الظروف التي تعيشها البلدات العربية بما فيها مدينة الطيبة عشية الذكرى الـ39 ليوم الأرض، هي  ذاتها تقريبا عشية آذار العام 1976 حين اندلعت المواجهات الأولى في الجليل دفاعا عن أرض المل في البطوف. مصادرة للأراضي وهدم للمنازل وحصار سكاني وفقر وغيرها.

الشخصية الوطنية شاكر جبارة (أبو عمار) من مدينة الطيبة، كان شاهداعلى أحداث ذلك اليوم المشهود من آذار 1976. رأى بأم عينيه كيف  سقط رأفت حسين علي الزهيري شهيدا على أرض الطيبة، مبينا أن سلسلة أحداث تراكمية شكلت بذلك اليوم منعطفا سياسيا ثوريا، حيث اشتركت بصنع يوم الأرض كافة الجماهير الفلسطينية في الداخل.

 كانت اللجان القروية مجتمعة على الإضراب

وقال شاكر جبارة لـ”عرب 48” إن وزير الداخلية وضع في حينه يده على أراضي في منطقة البطوف، ليمنحها لليهود، فتشكلت في كل قرية لجنة  قروية شعبية محلية، تكون مسؤولة عن تطبيق قرارات لجنة الدفاع عن الأراضي، وقبل يوم الأرض كان هناك اجتماعا  في شفاعمرو لرؤساء السلطات المحلية العربية، وذلك لبحث إمكانية  إعلان الإضراب احتجاجا على سياسة مصادرة الأراضي التي ازدادت بتلك الفترة، وكان اجماعا بين اللجان بالإعلان عن الإضراب في القرى بغض النظر عن القرار الذي سيصدر في اجتماع اليوم التالي.

كغيره من الأهالي والشبان تابع جبارة التطورات وما سيصدر عن اللجان القروية ولجنة الرؤساء علما أن الحكومة الإسرائيلية في حينه سعت لتنجيد القيادات المحلية من رؤساء مجالس مقربين للسلطة من أجل التصويت ضد الإضراب.

الطيبة كانت على أهبة الاستعداد لإنجاح الإضراب وشهدت فعاليات ونشاطات تحضيرية، وقال جبارة: “جرى إلصاق الأوراق التحذيرية إن كل دكان سيفتتح أبوابه سيحرق، ونادينا على الناس للاستجابة للإضراب، وتم تجهيز العدة للمظاهرة، وبالطبع كان هناك شبان قاموا بصنع المولوتوف وغيره، وكنا نتوقع أن يكون في اليوم التالي -في يوم الأرض الأول-  أحداث  دامية ومواجهات،   الناس كانت مع الإضراب واستجابت للقرار، ولم يخالف أي أحد من الطيبة  ولم يخرج أي مواطن عن الإجماع الوطني، حيث أغلقت المدارس والمحلات التجارية أبوابها".

وروى جبارة ما جرى من أحداث في يوم الأرض وقال: "كان ذلك يوم اثنين، نحن تجمعنا في البلدة القديمة -بالقرب من مكتبة البيدر اليوم- لنبدأ بالمظاهرة، فتفاجأنا باقتحام دوريات حرس الحدود للبلدة، وحاول أفراد الشرطة والجنود تفريقنا، لكنهم لم ينجحوا، ورمتنا بالغاز المسيل للدموع والعيارات المطاطية، ورددنا عليهم بالحجارة”.

وتسارعت الأحداث حتى وصلت لاشتباكات  ومواجهات ضارية ما بين الشبان وقوات حرس الحدود، ولجأ بعض الشبان هربا من الرصاص الحي إلى  محطة سيارات الأجرة والبعض تحصن  داخل البيوت القريبة من ساحة العمري، ولكن الشهيد رأفت الزهيري كان يصر دائما على رجم مركبات حرس الحدود  بالزجاجات الحارقة.

كان رأفت الزهيري بحسب ما أكده  متمرسا جدا في المواجهات، على ما يبدو لأنه كان يشارك كثيرا في المواجهات التي تقع في مخيم اللاجئين نور شمس والتي اكتسب من خلالها الخبرة في مراوغة الجنود، حيث كان متلثما بلثمة حمراء لئلا يعرفه الجنود، وأصاب اثنان منهم، وكان يلقيهم بالزجاجات الحارقة أيضا، وكان يطل من عدة مناطق و خلفه العشرات من الشبان، الذين يرشقون حرس الحدود بالحجارة ومن ثم يختبئون ليتزودوا بالمزيد من الحجارة مرة أخرى، ومن ثم يعاودوا الظهور ثانية وهكذا دواليب، حتى قام أحد جنود حرس الحدود، بعد أن ادرك أن صاحب اللثام الأحمر هو القائد بتصويب البندقية نحو رأفت واستهدفه برصاصات قاتلة.

وتابع جبارة أنه "في ذلك اليوم الحافل أصيب المئات من أهالي الطيبة، وتم اعتقال المئات منهم أيضا، وكانت إصابات كثيرة في صفوف أفراد الشرطة الذين انسحبوا عقب المواجهة الضارية، إلا أنهم نسيوا ثلاثة من الجنود تم أسرهم على أيدي شبان من عائلة حاج يحيى، حيث سحبوهم ونجحوا باحتجازهم  في أحد البيوت، ولكن كانت يهودية متزوجة بطيباوي، ورأتهم، وبلغت الشرطة عن مكان المختطفين، ففاتت الشرطة إلى المكان بقوات كبيرة وبرفقة طائرات وقوات مدججة بالسلاح ونجحت بتخليص الجنود”.

كثير هي القصص البطولية التي كانت طي الكتمان لسنوات وأمتنع من عايشها سردها والحديث عنها تجنبا من الشرطة وخوفا من انتقام المؤسسة الإسرائيلية وأذرعتها الأمنية، ويقول جبارة إن "جميع أهل الطيبة صنعوا هذا اليوم، رجالا، نساء، وشيوخا. من لم يشارك بهذا اليوم كانوا قلة نُظر إليهم نظرة غريبة. كانت المظاهرة مشهد يظهر أهل الطيبة كأنهم كتلة بشرية واحدة، ولم يتكرر هذا المشهد بالطيبة، إلا بالمظاهرة الاحتجاجية  ضد مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان".

يجب إعادة علاقة أهل الطيبة مع عائلة الشهيد رأفت  

 لم تتوقف الطيبة عن الاحتجاج وفي اليوم التالي، تقاطرت الوفود إلى مخيم نور شمس للمشاركة في جنازة الشهيد رأفت، وروى جبارة إنه "كان لوفد الطيبة الذي ترأسه رئيس المجلس آنذاك عبد أبو عيطة هيبته وحضوره في الجنازة والمخيم مثلما وفد الداخل الفلسطيني الذي كان على رأسه القيادي توفيق زياد وشخصيات وطنية. دامت علاقتنا مع المخيم وعائلة الشهيد لسنوات طويلة لكن مؤخرا انقطعت وأهيب بأهل الطيبة العودة للتواصل مع عائلة الشهيد في مخيم نور شمس".

إحياء ذكرى يوم الأرض في الطيبة مثل سائر البلدات تحول إلى “ثرات” والجيل الناشئ والطلاب لا يعرفون خلفية يوم الأرض وما جرى في آذار ذاك العام. 

ويرى جبارة أنه “يتوجب علينا إعادة إحياء الذكرى بشكل لائق مثلما كان في سنوات الثمانينيات. أذكر أنه تم إصدار كتاب اسمه الكتاب الأسود، وكان المربي شريف عبد القادر (دعسان) يجبر طلابه على شرائه بالمرحلة الثانوية، وكان هذا الكتاب يدرس قبل يوم الأرض في المدرسة الثانوية بالطيبة”.

 الجيل الجديد واع وحساس للقضايا الوطنية

ويعتقد جبارة أن الجيل الجديد أيضا جيل واع، ولا يعرف الخوف، وهو حساس جدا للقضايا الوطنية، فهو لا يفرط بحقوقه، ورأيناه كيف يناضل  لإفشال مخطط "برافر" وينتصر من أجل الأسرى، ويخرج عن صمته تضامنا مع الشعب الفلسطيني وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ولا يبدي جبارة خوفه على جيل المستقبل في مواصلة النضال خاصة وأن ظروف وأجواء وأسباب يوم الأرض الأول ما زالت قائمة.