جريح يوم الأرض محمد سالم من دير حنا كان في الثانية والعشرين من العمر عندما أصيب بجرح بالغ في ليل المواجهات في الثلاثين من آذار عام 1976 أو 'يوم العزة والكبرياء' كما يسميه.

أصيب برصاص الدمدم المتفجر في كتفه اليمنى، وأصيب بإعاقة بالغة عانى منها الويلات. ولا زال يذكر الحدث بحذافيره، اقتحام الجيش لبلدته كعملية احتلال أخرى بعد العام 1948. ويؤكد أن البلدة انتفضت بشبابها ونسائها وشيوخها بعد كسر حاجز الخوف ونسف آاثار الحكم العسكري لإذلال العرب الفلسطينيين ممن بقوا في وطنهم، ليسطروا صفحة مجيدة في تاريخ عرب الداخل.

يوم أشبه بيوم القيامة..

جلس محدثنا رزينا متزنا، وبدا عليه رضى الدور والضمير، واستعرض بداية الشرارة التي انطلقت من بلدته دير حنا، فتحدث عن إصابته وجرحه باعتزاز وقال: 'أصبت في ليل 29 آذار عام 1976 في الجهة الغربية للبلدة، وكانت تلك الليلة شبيهة بيوم القيامة، وأهل البلد موحدون في الدفاع عن بلدهم وأرضهم، وليس كعائلات وطوائف وأطراف بل كان الهدف هو الدفاع عن أرضنا كواجب، عندما علمنا أن أرض المل منطقة، رقم 9، من الجهة الشمالية للبلدة تم الإعلان عن مصادرتها وإحكام الخناق على البلدة. وفي ليل 29 بعد أن كان يسمع الشباب من خلال اللجان عن قضية المصادرة وإعلان الإضراب، بدأ الجيش يتمركز على مدخل البلدة الشرقي، وعلمنا أيضا أن قوات مدججة تتمركز على مدخل 'مسغاف 'غرب سخنين، وتستعد لاقتحام البلدات الثلاث سخنين وعرابة ودير حنا'.
وأضاف: 'شاع بين الناس، وفي نفس الليلة أيضا، نبأ بالبلدة أن مجموعة جنود تتمركز في المدخل الشرقي. وصلنا إلى المكان، وكنا نحو 20 شابا، إلا أن الجنود طلبوا منا أن نتفرق ونترك المكان، بيد أن حمية الشباب تزايدت، ورفضوا الانصياع خشية اقتحام البلدة، خاصة وأن تعزيزات عسكرية أخرى انضمت للمجموعة. وتيقنا أنهم يبيتون للبلدة شيئا كبيرا'.

ويتابع أنه عندما بدأ الجنود بإطلاق النار، بدأ يتوافد إلى المكان أعداد أكبر من الشباب، وأخذوا يتقدمون باتجاه الجنود، وهم يرشقونهم بالحجارة دفاعا عن بلدهم ولمنعهم من اقتحامها.

وبعد أن اخذوا بإطلاق الرصاص بدأ يتوافد اعداد كبيرة من الشباب وبدلا من تراجع الشباب اخذوا يتقدموا نحو الجنود ورجمهم بالحجارة دفاعا عن بلدهم، ولمنعهم من اقتحامها. وبعد اندلاع المواجهات وسماع الرصاص بدأ أهالي البلدة يهرعون للمكان.

الانسحاب إلى داخل البلدة واحتجاز جندي

وتابع سالم أنه 'بعد أن انتشر النبأ وصلت تعزيزات للجيش تقدر بعشرات السيارات والمصفحات، وانتشر الجنود بكثافة لقمعنا. ومع اشتداد المعركة غير المتكافئة اضطر الشباب إلى التراجع باتجاه مركز البلد، الأمر الذي مكنهم من المناورة والاستحكام في الزقاقات وخلف الجدران والمنازل، ومقاومة الجنود بكل ما طالت أيديهم.

يقول سالم: 'أشهد أن المقاومة كانت باسلة مما أربك الجنود داخل الزقاقات. وأذكر أن جنديا داخل ساحة إحدى المنازل فوجد نفسه محاصرا من جميع الجهات مما اضطره إلى الاستسلام رافعا يديه، وتم أسره بعد نزع سلاحه، إلا أن بعض الوجهاء تدخلوا وطلبوا عدم إيذائه، كما حذروا من إقدام الجيش على قتل عدد من الشباب بسبب كونه محاصرا.

مفاوضات لإطلاق الجندي المحتجز

يؤكد سالم أن مفاوضات تمت بين وجهاء من البلدة وبين قيادة الجيش، طالب خلالها الوجهاء بإخراج الجنود من البلدة مقابل إطلاق سراح الجندي. وهكذا تم. ولكنهم أخلوا بالاتفاق لاحقا بعد انسحاب الجيش في نفس الليلة.

ويضيف أنه بعد أن سمع شباب عرابة وسخنين بأن دير حنا احتلت، وأن هناك جرحى وشهداء، ثارت ثائرة الشباب في البلدتين، وحاول شباب عرابة الوصول إلى دير حنا لنجدتها. وفي نفس الوقت انتشر في دير حنا خبر استشهاد الشهيد خير ياسين من عرابة، الأمر الذي جعل المواجهات تستمر حتى ساعات فجر اليوم التالي.

 ويتابع سالم أن 'المصفحات والدبابات أطلت علينا مجددا من المدخل الشرقي للبلدة في محاولة لكسر إرادتنا والانتقام، وأخذوا يعلنون عبر مكبرات الصوت عن حظر التجول، وأن من يكسر القرار سيعاقب. وبدأ الجنود بمداهمة المنازل، وشن حملة اعتقالات واسعة بعد أن أعدوا مركز اعتقال غرب البلدة، كان عبارة حظيرة مواشي'.

ويذكر أن 'السيدة علياء دوخي، أم طالب، حاولت الدفاع عن ابنها طالب، ومنع اعتقاله إلا أن الجيش اعتدى عليها بالضرب، وعندها هب الشباب لنجدتها، وأخذوا بمهاجمة الجنود بكل ما طالت يداهم من الحجارة والزجاجات وغيرها. وبدت المواجهة شرسة وعارمة حيث انتفضت البلد عن بكرة أبيها. أذكر تماما أنه أمام وحدة ومقاومة أهالي البلدة اضطر الجيش للتراجع حتى الخروج من البلدة غربا، وهناك، عند مقر القيادة كما نستنتج، تلقوا أوامر بالانتقام فبدأوا بإطلاق النار بشكل عشوائي وكثيف باتجاه كل ما يتحرك، حيث أصبت هناك إصابة بالغة برصاص متفجر، وأصيب أيضا قرابة 28 شابا'.

نايف حجو أصيب وهو يحاول إنقاذي

ويستطرد سالم ويؤكد: 'بعد إصابتي البالغة التي تركت حفرة عميقة في كتفي الأيمن وتسببت بنزيف شديد. وحاول بعض الشباب إسعافي، وكان بينهم المسعف نايف حجو، فخلع عني البلوزو وأدخلها إلى الحفرة النازفة ليوقف النزيف، ثم حملني إلى بيت عادل خطيب حيث تجمعنا هناك خمسة جرحى تحت المنزل، قبل أن يضعونا في الصندوق الخلفي لمركبة تجارية، من طراز بيجو، لنقلنا إلى المستشفى، إلا أن الجيش أمطرنا بالرصاص، لكن لم يصب أحد منا. وحاول الشباب إنزالنا من السيارة تحاشيا للرصاص، وعندما كان يحملني نايف حجو بين يديه أصيب برصاصة في ساقه. بعد ذلك توافد الأهالي إلى لمكان، وتم نقلنا بشاحنة للجهة الشرقية من البلدة، ومن هناك إلى مستشفى العفولة بشاحنة فؤاد حسين مع الجريحين يوسف دغش وجمال خطيب حيث مكثت هناك 38 يوما، بعدها طردت من المستشفى قبل أن أشفى لأنهم طالبونا بدفع الرسوم، رغم أن الجرح العميق كان لا يزال مفتوحا، وبعد أن رفض أخي بتر يدي. ولم أتمكن من مواصلة العلاج في أي مستشفى آخر في البلاد، حيث رفض مستشفى نهارية استقبالي، ولاحقا رفض مستشفى تل هشومير أيضا. في النهاية تبنت لجنة الدفاع عن الأرض علاجي في مستشفى رعنانا، ومكثت شهرين هناك. وبسبب الوضع المالي الصعب للجنة حاولت استكمال العلاج على حسابي الشخصي إلا أنه تم تسريحي بسبب التكاليف، ومكثت بالبيت مدة شهرين.

وفد روسي يتبنى علاجي في موسكو

وتابع سالم: 'في تلك الفترة وصل وفد سوفييتي إلى قرى يوم الأرض متضامنا، وعرض على الوفد قضية تبني علاجي. وبعد ترجمة التقارير الطبية خرجت للعلاج بتاريخ 28/01/1977، ومكثت في موسكو مدة 9 شهور، حيث تم إجراء عملية زرع أعصاب. ورغم أن بعض العلاجات كان متأخر مما أبقى إعاقة مستديمة، إلا أن يدي بقيت، مع العلم أنه في مستشفى العفولة قالوا لي إنه ليس أمامي سوى بتر اليد.

 وحول التعويضات والاعتراف بالإصابة من قبل الدولة، قال لم يتم الاعتراف بها بل تمت إدانتنا بادعاء أننا نحن من اعتدى على الجيش. وبعد أن أدانتنا المحكمة المركزية بدفع مصاريف المحكمة وبعد أن استأنفنا للمحكمة العليا، اكتشفنا أن العدل مفقود، حيث ثبتت الأخيرة قرار المركزية.

وخلص سالم إلى القول إن التعويض هو الحفاظ على المعنى من إنجازات هذا اليوم العظيمة، وتكريم من يستحق التكريم لأن هذا اليوم هو الأهم والأبلغ في حياة عرب ال48.