تأخذنا طريق ترابية مؤدية إلى مدخل قرية السرة، مسلوبة الاعتراف، في منطقة النقب، يتوسطها مسجد تسكن جنباته السكينة، غير آبهة بضوضاء الطائرات المحلقة في الأجواء، والتي تقلع من مطار 'نيفاتيم' العسكري المقام على أراضي القرية التي صودرت عام 1980 في أعقاب اتفاقية 'كامب ديفيد'، وجرى بموجب الاتفاقية نقل المنشآت العسكرية الإسرائيلية من سيناء ومنها المطار الجوي إلى النقب.

يقيم أهالي القرية البالغ عددهم قرابة 400 نسمة على أرض آبائهم وأجدادهم منذ عشرات السنين. وقد اعترفت سلطات الانتداب البريطاني بملكية أهل القرية لأراضيهم، لكن طلبهم تسجيل أراضيهم وفقا لقانون تسجيل الأراضي الإسرائيلي لا زال عالقًا منذ السبعينات.

مصادرة من أجل 'السلام'

يسبقني عضو اللجنة المحلية في السرة، خليل العمور، بابتسامته التي نادرا ما تفارق مُحيّاه، قائلا لـ'عرب 48' إنهم 'صادروا أرضنا من أجل السلام'، ابتسامة تشي بألم لم تخفيه تجاعيد وجهه ووجنتيه البارزتين، ثم ما يلبث أن يتمتم بصمت وسخرية 'سلام الشجعان... سلام الشجعان'.
أكثر من خمسة آلاف إنسان هُجروا كأنهم حجارة على لوح شطرنج، وتم مصادرة ما يقارب الثمانين ألف دونم، لفسح المجال أمام المطار!! وكأن الدنيا ضاقت عليهم بما رحبت إلا أن يجدوا هذا الموقع بالذات لإقامة المطار بدلا من إيجاد منطقة مواتية خالية من السكان في النقب الذي تربو مساحته على 12 مليون دونم.

يذكرنا هذا الأسلوب غير البريء بنهج مؤسسات التخطيط والحكومات المتعاقبة في إقامة المنشآت الحيوية ومعسكرات الجيش ومكبات النفايات الكيماوية والغابات ومحطات توليد الكهرباء وغيرها فوق الأراضي الفلسطينية في الداخل. وحتى ما يسمى بـ'البلدات العربية في النقب' تم إقامتها على أراض عربية فيما صادرت إسرائيل باقي الأراضي وصنفتها على أنها أملاك غائبين، وهكذا تم مصادرة أكثر من ثمانين ألف دونم من أراضي قرية السرة والبحيرة وتل الملح وباط الصرايعة لتصبح مطارا للطائرات المغيرة والناقلة للجند والعتاد على أنواعها.

خليل العمور

ويحتفظ خليل العمور بذكريات تضفى على عينيه المتوقدة لمعة وشوق، ويقول 'يمّن علينا الجيش مرة واحدة كل سنة بدخول المنطقة العسكرية، وذلك لتنظيف المقبرة الواقعة في تخوم المطار، ويحدث أن يتصل أحد الأصدقاء ويسألني إذا كنت أود مرافقتهم لتنظيف المقبرة، طبعا لم أتردد كثيرا وجمعت المعدات اللازمة وأسرعت إلى المكان المحدد'. في الطريق إلى مدخل القاعدة العسكرية سرحت لوهلة أرقب كيف باتت قريتي ثكنة عسكرية محصنة تلتف حولها الأسلاك الشائكة وتراقبها عيون ومنطاد جوي ورادارات متطورة، لم أعتد أبدا على هذا الوصف. بعد برهة من الزمن، وبعد أن أوشكنا على الإنهاء لمحت مدرستي الابتدائية عن بعد، فأسرعت إلى حيث البوابة وإذا بالجندي المكلف بمراقبتنا يصرخ عن بعد 'ارجع ارجع'. لم يتوان خليل كثيرا فصرخ 'هذه مدرستي أريد أن أرى صفي، أتركني، فما كان من الجندي إلا أن تركه وكأنه تفاجأ من هذا الطفل يخرج من جوف البالغ ليرى صفه.

شموخ وإصرار

يغلب على الحديث عن القرى 'مسلوبة الاعتراف' الصور النمطية السائدة التي يصورها البعض على أنها 'مغلوب على أمرها' إلا أن أهلها يصرون على رسم صورة مغايرة تتحدى الصعوبات، بشموخ وإصرار، قل نظيره.

أحد أوجه التنكيل بأهالي القرى غير المعترف بها هو عدم ظهورها على الخرائط، ولكن هيهات أن يستسلم أهالي السرة في هذا الزمن الرقمي. توجهوا إلى شركة 'غوغل' التي تعتمد مجموعة من المعايير والمواصفات لكي يتم إدراج قريتهم على الخارطة ونجحوا في ذلك. ويردد خليل العمور بكل فخر 'نحن على الخارطة وسنبقى على الخارطة' يقولها بنبرة من الفخر والاعتزاز. كما استطاع بمثابرة وعناد بإدراج قرية السرة على تطبيق 'وييز' للهواتف الذكية متحديا المحاولات لإخفاء السرة.

خالد النصاصرة

وقد حاولت إسرائيل ترحيل أهالي القرية مرارا وكان آخرها عام 2006 حين تلقى أهالي القرية إخطارات بالهدم، واستطاع الأهالي بعد نضال شعبي وبمساعدة مؤسسات حقوقية إلغاء هذا القرار عام 2014 إلا أن مستقبل القرية، وفقا للمخططات الحكومية، ما زال يكتنفه الضباب.  

نجح الأهالي بخلق حالة من الاكتفاء الذاتي من خلال اعتمادهم على الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء بعدما منعت عنهم إسرائيل الكهرباء، يلحظ المسافر على امتداد القرى غير المعترف بها تناثر الألواح الشمسية في كل مكان لتشي بهذا السر.

تستحضر إسرائيل في خطابها عن العرب الفلسطينيين عامة والبدو منهم خاصة، أنهم يهنأون برغد العيش وتدعي تهجيرهم وتركيزهم من باب تطويرهم وإدخالهم عتبات القرن الواحد والعشرين، ويتضح في دراسة مقارنة نشرها الأستاذ سليمان أبو ستة، أن مستوى التعليم عند أبناء النقب الذي تحولوا إلى لاجئين في قطاع غزة والأردن يفوق مستوى أبناء النقب، وفي هذا تفنيد لكل المزاعم والأقاويل حول التطوير والتمدن.

معسكر صمود الثاني في السرة

بمبادرة من اتحاد الشباب الوطني (شبيبة التجمع الوطني الديمقراطي) وبالتعاون مع اللجنة المحلية سيقام معسكر صمود الثاني في قرية السرة بتاريخ 02.04.2016، ويقول ابن السرة والناشط في اتحاد الشباب، خالد النصاصرة، لـ'عرب 48' إن 'إقامة المعسكر في السرة هي رسالة مهمة تعزز صمود أهلنا وخاصة الشباب منهم، والعمل على إقامة نادي للشباب يشكل استجابة لاحتياجات قطاع واسع ومهمش'.

ويعتزم القائمون على المعسكر إقامة مركز شبابي وتجهيزه وبناء ملعب كرة قدم ورياضة في مسعى لتعزيز صمود القرية.

جمعة الزبارقة

وتحدث عضو المكتب السياسي للتجمع، جمعة الزبارقة، عن أهمية إقامة المعسكر في قرية السرة بالتزامن مع إحياء ذكرى يوم الأرض الخالد.

قال لـ'عرب 48' إنه 'يجب علينا إعادة التفكير في إستراتيجية النضال وتعميم نموذج الصمود بدلا من استجداء الاعتراف فحسب'.

وأضاف أن 'صمود السرة هو مفتاح الاعتراف، وعلينا دعم وإسناد الناس أولا'.

اقرأ/ي أيضًا | أربعينيّة يوم الأرض | ملف خاص