كانت السماء رمادية إلى حد السواد، توحي أن كارثة ستحل هُنا، في هذه القرية. كانت الغيوم السوداء تُهيمن على المنظر العام، وكان الطقس بارداً. كُنا  في ذلك اليوم، ندرس ما يُسمى اليوم الدراسي الطويل، من الـ8 صباحا حتى الـ 4 عصرا.

كُنت أنا، عبد الله نمر بدير، ورفاقي من الصف، في الحادية عشرة من عمري في ذلك اليوم، حيث حصلت المجزرة في لحظاتها الأولى أمام عينيّ. وإلى هذا اليوم تُلازمني المشاهد المروعة في حلول الذكرى منذ ستين عاما.

 

في الساعة الرابعة من ذلك اليوم المشؤوم، وعند خروجنا من المدرسة، وإذ بجيبين عسكريين يخترقان صفوف الطلاب، دخولا إلى القرية. نظر إلينا أحد الجنود ومرّر يده على رقبته، في إشارة إلى أنه يُريد أن يذبحنا. وصلتُ البيت، وقصصت على والديّ ما صنعه الجندي، وللأسف لم يُصدقاني. في هذه الأثناء تماما، سمعنا صوتا يُنادي من داخل جيبٍ عسكري: 'من الخامسة مساءا سوف يُفرض حظر التجول، ومن يخالف الأمر عليه أن يتحمل المسؤولية'.

جاء والدي وعمي أبو موسى رحمه الله، وطلبا مني أن أسرع إلى طرف القرية، لأبلّغ أبناء عمي الذين يعملون في الزراعة، وعند وصولي، أبلغتهم بالأمر، كان معهم سيارة، وطلبوا مني أن أعود حالاً إلى البيت مشيًا على الأقدام، فقد كانت السيارة مليئة بالركاب، وهم مُرهقون من العمل فلا يمكنهم المشي بسرعة في حين كنت أنا في مقتبل عمري.

عندما وصلت المكان الذي أقيم فيه النصب التذكاري لاحقا، والذي لا يبعد سوى بضعة أمتار من بيتنا، وجدت ثلاثة من عناصر حرس الحدود، يحملون سلاحهم بأيديهم، رشاشا كبيرا و'عوزي' قصيرا، وكان حامل الرشاش منبطحا أرضًا، وكأنه يتجهز لحربٍ ما. وعندما اقتربت منهم، خِفت أن أجتازهم، ارتجفت قدماي خوفًا، وكانت السماء سوداء، توحي أن حدثًا كارثيا سوف يُقترف، وكانت المنطقة خالية من الناس. لم أتجرأ على إكمال الطريق وحدي، انتظرت العُمال العائدين كي أدخل معهم القرية.

الله أكبر عليكم يا مجرمين

بعد أن وصل العُمال، حيث كانوا يستقلون دراجات هوائية، طلب الجنود منهم أن يُبرزوا بطاقاتهم الشخصية. ركن العُمال دراجاتهم إلى جانب شجرة الصبار، ليتمكنوا من اخراج بطاقاتهم، وما أن فعلوا ذلك حتى تراجع الجنديان إلى الوراء، وصرخ أحدهم بالعبرية 'احصدهم'، بصوت عالٍ، فبدأت زخات الرصاص تنطلق باتجاه أجساد العُمال، حتى تعلق أحدهم بشجرة الصِبار من قوة الرصاص وكثافته، وتفتتت أجسادهم إلى أشلاء، وعندها أصابني الرعب من هول المشهد، لم أصدق ما حصل. لا أعلم كيفت وصلت إلى البيت بعد هذا المشهد.

فتح والداي الباب، وسألاني عن سبب خوفي بهذه الحدة، فأجبت بصوت خافت يملأه الخوف 'قتلوهم.. قتلوهم'، ورغم شدة البرد في حينها، إلا أنني كُنت أتصبب عرقاً من الخوف.

في هذه الأثناء بدأنا نسمع أصوات صُراخٍ لنساء وأطفال عن بُعد امتارٍ من بيتنا، يُرددون 'الله أكبر عليكم يا مجرمين'.

مشهدٌ لا يُنسى

أرسل أحد الآباء ابنه ليقتني له علبة سجائر، وإذا بالجنود يُطلقون الرصاص عليه، ويردونه شهيداً. وعندما خرج والده ليستطلع الأمر، أطلقوا عليه النار. ثم خرجت الأم لترى ما حصل، فأطلقوا عليها النار أيضا، وخرجت البنت لترى ما حصل لوالدتها وأبيها وأخيها، فأطلقوا عليها النار. وكانت حصيلة هذا المشهد أربعة جرحى وطفل شهيد. وعندما خرج الجد ليرى ما حصل للعائلة، ذُهل من المشهد، فرجع إلى البيت من الصدمة، ونام على سريره ولم يستيقظ.

لم ينته هذا المشهد الدموي إلا في الساعة التاسعة مساء. وكنا نسمع استجداء الناس، وخاصة البنات، كن يصرخن 'لا تقتلوني ارحمونا'.

إحياء الذكرى والاعتقال

لم تكن الجماهير العربية ولا أهالي كفر قاسم يحيون ذكرى المجزرة لعدة سنوات بعد ارتكابها، إلى حين عقدنا العزم على إحيائها، وصرنا نجوب القرية وأزقتها، وننادي الأهالي للانضمام إلى المسيرة. وفي سنة 1963، كعادتنا اجتمعنا من أجل الترتيب لإحياء الذكرى، لكننا وللأسف، لم نر أثناء المسيرة أيا من القيادات. وفي مقبرة الشهداء، حين لم ألق أي أحد، ألقيت الخطبة الارتجالية الأولى لي في حياتي، وكانت كلمة من القلب إلى القلب، جاء فيها أن هناك من يعمل على إخفاء هذه الذكرى وطمسها. وقررنا أن نجتمع من أجل تشكيل لجنة تعمل على إحياء ذكرى المجزرة.

على إثر ذلك اعتقلني أفراد الشرطة، وكبلوا يديّ وقدميّ، وأجلسوني على أرضية الجيب، ووضع أحد الجنود قدمه على رأسي، وحينها غضبت جدا. وبدأوا يضربونني ويشتمونني. وتبين لي أنهم لم يعتقلوني للتحقيق معي، وإنما لترهيبي. وجاء ضابط آخر ليلعب دور الرجل الطيب، ببدأ يوجه لي النصائح لأكفُّ عن إحياء ذكرى المجزرة وهذه 'الأهازيج'، بحسب وصف الضابط.

اللقاء مع الضابط شدمي

في سنة 1986، ذهبنا إلى مبنى الإذاعة، للحديث عن المجزرة. لم أكن أعلم أنني سوف أتحدث أمام الضابط شدمي. قدمتني المذيعة إليه وإذا به يمد يده لمصافحتي، رفضت ذلك وقلت له إنني لن أصافح هذه اليد الملطخة بدماء إخوتنا وأخواتنا، وقلت له أنت مجرم.

حاول بدوره إقناعي بأنه لم يعط أمراً بالقتل، وصار يبرر فعلته، حينها، اكتشفت ما يُسمى 'الصندوق الأسود'، وهو أن شدمي أخذ الملف على عاتقه، وهو يعلم أن هناك مخطط يهدف إلى تهجير المثلث من كفر قاسم حتى باقة الغربية، وكان من المقرر ان تحصل مجزرة في كل بلدٍ مثل هذه المجزرة.

بقي هذا السر في خزائن المخابرات الإسرائيلية إلى اليوم، لكن لا بُد أن يخرج يوما ما إلى النور. وأنا أرجح، بدرجة عالية، أن من أعطى الأمر بتنفيذ المجزرة هو دافيد بن غوريون وموشي دايان. ودليل ذلك أن الضابط شدمي بعد المحاكمة الهزيلة بدقائق، كان في مكتب ديفيد بن غوريون يحتفل، وكل شيء كان مُتفقا عليه.

هذه الذكرى سوف تبقى، ما دام هناك حياة في كفر قاسم، ولن نسامح ولن نغفر حتى تخرج الحقيقة، وسوف يبقى هذا الدم وصمة عار على دولة الاحتلال.

الإجرام المنظم صُنع المخابرات

أريد أن أختم ما رَويت، بهذه الكلمات التي توصف ما نعيشه من بؤسٍ في هذا المُجتمع. المثل العربي يقول 'اللي ملوش كبير يدور له على كبير'، وللأسف في الفترة ما بعد المجزرة، كان من النادر أن نسمع أن شابا قد تشاجر مع شاب وقتله أو أصابه، على امرٍ تافه، مثلما نسمع اليوم. كانت روح الوحدة قائمة، حتى نهاية سنوات ال80، بدأت الأوضاع تتفاقم وتزداد سوءا ومرارة مع مرور كل يوم. اليوم إذا أردت أن تحل مشكلة، فعليك بعالم الإجرام، العالم السُفلي الذي يعمل تحت رقابة الشرطة والمخابرات طبعًا. والناس المحترمة، التي ضَحت عشرات السنين من عمرها من أجل استقرار وتثقيف وتربية المجتمع، أصبحت تندثر شيئا فشيئاً، ويُقمع صوتها، الفترة القديمة قد ولَّت، وها نحن في عهدٍ جديد. عهد السلاح والبلطجة، والقتل والتهديد والوعيد، يريدوننا أن نقتل بعضنا البعض، وهم في أسرَّتهم نائمون. وكل هذا مُخطط له مُسبق، لا يحدث شيء عشوائي هُنا، فهناك من لا ينام كي يُخطط لتفقيرنا وقتلنا وتطهيرنا من هذه البلاد. أين جرأة الشعب ليقف وقفة واحدة من أجل إنهاء هذه الظاهرة العقيمة التي تقض مضاجعنا في كل يوم. أصبح القاتل لا يدري لماذا يَقتُل والمقتول لماذا قُتِل. نحن في وضع لا يُحسد عليه، إذا ما استمر الوضع سوف تتطور الأمور. ليس هذا ما تَمناه الشُهداء.. فيا حبذا أن نتُم الوصية.

اقرأ/ي أيضًا | كفر قاسم: ستون عاماً على المجزرة.. ماذا تغير؟