كان اللقاءُ الأخير في مسيرة العودة بعد أن مضى 68 على النكبة، وها نحنُ نعود مرّة ثانية لإحياء مسيرة العودة العشرين، بعد 69 عامًا على النكبة، ويشعُر اللاجئون في وطنهم أنّ النكبة ومستمرة، وأنّ الماضي والحاضر لا يُنسي الفلسطينيين درب عودتهم.

مسيرة العودة ستقام على أراضي قرية الكابري المهجرة، بعد غد الثلاثاء الموافق الثاني من أيار/ مايو، لم يبقَ في قرية الكابري التي تميزت بينابيعها العذبة وخضارها الجميل إلا بعض الآثار والأطلال بعد أن هُجّر أهلُ المكان إلى لبنان. 

ولعل كثير من الناس لم يعد يذكر تفاصيل كثيرة حول التشريد والنكبة التي شتتت أهلنا وشعبنا، بعد أن نجحت الحركة الصهيونية بتطويق الفلسطينيين وتهجيرهم من وطنهم، فقد هُجّر معظم الفلسطينيين إلى خارج وطنهم، بينما بقيت قلّة قليلة في الوطن.

وقال ابنُ قرية النهر المهجرة، حسين علي مباركي، لـ'عرب 48'، إن 'الحسرة تلازمني وأتوق للماضي الجميل الذي عشته وعائلتي في أرضنا بقرية النهر، حتى هُجّرنا بسبب الحاجة للعيش، فانتقلت العائلة إلى أبو سنان، وتمّ استقبال اللاجئين في أبو سنان بترحابٍ واحتضان'.

لا تختفي المشاهد المؤلمة والقاسية من أمام حسين مباركي وكأنّ فيلمًا تصويريًا يُعرض أمامه دون أن لا يتوقف، وتستمر المشاهد الموجعة، كلما انطلقت مسيرة العودة، وكلما ذكر أي شيء له علاقة بمسقط رأسه، قرية النهر، ولم تنتهِ المشاهد في زمن الانتداب البريطاني، فيحاوِل مباركي رغما عنه استعادة الذكريات المؤلمة، لكنه مضطرٌ أن يتماسك ليبدو قويًا، خاصةً أنه يُلم بالسياسات الراهنة، ويعرف من تجربته الشخصية أنّ انتزاع الحق لا يكون بالصمت والسكوت، بل إنّ هناك حاجة ضرورية لقراءة الماضي والحاضِر، كي لا نقع في الخطأ الكارثي الذي جرى مع أهلنا.

كان حسين مباركي (مواليد العام 1930)، طفلا بين عائلته، في قرية النهر، التي أحبها أكثر مِن أيِ شيءٍ آخر، واسم القرية يعود إلى وجود نبعين عميقين، النبع الأول سُمي بركة الفوارة (شرقي القرية)، أما النبع الثاني فقد حمل اسم المفشوخ، علمًا أنّ النهر قرية عربية تبعد نحو 14 كم، شمال شرق عكا على طريق عكا ترشيحا.

ويستعيد مباركي ذكرياتٍ قاسية لمسها عن قرب، إذ فتكت العصابات الصهيونية بالفلسطينيين، وأقسى المشاهد كانت في زمن الانتداب البريطاني، بدعمٍ وسيطرة من اليهود منذ العام 1917.

وأضاف مباركي أن 'الانتداب البريطاني كان قد بدأ في حينه ببناء البنى التحتيّة لإقامة دولة إسرائيل، بعد ثلاثين عامًا. ما جرى ليس صدفة أنّ جميع الدوائر الحكومية، بينها دائرة الزراعة ودائرة الأشغال والشوارع وشركة الكهرباء، والأهم من هذا دائرة الطابو، فاليهود والبريطانيون يعرفون الأرض والبيوت، ويعرفون مساحة فلسطين والأرض الجيّدة، الأرض التي يمكن أن تُنتج، هكذا وضعوا أعينهم على شمال فلسطين، وقاموا بشراء 'شيفزيون' من العائلات اللبنانية، 'ريجـبا'، نهريا، أيلون، حانيتا، متسوفا، وبالتأكيد في منطقة الجليل الأعلى. هكذا وضعوا عيونهم على منطقة الشمال، على أساس أن تكون هناك أكثر أراضٍ وأقل عربًا، وبدأوا بالاستفزازات تجاه الفلسطينيين، وفي أحد الأيام كان الوقت قد تجاوز العصر بقليل، مرّت مركبة في ذاك اليوم، كان بستان العائلة على الشارع الرئيسي الذي يربط ترشيحا بطريق نهريا- عكا، رأينا فوق الكابري أن ألسنة النار أحرقت الشاحنة، أنزلوا الركاب وسرقوا سيارة الشحن، والحقيقة أنّ هؤلاء الركّاب كانوا متجهين نحو عكا وحيفا. بعد يومين من هذا الحادث، كانت حافلة ترشيحا في طريقها نحو عكا، انتظر الركاب الحافلة في مكان قريب من الكابري، وفجأة أطلقت النيران على الركّاب وقُتل كثيرون داخل الحافلة'.

وتابع مباركي أنّ 'الأمر كان على ما يبدو تحضيرًا للآتي، وفي طريق عودة الفلسطينيين من بساتينهم، تمّ إنزال تسعة شبان عرب من أهل الزين، قام اليهود بإعدامهم بجانب 'إيفرون' على الشارع الرئيسي، وفي تلك الأثناء كان أحد البيوت في الكابري ملكا لشخص يدعى فارس سرحان وكان معروفًا بحل المشاكل بين المواطنين العرب، وبعد أسبوع رحل سرحان إلى لبنان، ولاحقًا قام أهالي الكابري بترحيل أبنائهم ونسائهم إلى لبنان، وبقيت قلّة قليلة، أرادت الانتظار لمعرفة ماذا سيجري. في تلك الفترة وصلت قوّة أردنية، من قوات الحدود الأردنية، وهؤلاء كانوا تحت إمرة بريطانيا، ومعهم ضابط إنجليزي يقود سيارة جيب موصولة باللاسلكي، وصلوا إلى بيت سرحان وكان خاليا من أهل المكان، البيت حديث البناء وهو واسعٌ، والمكان مرصوفٌ بالحجر اليابس، كما هي بيوت الكابري قبل النكبة. حين وصلت القوة الأردنية مع ضابط إنجليزي، دخلوا القرى الفلسطينية، وكان الفلسطينيون بسطاء، فاعتقدوا أنّ الأردنيين سيحررونهم من اليهود، بينما اصطف الجنود الأردنيون عند الشارع الرئيسي، قرب معسكر الجيش في نهريا، وخرجت من المعسكر سيارة جيب ومعها جنود الجيش الذي جاء من الأردن خصيصًا، بينما قوّات الحدود مهمتها حماية الضباط. توجه أحد الضباط برسالة إلى سكان قرية النهر قال فيها: ستحلّق طائرة فوق المنطقة، ويُمنع بتاتًا إحداث أي مضايقات، أثناء قيام الطائرة بالتصوير، وفعلاً حلقت الطائرة فوق القرى الفلسطينية، النهر، الكابري، جدين، وقرىً أخرى قريبة'.

وأشار مباركي إلى أنّ 'التخطيط الأردني الإنجليزي ساهم بتحقيق هدف اليهود والإنجليز معًا، أثناء ذلك احتلت المنطقة الشمالية، بينما بعض الفلسطينيين المسلحين داخل شاحنة، يراقب سائقها بحذر من وراء فتحة صغيرة، كان الركاب قد تسلحوا والمركبة مصفحّة استعدادًا لمواجهة اليهود، لكن من سوء حظهم كانت هذه أول سيارة شحن تمر، ويبدو أنّ السائق لم يسيطر على المركبة، فانقلبت وأغلقت الطريق على المارين من بعده، وهكذا اندلعت المعركة في الكابري، وخسر اليهود عددًا كبيرًا من عناصر عصاباتهم الصهيونية. عجز الفلسطينيون عن المواجهة فقرروا الرحيل، بينما تميّز الأردنيون المسلحون الذين وقفوا إلى جانب الفلسطينيين بقدرتهم العالية على القنص. وبعد أسبوع أرسل العرب للمخاتير رسالة جاء فيها: 'وصلنا أمرٌ بالانسحاب'، وهكذا سيطر الخوف على كثيرين من الأهالي، وفي النهاية تمّ تهجير أهالي المنطقة في غضون ساعات قليلة لينتقلوا إلى أم الفرج، النهر، التل، الغابسية والكابري. وبكى الفلسطينيون على معركة خسروها، وعلى بيوتٍ لم تعد ملكهم، وعلى وطنٍ شُرِدوا منه'.

لا تزال ذكريات الفلسطينيين وقيمة أرضهم التي خسروها موجعة ومؤلمة، خاصةً أنّ العصابات الصهيونية لم ترحم أحدا، ولم تراع حرمة الطفل والمرأة والعجوز.

شهد الفلسطينيون مجازر رهيبة في عام النكبة وما قبلها وما بعدها في طريقهم لمخيمات اللجوء، ولا يزال الحنين بالعودة إلى الوطن يشدهم ويقوي عزيمتهم وإصرارهم بأنه لا يضيع حق مهما طال الزمن.

اقرأ/ي أيضًا | أبو خالد في لِفتا... أن تزور بلدك بعد 69 عاما من التهجير القسري

اقرأ/ي أيضًا | مسيرة العودة العشرون إلى قرية الكابري

اقرأ/ي أيضًا | الأسبوع المقبل في البعنة: أسبوع أفلام النكبة الفلسطينية