ليوم الأرض أهميته الخاصّة، فهو المحطّة الأولى التي تنظّم فيه الفلسطينيون في الداخل على أساس قومي وتصرفوا كشعب كسر حاجز الخوف، وسطّروا فيه للمرة الأولى نضالهم الجمعيّ المنظّم الأول ضد سياسات الدولة الإسرائيلية، وسياسات سلب الأراضي ومصادرتها، فما قبل يوم الأرض يختلف عما بعده على صعيد علاقة المواطنين مع الدولة، وعلاقتهم مع ذاتهم وحضارتهم وهويتهم وحتّى قياداتهم المحليّة والقطرية.

ويرى محمد عبري نصّار، الذي كان نائباً لرئيس مجلس عرّابة خلال أحداث يوم الأرض، وأصبح رئيساً للمجلس المحلي بعدها حتى سنوات الـ90، في حديثه لـ'عرب 48' أن 'الحكومة الإسرائيلية أعلنت نهاية العام 1975 نيتها مصادرة 21 ألف دونم، وقامت بإغلاق منطقة 9 التي كانت تسمّى منطقة المل، وتضم أراضي لفلاحين من القرى الثلاث، عرابة سخنين ودير حنّا'.

وقال إن 'الحكومة الإسرائيلية أغلقت المنطقة بذريعة الحفاظ على أرواح المواطنين، إلّا أن تجربة المواطنين مع الحكومة الإسرائيلية قبل يوم الأرض جعلتهم لا يصدّقون هذا الكلام. ففي وقت سابق قامت الحكومة بإغلاق مناطق وبعدها مصادرتها لصالح مستوطنة كرميئيل، ممّا كشف للفلّاح البسيط سياسة الدولة القائمة على إغلاق الأرض ومن ثم مصادرتها'.

ولم يكن قرار إغلاق منطقة 'المل'، هو القرار الوحيد الذي حذا بالسكّان للانتفاض على قرارات مصادرة الأراضي، فقال نصّار إن 'الحكومة الإسرائيلية اتبّعت جملة من السياسات لمصادرة الأراضي، فكانت تصادر الأرض الصخرية، وأرض الحرش، وأرض البور بالإضافة إلى قانون الحاضر غائب أي قانون مصادرة أراضي الفلاحين الذين هجّروا من قراهم وبقوا في الداخل'.

وتابع أن 'جملة السياسات هذه ضاقت بالفلسطينيين، إذ أصبح تعداد السكّان في العام 1976 ما يقارب 500 ألف، يملكون 500 ألف دونم. بالإضافة إلى سياسات هدم البيوت التي طالت فلسطين كلها'.

وعن القيادات التي كانت في حينه، قال نصّار إن 'أعضاء الكنيست العرب بمعظمهم في حينه كانوا عبارة عن ممثّلين للسلطة، وليس ممثّلين للسكّان، والمجالس المحليّة في غالبيتها كانت معينة من قبل الحكومة، فشعر الناس والفلّاحون خصوصاً بأنهم وحيدون وأراضيهم تسلب، وهم في الواقع كانوا ممنوعين من دخولها بحجّة المناورات والتدريبات العسكرية. لذلك، انتظرت الجماهير أي بصيص أمل ليتعلّقوا ويعلّقوا عليه آمالهم بالحفاظ على ما تبقى من أراضيهم بالإضافة إلى سياسة العدمية القومية تجاه المواطنين العرب، والتي عبّر عنها مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية، شموئيل طوليدانو بالقول إن على العرب أن يبقوا حطّابين وسقاة ماء'.

تحرّكت القوى الوطنية في أعقاب إعلان الحكومة عن مخطّطها، فاجتمع شخصيات وطنية عدّة ومثقفون من القوى الوطنية، وتحرّكوا بهدف بحث سبل التصدّي لمصادرة الأراضي، وعقدوا اجتماعهم الأول بتاريخ 21 أيار في مدينة حيفا الذي خرج بقرار اجتماع تشاوري بتاريخ 29 تمّوز دعوا إليه رؤساء سلطات محلّية خرجوا منه بقرار إنشاء لجنة 'مبادرة للدفاع عن الأراضي'.

وفضلاً عن قرار إقامة لجنة المبادرة للدفاع عن الأراضي، دعت القوى المجتمعة بتاريخ 29 تموز لاجتماع تشاوري آخر بتاريخ 15 آب، في مدينة الناصرة ترأسه الناشط في حركة الأرض أنيس كردوش الذي انبثق عنه 'لجنة الدفاع عن الأراضي'، وضمت بداخلها 121 عضواً والعديد من رؤساء السلطات المحلية، بالإضافة إلى قرار إنشاء لجان محليّة. وفي هذا السياق، قال نصّار إن 'هذه اللجنة كبرت بصورة سريعة لتعطّش الناس لمن يمثّلهم ويحمي حقوقهم لا السلطة القامعة، فالتفوا حولها ودعموها الدعم الشعبي اللازم'.

وأضاف نصّار أن 'رد الفعل الشعبي كان تجاوباً مطلقاً مع أي خطوة تقرّها اللجنة الشعبية للدفاع عن الأراضي، فالأجواء كانت مشحونة والأراضي مغلقة أمام الفلّاحين، وكانت هذه اللجنة هي الغصن الوحيد الذي علّق عليه الأهالي آمالهم'. ومن الجدير ذكره أن لجنة الدفاع عن الأراضي منذ إقامتها بادرت إلى العديد من النشاطات التوعوية والمهرجانات التعبوية على صعيد محليّ وعلى الصعيد القطري، ممّا ساعدها على كسب ثقة الجماهير العربية التي كانت تخوض أول معركة جمعية بعد مرور 10 سنوات من الحكم العسكري.

بتاريخ 6 آذار (مارس)، دعت اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي لاجتماع تشاوري في الناصرة بعد فشل كافة الوسائل لمنع مصادرة الأراضي في منطقة 'المل'، وقال نصّار إن 'تأسيس جبهة الناصرة الديمقراطية في العام 1975 وخوضها الانتخابات المحليّة أوصل توفيق زيّاد لرئاسة البلدية في الناصرة، وكان لهذا أثر كبير على قرار الإضراب الذي اتخذ في ذات الاجتماع الذي عقدته اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي، فكان القرار من الاجتماع إمّا فتح منطقة 9 وإلغاء خطة مصادرتها وإمّا إعلان الإضراب العام'.

وجاء في البيان الصادر عن الاجتماع أن اللجنة الشعبية للدفاع عن الأراضي تدعو الجماهير العربية ومؤسساتها وفئاتها إلى إعلان الإضراب بتاريخ 30 آذار، وتحويل ذلك اليوم إلى 'يوم الأرض' ترفع فيه الجماهير العربية صوتها مطالبة بوضع حد للسياسة الرسمية التي أصبحت تهدّد مستقبل الجماهير العربية في هذه البلاد.

بدأت السلطات الإسرائيلية باستعمال كافة الأساليب لضرب الإضراب الذي دعت إليه لجنة الدفاع عن الأراضي، وفي المقابل دعت اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية جميع رؤساء السلطات المحلية العربية إلى عقد اجتماع في يوم 25 آذار في بلدية شفاعمرو لمناقشة قرار الإضراب أو قبول عرض طوليدانو في حينه باجتماع بين رؤساء السلطات المحلية ورئيس الحكومة. وبالموازاة مع هذا العرض وإعلان الاجتماع في شفاعمرو بدأت السلطات بالاجتماع مع كل رئيس مجلس على انفراد لإقناعه بالعدول والتصويت ضد الإضراب، وباستعمال الترهيب والتخويف والاجتماعات الفردية لضرب قرار الإضراب.

وقال نصّار في هذا السياق، إن 'الاجتماع الذي حصل بتاريخ 25 آذار كان اجتماعاً مصيرياً، ونجحت سياسات الترهيب إذ صوّت مع الإضراب 11 رئيس مجلس محلي وعارضه 31 رئيس بلدية ممّا أدّى إلى صدام بين مؤيدي الإضراب ومعارضيه داخل القاعة واحتدم النقاش حتّى قال زيّاد كلمته المشهورة في حينه: 'الشعب قرّر الإضراب'.

وعن الأجواء في ذات اليوم، قال نصّار إن 'هذا اليوم كان فعلاً يوماً مفصلياً، فاعتقل مئات الشبّان في خارج القاعة بعد أن اشتبكوا مع قوّات الشرطة وحاولوا الهجوم على رافضي الإضراب. وفي المقابل أحرقت سيّارات بعض الرؤساء وبيوتهم، وهوجموا أثناء عودتهم لمدنهم وقراهم بسبب رفضهم للإضراب. وهذا إن دل فيدل على الحالة الشعبية التي طغت على الشارع، فالجماهير ضاقت ذرعاً من ممارسات السلطة، ومن أعوانها المعيّنين ولم يعد لديها ما تخسره'.

وقال نصّار، 'بتاريخ 29 آذار (مارس)، دخلت القوّات الإسرائيلية القرى والمدن العربية، وكان هذا تمركزها الأول برفقة الجيش في القرى والمدن العربية، بينما كان الاحتقان الذي تراكم طيلة 28 عاما على وشك الانفجار في أجواء مشحونة وهدوء ملغوم. سمّيناها أول انتفاضة وكانت أكثر الجمل تداولاً (لا شغل ولا أرض، شو بدنا نخسر)'. وأضاف أن 'الاحتكاك الأول كان في قرية دير حنّا'.

وهذا ما يؤكده أيضاً محمود علي القاسم، الذي كان شاهداً على الأحداث وعايشها، إذ قال لـ'عرب 48'، إن 'مجموعة من الشبّان كانت تقف في ساحة مركز القرية، دخلت سيارة جيش في المرة الأولى لاستفزازهم، إلّا أنها فشلت بذلك بسبب وعي الجماهير والشباب بأن الخطوة هي احتجاجية سلمية'.

وأضاف القاسم أن 'سيارة الجيش ذاتها عادت مرة أخرى، وحاولت دهس أحد الشباب ممّا حدا بالبقية لرشقها بالحجارة فباشر الجيش بطلب النجدة، وإطلاق الرصاص الحي على شبابيك البيوت السكنية ممّا أشعل الاحتكاك. وصلت الأخبار إلى عرّابة من خلال الشباب، فخرج الشباب في عرّابة واندلعت المواجهات'.

استذكر القاسم الشهيد ابن قرية عرّابة، خير ياسين، وقال إن 'خير ياسين خرج من بيته يركض باتجاه إطلاق النار، فلحقت به حتى دوّار المدخل الرئيسي لقرية عرّابة، وهناك استطعت الإمساك به فقال: (كنت ألعب بأوراق شدّة لمّا سمعت صوت الرصاص. مين أحسن، نضل نلعب شدّة؟).

وتابع: 'عاد ياسين والتقى مجموعة من الشبّان الذين عادوا إلى منطقة الاشتباك، وفي قطعة أرض فارغة على الجانب الشرقي كان الشباب متجمّعين خلف جدار إسمنتي عندما أصابته الرصاصة فاستشهد'.

وفي عودة إلى رواية نائب رئيس البلدية، محمد عبري نصّار، قال إن 'قوّات الشرطة الإسرائيلية اعتقلت النائب الثاني لرئيس مجلس محلي عرّابة، وعلى إثر الاعتقال خرجت برفقة رئيس المجلس إلى مركز الشرطة في مسغاف للمطالبة بالإفراج عن النائب الثاني فضل نعامنة، فكان شرطهم للإفراج عن نعامنة تهدئة الأمور وإلّا سيأمر كينغ الجيش باحتلال عرّابة كلّها'.

وأضاف: 'وافقنا على شرطهم، وفي طريق عودتنا لم نستطع الوصول إلى عرّابة في السيارة بسبب إغلاق شباب سخنين للشارع بالإطارات والحجارة فسرنا على الأقدام حتى عرّابة'.

بدوره يؤكد القاسم أنه وبرفقة مجموعة من الشباب استطاعوا نصب كمين للجيش بين بيتين وانهالوا عليه بالحجارة، وقال إن 'الحل الوحيد كان خروجنا نحو أحد البيوت وإغلاق الباب علينا، فلحقنا الجنود وسمعناهم عبر الإتصال يتلقّون أمراً بتفجير الباب وقتلنا جميعاً بسبب إصابة زملائهم في الكمين'.

وأضاف 'تحصّننا في البيت جعلنا محاصرين، وبعد دقائق سمعنا رئيس المجلس برفقة نصّار يقول للجنود أنه اتفق مع القيادة على إخراجهم سالمين مقابل إخلاء القرية، وفعلاً هذا ما حصل إذ عاد الجنود عن عتبة المنزل الذي تحصّنا فيه برفقة رئيس المجلس'.

خرجت قوّات الجيش من عرّابة بعد أن قتلت ياسين، وأصيب الكثيرون أيضاً. وقال نصّار إن 'قوّات الجيش اعتقلت 7 نساء، فقال رئيس المجلس حينها، لن أخرجكم وبرفقتم نساء قريتنا، فأفرجوا عنهم في وسط البلد'.

ما بعد يوم الأرض

تطرّق نصّار، الذي غدا رئيساً لمجلس محلي عرّابة بعد أحداث يوم الأرض، لما حصل ذاك اليوم الدامي، وقال إن 'الحياة بعد يوم الأرض أصبحت تختلف اختلافاً كلياً عما كانت قبله، فرؤساء المجالس المحلية سقطوا جميعاً بعد يوم الأرض، فهم كانوا حماة السلطة لا الجماهير، وسقط معهم كافة أعضاء الكنيست الموالين للسلطة في الانتخابات التي تلت يوم الأرض'.

وأضاف: 'أصبح إيمان الجماهير بذاتها أقوى، وأصبحت تعتز بهذا اليوم الذي كسرت فيه حاجز الخوف من السلطة والحاكم الظالم، كان شعوراً بالانفراج والقوة والعزّة فأصبحت المعنويات فوق كل الحدود، وانتهت سياسة الأرض العسكرية بعدها بسنوات'.

وتابع أن 'الصوت الوطني بعد يوم الأرض أصبح هو الصوت المسموع والشرعي، فتم تأسيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، ولجنة المتابعة العليا للجماهير العربي، بالإضافة إلى اللجنة القطرية للطلاب الجامعيين ممّا يدل على التغيير في المكانة السياسية للفلسطينيين على إثر إنجازهم السياسي في يوم الأرض'.

أمّا السلطة، فقال نصّار إنها 'استوعبت أن سياساتها لن تستمر على هذه الشاكلة ونحن لا نقول إنها توقفت، ولكنها بدّلت الطرق ووضعت إستراتيجيات جديدة'.