد. وعملت على ما قالوه لي وهذا من السلوكيات الخاطئة لأن الفاقدة يجب ان تبكي لان ذلك يفرغ عنها، والرسول (صلعم) بكى على ابنه إبراهيم.. (ان القلب ليحزن والعين لتدمع على فراقك يا ابراهيم).. إذا الرسل بكوا أبناءهم فكيف نحن بني البشر. ومن السلوكيات الخاطئة أيضا الذهاب للمشعوذين واخذ المهدئات. وقد سردت أم عامر تجربة لفاقدة كانت تتناول المهدئات".

 

كما تحدثت "أم عاصي" عن تجربتها، والتفريغ عن نفسها بقراءة القرآن والإيمان بالقضاء والقدر والنوم مكان الشهيد أو الميت وإعطاء ملابس الشهيد لاخوته ولاحبائه كقول: اعز احبابي اللي بلبسوا ثيابي، وأيضا الذهاب إلى مكان استشهاده وقراءة الفاتحة، فالسلوكيات الإيجابية هو تذكير في الأعمال الحسنة التي كان يقوم بها والدعاء له.

 

 و"وداد" فاقدة أسمعت أقوالها عالية للفاقدات المشاركات في مجموعة الدعم قائلة: "سلفي عندما استشهد قام الجيش باحتجاز جثته على الحاجز، وكانت حماتي صابرة فلم تبك.. فصار الناس يقولون لها إنها قاسية القلب لم تبك شهيدها.. فنحن لا نريد أن نعمل كما يريد الناس، ولكن نعمل كما نريد نحن لأن الشهيد هو ابنها".

 

 تلخص داعمة اتجاه في التعامل مع الفقدان: "كسر الصمت يكون من خلال كثرة الحديث عن الفقيد نفسه، الله أعطى وألله اخذ، اللهم أجرني في مصيبتي واجرنا خيرا منها الاعتراف بمصيبتها. ونقول لها مهجة قلبك من حقك البكاء فالمشاكل تبدأ صعبة والفقدان صدمة كبيرة ... تحسيسك أنك انت شاعرة معها... ابكي فذلك يريحها كثيرا وعندما تتذكر ابناءها تعمل أي شيء على تشجيع نفسها على استمرارية الحياة، وعلى أن تطبخ الطعام الذي يحبه أولادها الشهداء أو المعتقلون وتعزم أصدقائه وأحبابه على هذا الطعام".

 

وبالتالي فالتركيز على البدائل والسلوكيات الصحيحة لحدث الفقدان مثل توديع الشهيد وحضور الجنازة وتقبل الخبر وعدم ترك مجال للخيال بأن الميت سيعود أو أنه لم يمت. كذلك تم التركيز على سلوكيات إيجابية، مثل طبخ جميع أنواع الطعام التي كان يحبها الشهيد، ونقاط القوة التي دفعت الفاقدات لتجاوز مرحلة صعبة من حياتهم، والعودة إلى روتين الحياة من أجل بقية أفراد الأسرة الموجودين وللمحافظة عليهم، واحتضانهم من جديد.

 

كانت الفاقدات يعبرن بطلاقة ويصرحن عن كل ما بداخلهن عن اشتياقهن للزوج أو الابن. كان هناك مشاعر حزن عند سرد قصص توديع الشهداء ودموع وبكاء ومشاركة وجدانية من الجميع وتأكيد على ضرورة ممارسة الحياة الطبيعية بعد الفقدان، وتجاوز المرحلة واستعمال ملابس وأغراض الشهيد لأخوته، ولكن هناك من صمم على إبقاء ملابس الأسير أو الشهيد بالخزانة مدة 8 سنوات، وتمت مناقشة الموضوع على أن ذلك غير صحي، ويكفي أن يحتفظ بالأشياء نظيفة للذكرى. تم التأكيد أيضا أن ثقة الزوجة الفاقدة بنفسها يجب أن تكون أكبر من كل الكلام والإشاعات حتى تستطيع أن تعيش وتربي أطفالها بمزيد من القوة والصلابة.

 

تجسد النساء الفقدان من خلال استخدام طقوس وأنماط سلوكية ويحتفظن بها علامة لاستمرارية الفقدان. فالفاقدة تتعلم وتكتسب هذه الطقوس ثقافيا، ويتوقع منها الاستمرار في حملها وتطبيقها. الحديث حول هذه الأنماط بل هذه الطقوس هو تحد ذو معان جوهرية أسريا وثقافيا اجتماعيا. سماع التجارب ودحض هذه الطقوس ليست بالعملية السهلة. هذا التفكير البديل يكون في أحيان عديدة مستحيلا بل مغامرة. "أم سرحان" والدة لشهيدين و "أم يوسف" والدة لشهيد يحتجز الاحتلال جثمانه منذ الانتفاضة الثانية. هما داعمتان قائدتان اشتركتا في برنامج تدريبي للداعمات. كانتا تتحدثان ودائما في مجمعات نسائية حول تجربتهما في الفقدان. كانت "أم سرحان"، والدة الشهيدين، تقول للنساء كيف أنها وزعت ملابس أبنائها على إخوتهم وأصدقائهم وكانت تقنعهم من خلال القول: اعز أحبابي تلبس ثيابي". أما "أم يوسف" فكانت تلقي بشعر الذي كتبته حول الفقدان أمام الفاقدات.

 

وفاقدة أخرى التي تحدثت كيف أنها خافت عندما رأت خالة زوجها تنام على سرير زوجها الذي اعتقل والموجود في احد السجون. وقد أكدت لها الداعمة أن هذه الطريقة صحيحة لاستمرار الحياة ومواصلتها رغم الفقدان. عامة، تم تشجيع المشاركات الحديث عن أعمال الشهيد وحياته أو حياة السجين وعدم تجنب الحديث عنه لأن ذلك يساعد في التخفيف من حدة الصدمة، ويساعد على إخراج الحزن والألم. إن هذا هو بديل للعادات وهذه الممارسات الجديدة تعكس فهما للمرأة ولموقعها الاجتماعي الجديد التي تستطيع من خلاله وضع حد لممارسات اجتماعية تبدو غير عقلانية.

 

التفكير المسيطر في سياق الفقدان هو أن المرأة هي المسؤولة عن فقدانها، وهذا قول قد يكون بعيد عن المنطق والواقع. إن شعور الفاقدة بالذنب هو اتجاه مسيطر في أذهان أفراد في المجتمع، ولذلك فإن الفاقدة تشعر أنها السبب باعتقال ابنها أو ابنتها "تحطمت معنوياتها بسبب الاعتقال وصار لديها تأنيب ضمير بانها السبب" أو "تفكر دائما بالاسير وتقول انه هسا بدون اكل... تشعر انه في احد ناقص".

 

هنالك قضايا تعتبر من الممنوعات. كان هذا اللقاء مختلفا عن لقاءات أخرى حيث تم طرح قضية مهمة وبنفس الوقت ممنوع الحديث عنها أسريا وثقافيا، حيث أنها تؤثر على حياتهن بشكل كبير وأحيانا تسبب مصاعب ومشاكل في حياتهن.

 

هذه القضية هي نظرة الناس والمجتمع إلى زوجة الشهيد أو زوجة الأسير حيث أكدت الفاقدات على أن هذه الزوجة تكون تحت المجهر، وإذا خرجت أو دخلت تكون محط أنظار الأهل والجيران، وكأنهم يودون أسرها في حجرة وإقفال كل المنافذ عليها – هذه النظرة لهذه الزوجة التي يستكثر عليها الناس أن تلبس أو تخرج أو ترفه عن نفسها وكأنهم يريدون لها الموت مثل زوجها أو السجن مثل الأسير. "وهذه النظرة وهي نظرة لا إنسانية كثيرا ما تؤدي بهذه الزوجة إلى القلق وحدوث المشاكل بينها وبين أسرتها أو أسرة زوجها".

 

 "سوزان" تقول إن الناس بتراقبها وكأنهم لا شغل لهم غيرها. عبرت النساء بطلاقة عن هذا الموضوع الذي هو يلمس واقعا يتكرر كل يوم مع زوجين، وأكدت الفاقدات "أن ثقة هذه الزوجة بنفسها يجب أن تكون أكبر من كل الكلام والإشاعات حتى تستطيع أن تعيش وتربي أطفالها بمزيد من القوة والصلابة".

 

لقاء آخر يطرق باب وكما يبدو فهو حساس جدا، وقد تخجل الفاقدات من التعبير والكلام فيه وهو موضوع تأثر العلاقة الجنسية بين الزوجين بعد حادثة الفقدان أو الأسر: "الأم الفاقدة تبتعد عن زوجها، وتحاول أن تتخلص من العلاقة الزوجية بالنوم مع أولادها مما ينشأ عن ذلك ما يسمى عزبة الأزواج، وهذا سلوك خاطئ يجب أن ننبه الفاقدة من تأثير علاقتها بزوجها وأولادها".

 

"أم عماد" فاقدة جديدة تؤكد أمام فاقدات أخريات أن علاقتها الزوجية بعد اعتقال ابنها قد انقطعت مدة قصيرة ولكنها عادت لطبيعتها لأنها شعرت أن زوجها يقف إلى جانبها ويواسيها وهو يبادلها مشاعر الحزن. وكذلك الأمر بالنسبة لــ "أم حسني" التي قالت أن زوجها كان سندها في كل محنة لذلك لم تطول مدة الانقطاع بينهما. لكن بقية الفاقدات أكدن على أن بعد حادثة الفقدان "تكون الزوجة نفسيا لا تتقبل موضوع العلاقة الجنسية لأنها تكون تعبانه نفسيا".

 

يصبح الفقدان أمرا معقدا وفي أحيان يجرؤ البعض عن التفوه به. فإضافة إلى العلاقات الزوجية هنالك بطبيعة الحال قضايا أكثر حساسية تعتبر من الممنوعات للإنسان العادي. هذه الفاقدة "أم سامر" لا تعرف مصدر معاناتها أهو الاحتلال أو السلطة الفلسطينية، فتقول: "وهذه ليست هذه المرة الأولى التي يقوم الجيش باقتحام المنزل لاعتقال ابني بل هذه المرة الثالثة وقبل اعتقاله المرة الثالثة وهي الأخيرة كان معتقل لدى السلطة الفلسطينية لمدة 22 يوما، وبعد خروجه من سجن السلطة تم اعتقاله من قبل الجيش الإسرائيلي".

 

تحاول الداعمة توضيح الوضع فليس من المعقول وفق تصورها أن تقوم السلطة باعتقال ابن "ام سامر" وتسألها: "هل اعتقال ابنك من قبل السلطة كان حماية له من قبل الاحتلال؟" فأجابت الفاقدة: "نعم لان السلطة

 الفلسطينية قالوا أنه ممكن في اي لحظة الجيش ممكن يعتقلوه وأمضى 20 يوما ولم يتم اعتقاله، وكنت في هذه الفترة كثير قلقه بعد خروجه من سجن السلطة حيث أن السلطة اعتقلته كي تحميه من الجيش الإسرائيلي. ولكن الناس كانوا يقولوا بان السلطة اعتقلته على أساس سرقه واعتبارات شخصيه والعمالة وكان ذلك الكلام يؤثر علي".

 

وقصة "أم ليلى": "في ليلة السبت الساعة الثانية والنصف جاءت إلى الحي قوات الاحتلال الاسرائيلي طوقوا المنطقة وفتشوا بيوت الجيران. وفي الساعة الخامسة كانت جميع أسطح المنازل والشوارع في الحي تعج بالجنود، قرعوا الجرس واخذوا يضربون على الباب الخارجي قنابل مضيئة. وقلت لهم ماذا تريدون قالوا: اخرجوا جميعكم وأيديكم فوق رؤوسكم ومعكم الهويات... خرج زوجي وابن ابنتي الأرملة والتي تسكن معنا في المنزل فتشوهم واوقفوهم على الحائط... ليلى ابنتي تعمل في جريدة واوقفوها عن العمل من قبل سنتين. قلت له ماذا تريد من ليلى؟ وأخذوا ليلى ... ابنتي قوية الشخصية ومعنوياتها عالية ذهبوا بها ... فابني سعد شهيد، وابنائي كانوا يسجنون إداري، ولي ابن مسجون عند السلطة. ابنتي تعمل صحفية في جريدة ... اعتقلتها السلطة ثلاثة أيام وأطلقوا سراحها، وبعد ذلك اعتقلها الإسرائيليون... أنا افتقدها".

 

 نعود لــ "ام ليلى" التي كانت تفكر أن ليلى بالسجن تعاني، ولكن اتضح لها بعد دعمها أن ابنتها قوية وشجاعة ولا تخاف من الجيش والسجن.. ليس كما تخيلت. كانت تفكر بأن ابنتها داخل السجن ستكون منهارة لأنها انثى لا تستطيع التأقلم داخل السجن، لكن بعد زيارتها لها والتحدث معها أحست أنها غلطانة وأن ليلى أقوى وأصبر من الرجال".

 

هذه التجربة وحقا تعكس الوضع المعقد الذي تعيشه الفاقدات خاصة والمجتمع الفلسطيني عامة، إنها دوامة الفقدان المستند على أفكار ومشاعر مشتتة بل متناقضة يتداخل فيها النوع الاجتماعي، السياسة والجنائيات والسلطة الفلسطينية التي تبدو أنها "داخلية" (أو ما يسمى بلغة علم الإجرام بالعدو الداخلي) مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي التي تبدو أنها "خارجية" (أو ما يسمى بلغة علم الإجرام بالعدو الخارجي). والوضع أكثر تعقيدا فــ "أم كايد" تتحسر على فقدان ولديها، وهما الآن معتقلان في أحد السجون الإسرائيلية. كانت تتحدث عن اعتقالهما بحزن. تسترجع الداعمة كلام "أم كايد" فتقول: "ولكنها عبرت عن مشاعرها وأخرجت كل الكلام الذي بداخلها. بكت وتحدثت بصراحة متهمة السلطة أنها وراء اعتقال أبنائها. فكانت "أم كايد" تقول: أنا لا أخاف من احد لأن الرب واحد وتوكلت على الله".

 

إن مهام الفاقدة لم تنته مع الفقدان. إن مهمة طرح قضية الفقدان من قبل داعمة فاقدة ليست بالمهمة السهلة. تقف الداعمة أمام جمهور من الفاقدات فتارة نساء في الأربعين والخمسين، تارة أطفال فاقدين وتارة أزواج وتارة أخرى شباب وفتيات. تقول الداعمة لهم جميعا وبصوت عال: "إن الحياة مستمرة، ولو أني ظليت أفكر بأولادي الشهداء لكنت فقدت بقية أولادي. تعلمت أن احمي أبنائي الآخرين لأن الحي أبقى من الميت، تعلمت أن اهتم بزوجي بعد أن هجرته عشرة شهور، علموني كيف أركز على وضعي الصحي كي استطيع أن أساعد أولادي وبناتي. علموني كيف أتعامل مع خطيبة ابني. كنت أقول في البداية على خطيبة ابني أن تنذر نفسها حتى عندما تموت تكون ملكة الحوريات، وتعلمت كيف ان الحياة مستمرة، وذهبت إلى خطيبة ابني وقلت لها ابني اختار طريقه، وانت عليك ان تختاري طريقك. أخبرتهم كيف خطيبة ابني قد تزوجت وبناتي حضروا عرسها والآن عندها ولد فالحياة مستمرة".

 

"أم ناصيف" داعمة مجتمعية جريئة وشجاعة. وعندما تحدثت عن وجود معاناة لديها ووجود أبنائها في المعتقل الإسرائيلي وهي من ساعدت نفسها ووجدت من ساعدها: "... هناك أمهات من الجمهور بدأن البكاء والحديث في نفس الوقت... وبعدها بدأت النساء بكسر حاجز الخوف والشعور بالأمان". تجربة "أم ناصيف" كانت قوية إلى حد أنها أبكت الجميع، ولكن في نفس الوقت أدرك الجميع أن القوة هو الحق بالكلام "وكان هناك ارتياح واضح وكلام كثير خرج من داخل النساء رغم الحزن اللي كان مخفي والعصبية من خلال حركات الأيدي وتعابير الوجوه". في حين لم تصبر"أم العبد" فعبرت أمام الجميع عن تجربتها: "ابني مصاب في قدمه بعيار دمدم، وإحنا ما زلنا بنعاني حتى اليوم، وهو الله يعينه على اللي صار معه بس شو بدنا نقول هدا وطنا الغالي والعدو غدار. أبوه قاعد في الدار ممنوع يشتغل ونفسيته تعبانه، وأنا صابرة ومتحملة علشان الحياة تستمر وأولادي ما يضيعوه بكفي واحد منهم". وكان لا بد لــ "أم نادر" الا أن تتعاطف معها فقالت لها: "الله يصبرك ويعينك.. إحنا شاعرين معك وقلوبنا معك بس أنت إنسانه قوية ومؤمنة وهدا قدر الله ومكتوب علينا". لن تنسى "أم ناصيف" الداعمة رد فعلها فتواصلت "بالنظرات والمشاعر" مع "أم العبد" ووقفت إلى جانبها عندما انهمرت الدموع من عينيها، ووضعت يدها على كتفها: "إحنا معك وحاسين بوجعك الله يعينك ويصبرك والحياة يا أم العبد بدها تستمر مثل ما قلتي وشباب فلسطين هم أبطال وضحوا مثل ابنك محمد ومثل احمد ابني اللي موجود في المعتقل اليوم هو وأخوه مفيش غيرهم عندي في الدار وأعطت "أم احمد" محارم لــ "أم العبد" وقالت أم العبد: يا ريت اجيتو من زمان إحنا بحاجتكم".

 

التعبير عن الكلمات هو ليس أدبا أو قصة خيالية وإنما هو تعبير واقعي لفاقدة داعمة التي جاءت لتدعم فاقدات منسيات. "أم ثائر" تحدثت بحرقة وألم وبكت لما حصل مع ابنها الصغير الذي سجنه الاحتلال وعمره 14 عاما. أظهرت قوتها في التعبير: "ما بتنام الليل (والدموع بعينيها وخوفها عشنو صغير ومن حركة يديها وعينيها كانت مشاعرها واضحة) وله 7 شهور بسجن ولو مت وإلا صار هيك مع ابني". توجهت الداعمة القديمة لــ "ام ثائر" وحطت أيدها على كتفها، وقالت: "هاي حال أطفال فلسطين وإحنا معك يا أم ثائر وحاسين بوجعك". والداعمة توجهت للمشاركات وقالت: "شاركونا الحديث شو رأيكم بكلام أم ثائر؟" إحدى المشاركات قالت: "إحنا كلنا في هاي الركب علينا إنا نصبر ونتحمل مثل أم ثائر صامدة". فـ "أم ثائر" كسائر الفاقدات تحتاج إلى التغذية الراجعة المستندة على تعاطف وعلى نظرة واقعية تأخذ بالحسبان كل التناقضات والثنائيات، المألوف وغير المألوف. فمحنتها فردية نابعة من محنة فلذة كبدها كما تتصورها هي وتشارك مثيلاتها في تجربتها وبالتالي تحولها لمحنة جمعية وهذا ما يؤكده المشاركون خلال عملية الدعم.

 

"عايدة" إحدى نساء الشهداء "لما بتزعل من أولادها أو دار عمها بتهدد أولادها بتركهم". عرضت عايدة هذه التجربة في لقاء مجتمعي. كان لا بد من توفير تفكير صحيح ومشجع لها وكان اتجاه التفكير: "أن هذا من السلوكيات الخاطئة وغير السليمة يقوم بها الفاقدون" ووضحت الداعمة أن ذلك يترك تأثيرا سيئا على نفسية الأطفال وتركهم دائماً في قلق وخوف. وهنا قالت لهن: "الآن أود أن أخبركن ببعض الخطوات اللازمة لدعم الفاقدين لنساعدهم على تخطي وتجاوز بعض ما يعانون من آثار الفقدان. وكان أول الخطوات هو الاستماع لهم والإصغاء الجيد لهم، وعلينا تقبل أفكارهم ومشاعرهم وأن نشجعهم على الحديث عن الفقيد، وخاصة باقي أفراد الأسرة ليتشاركوا بالتعبير عن مشاعرهم. وعلينا أن نشجع وندرب الكبار على الصلاة والتأمل والتسبيح وان نساعدهم بالبحث عن مصادر الدعم كالمؤسسات والجمعيات ونساعدهم على مزاولة أعمالهم اليومية وان نذهب معهم للأماكن المحببة للفقيد".

 

هذه الكلمات هي لفاقدة داعمة الواقعة في "الخطوط الخلفية" لكن حقيقة إنها لامرأة لم تعد مسجونة في أدوارها التقليدية بل هي راضية بتحمل تبعات الصراعات بعيدا عن الأضواء.

 

وفي أحيان يعاني الرجل ايضا. قصة "ابو شوقي" الذي رواها، في لقاء تم في إحدى القرى، أمام مجموعة من الرجال والنساء: "أب مصاب من سنة، ووضعه صعب ما يشتغل عايش على معاش الجريح". قال: يا أم سرحان (داعمة) بدي احكيلك حتى اليوم عندي ولدين وثلاث بنات لما تصاوبت عند المستوطنة ولادي صاروا يصرخوا، والصغير فيهم حتى اليوم كلامو مش تمام يوكل نص الكلمة. أمه دايما بتقول خذوه على الدكتور. اخدته على عده دكاترة ومفش فايده فالولد مفش عنده شيء بس خوف من اللي صار معي. الداعمة: يا أبو شوقي وأنت إنسان شوفت كثير في الحياة والله يعينك وشاعرين معك وحاسين فيك بلا أهون من بلا وربنا قدير على كل شي. "أم نادر" داعمة جديدة: أبو شوقي كانت عيونه مليانه دموع والجميع حس معه في المجموعة المشاركة، وقالت الأمهات ربنا يصبرك ويعينك أنت وأمه والحياة بدها صبر وهدا حال شعبنا يا أبو شوقي".

 

 قد يتبادر للذهن أن الرجل لا يبكي نتيجة الفقدان. يعكس هذا المثال وأمثلة أخرى أن الفاقد يعاني من إصابته كما تعاني الفاقدة. من هنا جاء الدعم المجتمعي ليضع بديلا للتفكير المألوف فهذا الشاب الجامعي يتألم ويعبر عن ضائقته أمام خمسين امرأة ورجل، وهناك رجل اخر يجلس بجانب "أبي شوقي" ووعيناه منهمرتان بالدموع في حين حاول التعبير عن ألمه وحزنه أمام الجميع.

في لقاء جماعي توجه الداعمة سؤالا للفاقدات: هل تتوقعوا لو نحن أحضرنا مجموعة رجال لهم شهداء أو أسرى، هل ممكن يعبروا مثل النساء؟ الافتراض القائم هو أن الأب يشعر ولكن بشكل مختلف باستشهاد ابنه أو أسره. لم تكن إجابة واحدة وهذا أمر طبيعي. فاقدة واحدة أكدت أن الأزواج هم يعانون مثل الزوجات "ولازم نكسر الحاجز". كان جواب "أم حسني" حكيما فقالت: "انا بطريقتي الخاصة بخلي زوجي يحكي كل شي". فاقدة أخرى تؤكد أن البكاء هو عنوان للنساء ولكن في أحيان يبكي الرجل أيضا "انا اخوي بالسجن لو شو ما يسمع ما ببكي لما توفت أمي ظليت احكي معه حتى سمعت صوت بكائه العالي من داخل السجن". هذا هو الاتجاه المسيطر لدى النساء الفاقدات وهذا اتجاه نابع من تجاربهن وفق تصوراتهن فالمرأة حين تبكي تبكي على بكائها، لكن الرجل صعب عليه أن يبكي، ولكنه يبكي في آخر المطاف. وبطبيعة الحال لم تتفق الفاقدات على رأي واحد ففي لقاء ومجموعة أخرى اتفقت "أم عماد" و"أم رائف" على رأي واحد فهما تشعران أن زوجاهما يقفان إلى جانبهما ويواسيانهما ويبادلانهما مشاعر الحزن ويساندانهما في كل محنة. وفي لقاء آخر أكدت الفاقدات أن افتراض أن الأب لا يشعر باستشهاد ابنه أو أسره "هذا غير صحيح فربما يكون أكثر ألما من الأم ولكن معظم الرجال يخفون مشاعرهم وهذا ما تعلموه منذ الصغر".

 

وهذا الاتجاه قد يكون مختلف في موقف آخر. ففي أحد لقاءات الدعم الجماعي كان سؤال الداعمة دقيقا لمعرفة مدى تأثير الفقدان على الرجل بقولها: "كيف يشعر زوجك على سجن ابنكم هل يتأثر هو مثلك من سجن سعيد؟ هل تتأثري أنت أكثر أم هو؟". فقالت ام سعيد: والله انا اكثر اشعر بفراق ابني ودائما انادي عليه في البيت، ودائما اشعر بضيق في صدري اكثر من زوجي احيانا، واشعر ان زوجي يشاركني في قلقي على سعيد. واسأل زوجي هل انت دائما تفكر في سعيد مثلي ام لا؟ فيقول مثله مثل باقي الشباب ليس وحده في السجن معظم الشباب هكذا في السجن". "أبو سعيد" دائما عصبي في البيت ولا يتحمل تصرفات أفراد أسرته وفي أحيان ليست بقليلة يضرب الأولاد ويشعر أنه "حر مثل ما بدي بعمل. انا ابو الدار ولا احد يسألني"، كما تروي ذلك ام سعيد. تجربة "أم سعيد" هي تجربة منتشرة. لكن يبدو أن الفقدان هو ليس ملك على النساء بل على الأطفال والرجال فالرجال يتألمون ولا يظهرون ذلك أو يتألمون ويعبرون عن الألم بأشكال أخرى مثل العصبية والصياح والسيطرة.

إن إسماع أصوات الفاقدات قصدا من منطلق أن استرجاع الذاكرة المنسية والهوية الضائعة هي ضرورية لعمليات الدعم النفسي والاجتماعي. إن توثيق تجارب النساء تعكس إدراكهن الخاص لمصادر الفقدان ألا وهو الاحتلال، وتعكس قوة النساء على تحدي ذلك من خلال الإصرار على التغيير وعلى بناء مكانة ثقافية اجتماعية جديدة يساندها فيها الرجال والأبناء وبعيدا عن الطقوس والمعتقدات غير المنطقية والموروثة المرتبطة بالفقدان، وبسببها تبقى الفاقدات أسيرة لفقدانها. فصوت أم محمد وصوت أم سرحان وصوت أم رائف وأم عايد وأخرى تعكس أصواتا تعيد إنتاج معرفة نسويّة تطالب بوضع المرأة وصوتها ومقاومتها في مركز الحوار حول الفقدان والممنوع الاجتماعي في ظل الاحتلال المزمن.

 

المراجع:

 

(1) فريري، ف. (2002). نظرات في تربية المعذبين في الأرض. ترجمة مازن الحسيني. رام الله، فلسطين: دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع، بالتعاون مع المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية.

(2) حسنين، س. (2010). المرأة الفلسطينية، الاحتلال والفقدان الجمعي- تجربة من فاقدة إلى فاقدة من منظر الدعم الشمولي. القدس: مركز الدراسات النسوية.

(3) رضوان ، ج. (2006). الآثار النفسية للخبرات الصادمة. مجلة شبكة العلوم النفسية العربية، العدد 12، المجلد الثالث: 14-19.

(4)  شعث، ن. و ثابت، ع. (2007). الصدمات النفسية للاحتلال وأثرها على الحزن وكرب ما بعد الصدمة. مجلة شبكة العلوم النفسية العربية، العدد 13: 24-37.

(5) أبودقة، س. (2009). الآثار النفسية الاجتماعية التي خلفتها الحرب على المرأة بغزة وخطة مقترحة للتدخل. غزة: كلية التربية، الجامعة الإسلامية.

(6) عبد الهادي، ف. (2007). لو املك الخيار. رام الله: مركز للإرشاد القانوني والاجتماعي.

(7) تعامرة، م. وحسنين، س. (2010). فردنية زوجات شهداء انتفاضة الأقصى في منطقة بيت لحم. القدس: برنامج العمل الاجتماعي، الدراسات العليا، جامعة القدس (غير منشورة).

(8) عواد، ن. (2006). قصة الأمهات الـ 12 اللاتي قتل أبناؤهنّ بالرصاص في أكتوبر 2000. رسالة ماجاستير غير منشورة. قسم الدراسات متعددة المجالات، وحدة الدراسات الجندرية- جامعة بار ايلان.

(9) Klaric, M., Klaric, B., Stevanovic, A., Grkovic, J. & Jonovska, S. (2007). Psychological consequences of war trauma and postwar social stressors in women in Bosnia and Herzegovina. Croat Med J.: 167-176.

* د. سهيل حسنين أستاذ مشارك في مجال الخدمة الاجتماعية وعلم الإجرام. من سكان بلدة عبلين. متخصص في مجالات محددة: البحوث التقييمية، سياسة السيطرة الاجتماعية، المشكلات الاجتماعية (وخاصة العنف والمخدرات)، والخدمة الاجتماعية الراديكالية. أصدر مجموعة من الكتب والأبحاث، منها: الانتفاضة الفلسطينية الأولى من منظور علم الإجرام، المخدرات والسياسة 1948-1990، عدالة الأحداث في الضفة الغربية وقطاع غزة وصدر مؤخرا (2010) الكتاب: المرأة الفلسطينية، الاحتلال، الفقدان الجمعي والدعم الشمولي. 

التعليقات