رغم مرور 69 عاما على النكبة، لا تزال العائلات الفلسطينية التي هُجرّت من منازلها ووطنها تذكر المشاهد المؤلمة حين ساد الدمار والتدمير والقتل والتهجير بلداتها، ذكريات موجعة لا تُنسى.

في ذلك الحين، أقدمت العصابات الصهيونية على ارتكاب جرائم القتل وعاثت خرابا في البلدات العربية الفلسطينية بهدف إخضاعها واحتلالها، ساد الصمت والموت وسُفكت دماء الأبرياء من أصحاب البلاد، حسرات تحرق قلوب المهجرين الذين ذاقوا الأمرين في مخيمات اللجوء والشتات.

على جانب لوحة خشبية صغيرة، رُفعت على أحجار الطوب القديمة، في شارع متهالك في عمق مخيم طولكرم، وضع بعض المسليات للأطفال، لا يتعدى ثمنها شواكل معدودة، دُكان صغير متواضع في حيّ قد ساده الفقر والبؤس تجلس مسنّة ملأت التجاعيد وجهها توحي إلى حياة حافلة بالأسى والمعاناة.

تستذكر الحاجة فاطمة علي موسى 'أم وجيه' البالغة 84 عاما من عمرها بدموع الألم والاشتياق، حياة الرغد التي كانوا يعيشونها في قرية الجماسين الغربي المهجرة في قضاء يافا قبل النكبة في العام 1948.

وقالت الحاجة أم وجيه التي هُجرت من حياة الرفاه إلى رحم المعاناة، إن 'يوما ما سوف يرجع الأهالي إلى قراهم التي هجروا منها ولو بعد حين'.

وروت الحاجة فاطمة موسى لـ'عرب 48' مأساة النكبة والتهجير التي عاشتها في حين كانت القرية ومن فيها آمنين إلى أن هاجمتهم العصابات الصهيونية وعاثت فيها خرابا، 'كان عمري 15 عاما في عام النكبة، كنت متزوجة وحاملا، نعيش في قرية الجماسين قضاء يافا، قريبا من البحر، كانت الحياة في القرية جميلة جدا، كنا نزرع الفواكه والخضار ونخبز في البيت، ونأكل أطيب المأكولات. كان أهل القرية يشتغلون بالتجارة، وكانت القرية تحتوي على الكثير من التجار ذوي الأملاك، قرية عامرة بأهلها'.

وقصّت الحاجة فاطمة موسى مأساة التهجير، وقالت إنه 'في ذاك اليوم كنا آمنين في بيوتنا، فجأة جاء نبأ استشهاد امرأتين من وادي الحوارث قتلهما الجيش بإطلاق الرصاص، ومنذ نبأ استشهاد المرأتين ساد الخوف بين الناس وبدأت الأنباء تتناقل من بيت لآخر، حيث أن بطش العصابات الصهيونية كان قاسيا ودون رحمة. ثم ازداد القتل والقمع، وصار بعض الناس يشرد إلى القرى المجاورة بحثا عن مأوى آمن، ومن ثم توجهوا إلى الأراضي المفتوحة فيما هجر البعض الآخر إلى الدول العربية المجاورة.

وعن تلك الأيام الصعبة، قالت إن 'والد زوجي خاف علينا وقال إنه من الأفضل أن نخرج كما خرج أهل القرية حتى تهدأ الأوضاع وتستقر، لم نأخذ شيئًا معنا وقد تركنا كُتبنا والمصاحف، كنا على يقين أننا سوف نرجع إلى القرية يوما ما. وصلنا منطقة تسمى خربة 'المهادوة' اختبأنا فيها وكانت الأجواء في حينها ماطرة. مكثنا 5 أيام في خربة 'المهادوة' حتى جاءت العصابات الصهيونية إلى المختار وسألوه عما إذا كان يملك سلاحا وأهل القرية، رد المختار بأنه يملك سلاحا، لكنه رفض أن يريهم إياه كما طلبوا. وفي حوالي الساعة الثانية ليلا في ذات اليوم اجتاحت العصابات الصهيونية الخربة مرة أخرى، أخرجونا من بيوتنا واحدا تلو الآخر وأوقفوا النساء والرجال وكل أهالي القرية الذين احتجزوهم في ذلك الحين، وبدأوا بإطلاق النار من الرشاشات حتى سالت الدماء أمام أعيننا، اختلطت الدماء الزكية بمياه المطر، نطقت بالشهادة في تلك الأثناء لأنني لم أتوقع أن أنجو وأبقى على قيد الحياة، الجثث كانت مكدسة فوق بعضها البعض، لن أنسى هذا المشهد أبدا. اشتد المطر في تلك الأثناء، وبسبب الأحوال الجوية تركتنا العصابات الصهيونية وكأنه كما يقولون كتب لنا عمر جديد. لا زلت أتذكر جملة الضابط اليهودي وهو يصيح بجنون على أحد جنوده 'أدخل إلى البيوت' بهدف تنفيذ جرائم القتل'.

وأضافت الحاجة أم وجيه، أنه 'بعد أن هدأت العاصفة خرجنا مرة أخرى بحثا عن مأوى آمن نسكن فيه حتى وصلنا إلى مدينة طولكرم، كنا مئات من المهجرين، وضعونا في المسجد القديم وسط المدينة، ومن ثم سكنا في المخيم إلى هذا اليوم، كانت الحياة قاسية جدا فنحن لا نملك أغراضا ومالا، تركنا كل شيء في قريتنا. الكثير من الأشياء تغير منذ النكبة، الناس وحبها للوطن لم يعد كالسابق، الحياة بين الناس تغيرت والعادات والتقاليد، حتى البيوت شكلها تغير، هموم الحياة سيطرت على الناس'.

وعن قسوة العيش، قالت، 'بلغت 84 عاما ولا يوجد من يعيلني، ولولا قطعة الخشب هذه وسط الطريق لتحصيل رزقي لمُت جوعا، كل ما أتقاضاه 5 أو 6 شواكل يوميا، أولادي وأحفادي لا يجدون أماكن عمل وإن وجدوا بالكاد تكفيهم الرواتب لإعالة أسرهم. كنا نعيش أجمل حياة، كريمة، سليمة وآمنة حتى داهمنا الاحتلال. كل ما أتمناه الآن العودة إلى قريتي ومنزلي، وأتمنى الخير والسعادة للأمة العربية وشعبنا الفلسطيني'.

نبذة عن قرية الجماسين

يرجع اسم القرية نسبة إلى اشتغال أهلها ورعايتهم للجواميس. والجماسين في الأرض الواقعة قبل مصب نهر العوجا بأكثر من ثلاثة كيلو مترات، وتقع إلى الشمال من مدينة يافا، وتبعد عنها 7كم. وتنقسم قرية الجماسين إلى قسمين: الجماسين الغربي: وتبلغ مساحة أراضيها 414 دونما وقُدر عدد سكانها عام 1922 200 نسمة. وفي عام 1945 بلغ عددهم 1080 نسمة. الجماسين الشرقي: تبلغ مساحة أراضيها 358 دونما وقُدر عدد سكانها عام 1945 نحو 730 نسمة. قامت العصابات الصهيونية المسلحة بتشريد أهالي الجماسين الغربي والبالغ عددهم عام 48 حوالي 1253 نسمة، وأهالي الجماسين الشرقي والبالغ عددهم عام 48 847 نسمة، وكان ذلك في 17/3/1948. ويبلغ مجموع اللاجئين من القرية بقسميها في عام 1998 حوالي 12894 نسمة.

اقرأ/ي أيضًا | النكبة مستمرة: تهجير لوبية وملاحقة أهلها وثوارها