تحت ظلال أشجار النخيل، تجلس حميدة المنايعة (63 عامًا)، ومن حولها ولداها محمد (38 عامًا) وسلمان (30 عاما)، منهمكين في تجهيز العديد من الأطباق والأواني المصنوعة من سعف النخيل، في مهنةٍ يُطلق عليها "الخوّاص".

وتعتبر مهنة "الخوّاص" واحدة من المِهن التراثية القديمة، التي ارتبطت بالفلاحين تحديدا، وتقوم على جمع أوراق النخيل التي تُجدل مع بعضها البعض، بطريقة تضيق أو تتّسع حسب نوعية المنتج، وتقوم بها النساء غالبًا ويتم تناقلها بالوراثة، حيث تحرص الأم على تلقين ابنتها أصول الحرفة، وفي بعض المجتمعات، يتشارك الرجال في التعلّم والعمل.

ويكاد يقتصر بيع هذه المنتجات حاليًا على السياح، أو من خلال المعارض التراثية أو بغرض الزينة، حيث لم يعد السكان يستخدمونها، خاصّة وأنّ ثمنها مرتفع، كونها "صناعة يدوية" تحتاج لجهد كبير.

وتقطن عائلة المنايعة، في إحدى الأحياء الريفية في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، المشتهرة بكثرة أشجار النخيل، التي يتم جلب "السعف" منها.

كما تعتمد مهنة الخواص كذلك على نبات "الحلفاء"، الذي ينبت بجانب الترع أو قنوات تصريف المياه.

وتشجع العائلة أفرادها على تعلم هذه المهنة، عن طريق توفير الأغراض المطلوبة للعمل، من الطبيعة المحيطة بهم، أو داخل منزلهم، الذي تتواجد به العديد من أشجار النخيل.

"العملية مرهقة للغاية والسوق ضعيف" (الأناضول)

وتُمسك المنايعة الوالدة بيدها إبرة الخياطة، والتي تسمى "المسلّة"، التي تعتبر أداةً رئيسيةً في عملها، وبها مجموعة من نبات "الحلفاء" ذات اللون الأخضر، وتقوم بطيّها بيدها مع سيقان سعف النخيل، لتصنع منها طبقًا دائريًا، بشكلٍ مُحكم ومُتقن، فيما يعكف ولداها محمد وسلمان على تجهيز أطباق أخرى مماثلة.

وتقول حميدة إنّ تعلم هذه المهنة ليس سهلا، فهي تحتاج إلى جهدٍ بدني وذهني، وتوضح أنها ورثتها من والدتها قبل أكثر من عقدين.

كما تذكر أن الأسرة، كانت تمارس هذه المهنة في بلدتها الأصلية، روبين، قضاء مدينة يافا، والتي هُجرت منها عام 1948.

وتبيّن الحاجة المنايعة، أن "صحتها لم تعُد تساعدها للعمل طويلاً بهذه المهنة، فلجأت إلى تعليمها لأبنائها، الذين أصبحوا يجيدونها بمهارة"، وتشير إلى أنها تبدأ العمل، برفقة أبنائها، من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية عشر ظهرًا.

وتلفت المنايعة إلى أن أواني القش (سعف النخيل) تعتبر "جزءًا أساسيا من التراث الفلسطيني، ومظهرًا حضاريًا قليل ممن باتوا يحافظون عليه"، وتضيف "كانت تستخدم قديمًا لدى أسرتها وعموم الأسر الفلسطينية، في وضع الخبز أو العجين عليها، وتقديم الطعام، والفواكه والحلوى بها، وتزيين جدران المنازل".

وتكمل المنايعة "قليلون اليوم يعرفون قيمة تلك الأواني، سواء كانت أطباق، سلال، مزهريات، أباريق؛ كون أدوات أخرى حديثة حلت مكانها، في ظل ارتفاع ثمن تلك المشغولات اليدوية، باهظة التكلفة، ولا تجد سوقًا لها، في ظل أيضًا الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون".

أما محمد المنايعة، فيجلس بجوار والدته، مشغولا بتجهيز طبق بقطر 40 سم من أصل طبقين لأحد الزبائن، ويقول "تعلّمت المهنة من والدتي، وأصبحت أجيدها بطلاقة مع أخي سلمان، كونها جزءًا من تراثنا، ومع مرور السنوات تطورت لتصبح مصدر رزق رئيسيا في بعض الأحيان، عندما يكون هناك طلب مرتفع".

ويبيّن المنايعة أن طريقة الصناعة تتم عبر جمع سعف النخيل اللين، ونبات الحلفاء ووضعه حتى يجف في الشمس ثلاثة أيام، ومن ثمّ وضع السعف على شكل حزم صغيرة في وعاء ماء ساخن.

وبعد إخراجه من الوعاء، يوضع على قطعة قماشية حتى تجف بعض الشيء، ثم تتم المباشرة باستخدامه على الفور لصناعة الأواني والأدوات.

ويتفق محمد مع والدته في أن المهنة شاقة، وتحتاج لتركيز عالي وجهد كبير، ويؤكد أن العائلة تعاني كثيرا في تسويق المنتجات.

ويضيف "نستغل مشاركتنا في معارض تراثية ومناسبات وطنية لتسويق المنتجات، الظروف الصعبة جعلت الكثيرين غير قادرين على الشراء، ثمن كثير من المشغولات يتراوح ما بين 40 إلى 200 شيكل"، ويستدرك "كثير من المشغولات لاقت استحسان الناس، لكنها لم تجد طريقًا للبيع لارتفاع الثمن؛ فيما نحن نقع بين مطرقة الواقع وسندان سعرها والجهد العالي الذي تحتاجه".

اقرأ/ي أيضًا | التسوّل في غزّة.. مهنة البطالة والحاجة والفقر

ويختم حديثه بالقول "رغم أن ما يتم دفعه لنا، لا يوازي الجهد والتكلفة، لكننا نواصل العمل، ونسعى لتطويره، حيث نستعد لتطبيق مجسم مُصلى قبة الصخرة (بالمسجد الأقصى) وخريطة فلسطين من السعف".