• بعد 43 عامًا على يوم الأرض، إسرائيل تحول بلداتنا إلى "غيتوهات" مكتظة
  • الدولة استعملت حيلة ذكية بإدراجها تكثيف السكن على الأراضي الخاصة ضمن خطة 922
  • سيل الهجرة العربية إلى حيفا و"نتسيرت عليت" وغيرها من المدن يخيف إسرائيل

إذا ما استثنينا النقب، لم يبق أمام السلطات الإسرائيليّة ما تصادره من أراض في الجليل والمثلث، بعد أن حولت قرانا الكبيرة إلى "غيتوهات" مكتظة تحاصرها المستوطنات وأحراش "الكيرن كييمت" من كل الجهات.

واليوم، تلجأ السلطات الإسرائيليّة إلى أسلوب جديد يتمثل بتكثيف السكن على الأراضي الخاصة الواقعة داخل القرى والمدن العربية، بغية عدم توسيع مسطحات نفوذ هذه البلدات على حساب ما يسمى بـ"أراضي الدولة"، كما يقول مخطط المدن بروفيسور يوسف جبارين، الذي حاورناه عشية يوم الأرض الثالث والأربعين، لنقف من خلاله على أهم التطورات المتعلقة بسياسة الأرض والتخطيط الإسرائيلية والتحديات التي نواجهها في هذا السياق.

عرب 48: يوم الأرض عام 1976 كان محطّة نوعيّة في حياة جماهيرنا، وما زال مناسبةً دالّةً على المعركة المفتوحة حول الأرض والوجود، التي تفرز في كل مرحلة وأخرى مهمات جديدة وتحديات جديدة. ماهي أهم مميزات المواجهة الراهنة في قضايا الأرض والتخطيط؟

جبارين: يوم الأرض عام 1976 كان أول حراك جماهيري بهذا الحجم في الفترة الممتدة من عام 1948 إلى عام 1976، وكان له وقع كبير، وبرأيي، فإن الدولة صارت، من يومها، تحسب الكثير من الحساب قبل قيامها بمصادرة أراض عربية بشكل مكثف، وتمتنع عن الوقوع في هذا الخطأ قدر الإمكان، وليس صدفة أن رئيس الحكومة الإسرائيليّة الأسبق، يتسحاك رابين، عندما عاد لإشغال منصب رئيس الحكومة مرة أخرى، اعتذر عن أحداث يوم الأرض 76 التي وقعت في عهده، كما أسقط صفة المنطقة العسكرية عن أراضي المل، التي كانت تسمى منطقة 9.

ما حدث في حينه أنّ الدولة فتّشت عما تبقى من أراض في مواقع إستراتيجية عربية في الجليل في المثلث وصادرتها بالجملة، الأمر الذي أدّى إلى الانفجار الكبير عام 1976. بعدها اتخذ يوم الأرض منحى آخر يختلف كليا.

من مسيرات يوم الأرض الخالد

اليوم، لم يبق لدى الفلسطينيين في الداخل أرض للمصادرة سوى النقب، الذي يتعرض لما يتعرض له من مخططات تهدف لإلى الإجهاز على احتياطي الأراضي العربية هناك، أيضًا. أمّا في الجليل والمثلث، فتمارس الدولة سياسة يمكن تسميتها بسياسة "تكثيف الإسكان" على ما تبقى من أراض خاصة في القرى والمدن العربية، وهي سياسة برزت في الخطة 922 وتشكل جزءًا مركزيا منها، برغم محاولات البعض التغاضي عن ذلك، وتسعى تلك السياسة إلى تحقيق هدفين، الأول عدم استعمال أراض تسمى أراضي دولة لغرض الإسكان في القرى والمدن العربية والاضطرار لتوسيع مسطحات نفوذها.

لقد لجات الدولة إلى حيلة أو إستراتيجيّة ذكية بإدراجها تكثيف الإسكان على الأراضي الخاصة ضمن ما يعرف بخطة 922، التي عرضت على أنها إنجاز اقتصادي للعرب، حيث ظهرت الدولة بمظهر المخطط المهتم الذي يزوّد العرب بالأموال لأجل تخطيط هذه المناطق وتطويرها، فكل مخطط على الأراضي الخاصة سيكون على حساب الدولة ونفقتها، هذا ناهيك عما يقف في أساس الخطة من مقايضة الميزانيات بالأرض الخاصة.

عرب 48: ولكن خطة 922 ما زالت تعرض من قبل البعض على أنها من أكبر الإنجازات التي تحققت للعرب؟

جبارين: لا أريد أن أتطرق إلى جوانب أخرى خارج مجال اختصاصي، ولكن الدولة لجأت من خلال هذه الخطة إلى حيلة تسويق مخطط تكثيف البناء على الأراضي الخاصة بغية عدم توسيع مسطحات البلدات العربية على "أراضي الدولة"، والذي يشمل تكثيف الإسكان بمعدلات عالية جدًا وتغليفه بـ"إنجاز" للعرب.

فعدا عن أن الغالبية المطلقة من الناس ليست بحوزتها أراض خاصة، ولذلك لن يجدوا أماكن سكن، فإنّ المخطط سيحول دون تطور القرى والمدن العربية خارج مسطحات نفوذها، التي منعت إسرائيل توسعها منذ عشرات السنين.

ومفروغ منه أنّ توسيع مسطحات نفوذ القرى والمدن العربية يشمل "أراضي دولة"، تقام عليها المشاريع والشوارع وغيرها من المصالح العامة، كما أنّ التطوير والتخطيط على هذه المناطق يجب أن يكون على حساب الدولة.

الأمر الثاني الأكثر ذكاءً الذي مرّرته الدولة يتمثل في سياسة زيادة الكثافة السكانية عند العرب، من خلال مشروع كان موجودًا أصلا وجرى إدراجه في الخطة 922، وهي سياسة جديدة تتعلق بتغيير ثقافة السكن عند العرب، وذلك من خلال تكثيف الإسكان بشكل كبير جدًا حتى في البلدات الصغيرة.

هناك مخطط في الطيبة على سبيل المثال تبلغ فيه نسبة الكثافة 20 وحدة سكن للدونم الواحد، وهي أربعة أضعاف الكثافة الموجودة في حيفا، وضعفا الكثافة القائمة في تل أبيب، وفي الجديدة تصل النسبة في إحدى المناطق إلى 23 وحدة سكن للدونم.

عرب 48: عمليًا، أنت تقول إنّ الدولة التي صادرت ملايين الدونمات من أرضنا، تضنّ علينا بجزء يسير منها (حتى لو كان مدفوع الثمن) لسد احتياجات تطورنا الطبيعي، ولذلك تدفعنا إلى حالة اكتظاظ سكاني غير مسبوق عبر استغلال كل شبر أرض، خاصّةً داخل مسطحات قرانا؟

جبارين: القضية لا تتعلق بالسكن فقط، فالتجارب العالمية تثبت أنّ البناء مكثف في الأماكن ذات نسبة الفقر العالية، ونحن نعلم أنّ نسبة الفقر عندنا تتجاوز الـ50%، ما حوّل تلك المناطق إلى أحياء وتجمعات فقر يزداد ويتفشى فيها العنف وغيرها من المظاهر المرضية.

ونحن نرى بأم أعيننا ازدياد العنف بيننا، وإن كانت بعض أسبابه تعود إلى تطور ثقافة العنف عندنا كمجتمع، إلا أنّ بنية البلدة العربية وظروف السكن والاكتظاظ والفقر أسباب وجيهة لتنامي هذه الظاهرة وغيرها من المظاهر التي تهدد مجتمعنا، وهي تكمن في صلب إستراتيجيّة الدولة.

الدولة استثمرت في التعليم العربي ملايين الشواقل، وهذا شيء غريب عجيب أن تستثمر الدولة تحت غطاء السياسة النيولبرالية ملايين الشواقل في التعليم العالي والتعليم المنهجي العربي وفي محاولة زيادة نسبة النساء العاملات، وفي دمج العاملين العرب في مجالات مختلفة، فمثلا الدولة تدفع 100 ألف شيكل لكل شركة "هايتك" تستوعب عاملًا عربيًا، كما أنّنا لا نسمع اليوم عن فجوة في مجال المباني والنقص في غرف التعليم، باستثناء البلدات غير المعترف بها في النقب. في إطار نهج النيولبرالي، إسرائيل سدّت حاجات التعليم العربي.

عرب 48: بغضّ النظر عن التطور الحاصل على هذا الصعيد، إلّا أنّ الفجوة ما زالت قائمة في الميزانيات والتحصيل، ولكن تساوقًا مع ما تقول، ما هي الفلسفة التي تقف من وراء ذلك؟

جبارين: الفلسفة واضحة هي أنّ الدولة لا تريد أن يكون سكانها عبئًا عليها، هي تريد الحد من نسبة الولادة وتغيير ثقافة السكن الخاصة بهم، إلى جانب الحد من تدخلها في القضايا الاجتماعية وفي كل المجالات، وهذا ينسحب على مختلف قطاعات المجتمع الإسرائيلي من علمانيين وحريديين وعرب أيضًا.

مخطّط طنطور (عرب 48)

لتحقيق هذا الغرض، هناك استعداد لدى الدولة للاستثمار عند العرب، وهذا يتبدّى في مواقف الطبقات الحكومية بمستوى الموظفين الكبار في مواقع اتخاذ القرارات، تجاه تحسين أوضاع العرب.

عرب 48: ربما هناك استعداد للاستثمار في المجال الفردي انسجاما مع التوجه النيولبرالي؟

جبارين: لا، حتى في المستوى الجماعي والادعاء الذي يقول إنّ إسرائيل تسعى لضرب الاقتصاد العربي ليس له ركائز في الواقع، ولكن الحقيقة الواقعة أنّ كل شيء مسموح ولكن دون أن تقترب من موضوع الأرض، هذا موضوع "مقدّس". الدّولة لا تريد للعرب أن يقتربوا منه وأن يأخذوا حقوقهم وحصتهم في الأرض، لذلك هي مستعدة أن تفعل كل شيء لكي يسكن العرب في طوابق عالية لكن دون أن يتمددوا على الأرض.

الأمر الثاني الذي لا يروق للدولة على مستوى المؤسسات التخطيطية ومؤسسات اتخاذ القرار هو الهجرة إلى البلدات اليهودية، وهو توجه يزداد بشكل "مخيف" في السنوات الأخيرة، حيث نشهد هجرة كبيرة إلى حيفا بشكل خاص وإلى "نتسيرت عليت" و"كرمئيل" وغيرها من المدن، حيث لا توجد مدينة أو بلدة يهودية في البلاد لا تشهد هجرة عربية وافدة، علما بأنّ هناك 942 بلدة ممنوع على العرب السكن فيها، هي البلدات التي فيها "لجان قبول" ما يعني أنّ المواطن العربي لا يستطيع أن يسكن في 80% من أرض وطنه، وهو أمر غير قائم في أي دولة من العالم.

ضائقة السكن في القرى والمدن العربية، إضافةً إلى البحث عن جودة الحياة والسعي وراء أماكن العمل جعلت من هجرة العرب من قراهم أمرًا مشروعًا من وجهة نظرهم ومخيفًا بالنسبة للدولة، وحسب رأيي، فإنّ "نتسيرت عليت" وكرميئيل" ستتحولان، خلال السنوات الخمس القادمة إلى مدينتين يتقاسمهما العرب واليهود مناصفة.

عرب 48: الدولة لا تريد للعرب أن يهاجروا إلى المدن العربية وهي لا توفر لهم مخططات إسكان وأماكن عمل في قراهم ومدنهم؟

جبارين: هي توفر أو تسعى لتوفير ذلك، ولكن وفق إستراتيجيتها المتعلقة بالبناء المكثف. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى مخطَّطَين اثنين، الأول مخطط "فتمال" في الطيبة، والثاني، وهو المخطط المركزي، مخطّط الطنطور في الجديدة المكر، والذي سيضم 80 ـلف نسمة على بقعة صغيرة من الأرض نصفها أراض خاصة، والنصف الآخر أراض صودرت عشية يوم الأرض 76، وتصل الكثافة السكانية في هذا المخطط 23 شقة سكنية للدونم الواحد، ما يعني وجود 100 إنسان على مساحة دونم واحد، وهي، كما ذكرنا، أربعة أضعاف الكثافة السكانية في حيفا، الأمر الذي سيحول جديدة المكر- طنطور إلى مدينة فقر نحن بغنى عنها.

عرب 48: ما تحدثت عنه من وجود 942 بلدة عربية يحظر على العرب السكن فيها، كان قبل "قانون القومية" وبغضّ النظر عن جديده؟

جبارين: "قانون القومية" يعزّز هذا التوجه ويقوننه، حيث يتحدث البند السابع منه عن تطوير بلدات يهودية جديدة لليهود فقط، ما يعني أنّ الدولة تمتلك اليوم قانونًا يجيز لها أن تكون عنصرية في هذا المضمار، وهو ما ينسف التماس قعدان، الذي تحدث عن المساواة التامة في السكن بين المواطنين.

القانون ليس أنّه يوفر الغطاء الضروري للجان القبول ولبلدية العفولة وغيرهم من العنصريين، بل يمأسس العنصرية في مجال الأرض عبر تشريع صريح يقول إنّ الأرض لليهود، هم من يمتلكون الحق في استيطانها وتطويرها والتطور عليها دون غيرهم، وهو ما يعيدنا إلى نقطة البداية الكامنة في جوهر يوم الأرض، الذي مثل نقطة التفجير في عملية الصراع على الأرض.

المؤسف أن قياداتنا القطرية والمحلية لا تدرك، أو أنها لا تريد أن تدرك ذلك الأمر، ولا تعمل على خلق إستراتيجيّات لمواجهة هذا التحدي.


بروفيسور يوسف جبارين: نائب عميد لشؤون البحث العلمي في كلية الهندسة المعمارية والتخطيط، بمعهد التخنيون