حين تصبح الرؤيا التربوية و"الأوتونوميا" في جهاز التعليم العربي مجرد شعارات من الماضي، وتنشغل مؤسساتنا وهيئاتنا المعنية بالأرقام والغرف والملاكات الناقصة، ويقتصر دورها على رصد الفوارق والفجوات فقط، حتى إن أرقام مثل نقص 5500 غرفة لم تعد تستأهل أي شكل من الاحتجاج أو مجرد التلويح بالإضراب.

وحين تشعر تلك الهيئات وبضمنها لجنة متابعة قضايا التعليم العربي إنها تعمل إلى جانب وزارة المعارف وليس أمام وزارة المعارف، وتتحول من هيئة عمل نضالي إلى لجنة وظيفية تعمل في تجميع وتركيز المعطيات الخاصة بالتعليم العربي، وتفقد المضمون المهني والنفس الكفاحي، أسوة بغيرها من الهيئات والجمعيات والمؤسسات التي تشكلت كآليات "مقاومة" واندمجت في المنظومة.

حين ذاك يصبح من البديهي والمشروع تجاوز تلك اللجان والهيئات التي تحتكر مجالات عملها وصارت تشكل، بترهلها وعجزها، عائقا أمام تطوير عملنا المهني والكفاحي والتصدي للتحديات الراهنة والمستقبلية، ويصبح تجاوز تلك الهيئات، إذا تعذر إصلاحها، مهمة تستمد ضرورتها من أهمية مجال عملها، خاصة عندما يدور الحديث عن قضية مصيرية مثل التربية والتعليم.

كان لافتا، في هذا السياق، تجاوز النائب يوسف جبارين، للجنة متابعة التعليم لدى توجهه للمحكمة العليا في موضوع المجلس الاستشاري العربي، وهو موضوع يحتاج إلى مناقشة، وكان لافتا أيضا انتقاد د. أيمن أغبارية الصريح لتلك اللجنة والمطالبة بإصلاحها وإعادة هيكلتها، وذلك خلال ندوة نظمتها مجموعة التربية والتعليم المنبثقة عن مؤتمر القدرات البشرية، وهي اللجنة التي يقال همسا إنها تشكلت أصلا كبديل أو رديف للجنة متابعة التعليم.

حول القضايا والتحديات التي تواجه التعليم العربي وضرورة تطوير إستراتيجيات وأطر وآليات العمل لمواجهة المرحلة الراهنة التقينا الباحث في المجال التربوي د. خالد أبو عصبة.

عرب 48: أعدت مؤخرا طرح موضوع غياب رؤيا تربوية للتعليم العربي، وتحدثت عن مشروع ثقافي، ضمن أولويات عملنا الذي ينحصر في الآونة الأخيرة بمسألة النواقص والفجوات؟

أبو عصبة: الرؤيا التربوية يفترض أن تقف في صلب أي جهاز تربوي، بغض النظر إن كان في الوسط العربي أو اليهودي، وعندما لا يقوم جهاز التربية بمهمته التربوية الأساسية إلى جانب مهمته التعليمية يصبح جهازا منقوصا ومشوها، خاصة وإن له دور أساس في إرساء وصيانة المنظومة القيمية الجامعة والشاملة للمجتمع والتي يحتكم إليها الفرد والجماعة في أمر السلوك السوي.

الأمر يزداد الحاحا في المجتمع العربي الذي يمر بمراحل تغيير حادة نتيجة انكشافه على مجتمعات أخرى، ونتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف به، والتي تدفع إلى تآكل المنظومة القيمية الجامعة والموحدة للنسيج الاجتماعي. هذا إلى جانب سياسة تشويه الهوية التي تمارسها المؤسسة ضدنا، إلى درجة تجعلك لا تفتخر بكونك عربيا ينتمي إلى الأمة العربية وإلى الشعب الفلسطيني.

هناك تغييب للرواية الفلسطينية وللهوية الجامعة على حساب التربية للانتماء للمحلية، وإلى الجزئيات مثل الأسرة والعائلة والقرية وليس إلى الوطن، فوزارة المعارف الإسرائيلية تخرج علينا بكراسات بعناوين "موطني" و"بلدي" و"مدينتي"، وحينما نراجع تلك النصوص نرى إنها تربي على قيم عامة. وبينما يتم تلقين الطلاب اليهود في المدارس اليهودية قيمهم الخاصة كالقيم الصهيونية يمنع من الطلاب العرب التربية على قيمهم، المتمثلة بالانتماء للأرض والوطن.

عرب 48: ربما لهذا السبب تصر وزارة المعارف الإسرائيلية على رفض منح أي نوع من الاستقلالية لجهاز التعليم العربي، لما أن جهاز التعليم الديني اليهودي يمتلك مثل هذه الاستقلالية؟

أبو عصبة واضح أن جهاز التعليم استخدم وما زال كأداة ضبط وسيطرة ضد فلسطينيي الداخل، وإن القضية، والحال كذلك، هي ليست قضية رؤيا تربوية فقط بل آليات تطبيق أيضا، قضيتنا قضية أخلاقية ثقافية وهي جزء من مشروع سياسي ومن الواضح أن مشروعنا السياسي متعثر، فنحن بحاجة إلى تثقيف سياسي ووعي سياسي شمولي وليس إلى وطنية بدائية، كما إننا بحاجة إلى أدوات وآليات نضالية تمكننا من الوصول إلى أهدافنا في السيطرة على جهاز التعليم الخاص بنا وتحريره من السيطرة والالحاق.

عرب 48: مؤخرا نشر أن النائب يوسف جبارين تمكن من "انتزاع" موافقة من وزارة المعارف بتشكيل مجلس استشاري للتعليم العربي، بعد أن توجه بالتماس للعليا بهذا الشأن؟

أبو عصبة: لا أعرف لماذا يصر النائب يوسف جبارين على العودة إلى إطار كنا قد تخلينا عنه بإرادتنا، فالجميع يعرف أن مجلسا استشاريا للتعليم العربي كان قد تشكل في تسعينيات القرن الماضي، في عهد الوزير امنون روبنشطاين (ميرتس)، وكان برئاسة بروفيسور جورج قنازع وضم أكاديميين معتبرين، كنت أنا من بينهم إلى جانب بروفيسور رمزي سليمان وآخرين. هذا المجلس استمر عمله ثمانية أشهر واستقال بعد أن رفضت توصيته بإقامة سكرتارية تربوية للتعليم العربي.

المفارقة إن وزيرا من ميرتس هو من رفض توصية المجلس الاستشاري، الذي شكله هو، بإقامة سكرتارية تربوية للتعليم العربي، وهو ما يشير إلى وجود إجماع بين الأحزاب الصهيونية فيما يتعلق باستخدام التعليم كأداة ضبط وسيطرة وبإلحاق جهاز التعليم العربي وتكريس تبعيته.

عرب 48: أردت القول إن هذا ما كان في عهد روبنشطاين وفي ظل حكومة "السلام"، التي رأسها رابين ودعمها أعضاء الكنيست العرب من الخارج، بتشكيل ما عرف بالجسم المانع، فماذا يرتجى من نفتالي بينيت في ظل حكومة يمين متطرف؟

أبو عصبة: ما أردت قوله إننا راكمنا، خلال عمل عشرات السنين، منجزات وإخفاقات ولا حاجة أن نبدأ في كل مرة من جديد، وإذا كان بروفيسور روبنشطاين قد عين أعضاء من طراز بروفيسور رمزي سليمان وجورج قنازع وخالد أبو عصبة ورفض توصيتهم، فإن نفتالي بينيت سيعين عربا من المقربين للسلطة لن يأتوا على ذكر استقلال التعليم العربي وتشكيل سكرتارية تربوية بل سيسبحون بحمده وحمد حكومته، ولذلك لا فائدة من تبديد الجهود سدى.

من جهة ثانية، إذا ما كنا غير قادرين في هذه المرحلة على تطبيق رؤيتنا في هيكلة التعليم العربي وانتزاع اعتراف باستقلاليته عبر تشكيل سكرتارية تربوية خاصة به، فالأفضل عدم تقديم تنازلات مجانية ولنا في تجربة السلطة الفلسطينية عبرة حسنة أو سيئة.

عرب 48: لكني سمعت اقتراحا لا بأس به من النائب يوسف جبارين، يدعو إلى إقامة مجالس تربوية محلية تتشكل من رئيس قسم المعارف ورئيس المجلس ومدراء المدارس وممثلي لجان الإباء وأكاديميين وينتج عنها انتخاب مجلس تربوي قطري؟

أبو عصبة: وبماذا ستختلف هذه المجالس (التربوية) عن لجان المعارف التابعة للمجالس المحلية والمكونة من رئيس مجلس عائلي ومدير قسم معارف عين بصفقة انتخابية وغيرهم ممن ليس لهم أدنى علاقة بالتربية والتعليم، إذهب لكل بلدة وافحص من هم أعضاء لجنة المعارف.

عرب 48: المشكلة ليست وزارة المعارف فقط، فها نحن نتحدث عن الحكم المحلي الذي ننتخبه ونديره، نحن وهو المجال الذي نتمتع به بحكم ذاتي، إن صح التعبير، ما يعني إننا يجب أن نثور ضد أنفسنا أولا؟

أبو عصبة: نحن عالقين بين المطرقة والسندان، فالمجالس المحلية المنتخبة على أساس عائلي وطائفي والتي يضرب فيها الفساد والمحسوبيات وأقسام المعارف ولجان المعارف التابعة لها لا تقل سوء بل هي أسوأ، من جهاز المعارف المركزي وهي سبب مباشر لتدني مستوى التعليم العربي، هذه المجالس خصخصت مدارسنا وباعتها للشبكات الربحية مقابل صفقات من تحت الطاولة تضمن لها تعيين المدير وبعض الامتيازات. هذه المجالس "تخصم" من أموال التعليم الموكلة بها والتي تأتي من وزارة المعارف، في وقت تنفق المجالس والبلديات اليهودية أموالا طائلة من ميزانيتها على التعليم.

عرب 48: والحال كذلك من غير المستغرب أن تصل لجنة متابعة قضايا التعليم إلى هذا الوضع، في ضوء تردي وضع الحكم المحلي وأن تعلو الأصوات المطالبة بإصلاحها وإعادة بنائها، كما تحدث الدكتور أيمن أغبارية صراحة في الندوة التي عقدت الأسبوع الفائت؟

أبو عصبة: لا أفهم لماذا يجري التحايل على واقع لجنة متابعة التعليم عوضا عن تغييره وأقصد اللجنة المنبثقة عن مؤتمر الطيبة التي دعت ونظمت الندوة المذكورة، وقد امتلك الزميل أيمن أغبارية الشجاعة الكافية ودعا الى إعادة هيكلة لجنة المتابعة بحيث تستطيع أن تضم قوى تربوية وسياسية وتكون قادرة للتصدي للمهمات والتحديات الراهنة، عوضا عن إصدار البيانات الإحصائية التي يتغير فيها التاريخ فقط. يبدو أن المنظومة فيها عطب وبحاجة لتصحيح.

عرب 48: ضمن هذا الواقع السوداوي يبرز دور الأهالي الذين يشكلون أحد أضلاع العملية التربوية الثلاثة، حيث يشهد مجتمعنا تشكل أو اتساع قاعدة طبقة وسطى، إن صح التعبير، تمتلك بعض القدرات المادية وهي مستعدة للإنفاق على أولادها، الموضوع يتم التعبير عنه بإقامة مدارس خاصة هنا وهناك إضافة إلى برامج ومبادرات محلية؟

أبو عصبة: واضح أن العوامل التي تحاصر التعليم العربي تتمثل بعنصرية السلطة وفساد وفقر الحكم المحلي وتدني مستوى مدخولات الأهالي، حيث يقبع 50% من المجتمع العربي تحت خط الفقر، في حين إن نسبة الإنفاق من المصادر الثلاثة تفوق في الوسط اليهودي تبلغ أضعاف نسبتها بين العرب.

من الجيد أن هناك هامش بسيط من المجتمع أصبح يمتلك بعض القدرات، إلا أن المشكلة في تطبيق ما يسمى بنظرية التميز في المجتمع الفلسطيني، والتي تعتمد "استثمار الكثير بالقليل" عوضا عن التوزيع المتساوي، أي الاستثمار بالنخبة المتميزة بدلا من الاستثمار بالمجموع وتلك النخبة ستعود وترتفع بالمجموع. المشكلة إن مجتمعنا لا يمتلك أماكن تعود إليها هذه النخبة لترفعه، لا مصانع ولا جامعات ومستشفيات، ولذلك هي ستعود وتندمج بالمجتمع الإسرائيلي، ولعل هذا هو سبب عدم إنعكاس "بركة" الطفرة في مجال التعليم على المجتمع.