كان البعض يظنه صيفاً ساخناً، فإسرائيل تعيد بناء قواتها ربما للانقضاض على إيران أو سورية وحزب الله، أو الضفة وغزة، لكن اسرائيل ـ حتى اللحظة على الأقل ـ فوتت أوائل الصيف دون حراك عسكري حقيقي ضد أي من تلك الأهداف، بعدما هبت رياح الصيف لتجتاح الوطن الفلسطيني انطلاقاً من غزة بعدما هدأت بشكل ملحوظ الجبهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وتحقق أحد أهم الأهداف الإسرائيلية بفصل قطاع غزة عن الشطر الآخر من السلطة الوطنية في الضفة الغربية، الفصل الجغرافي بات فصلاً سياسياً بعدما تم الحسم العسكري لصالح حركة حماس في القطاع، وقيام حكومة الطوارئ في الضفة، والتي لا تمتلك أية قدرة لإنفاذ طوارئها على الشطر الآخر، الحسم العسكري المرفوض شكلاً ومضموناً، جوبه بخيار لا يقل خطورة يتمثل في الحسم السياسي، الذي يكشف عن ضيق الحيلة والإرباك القيادي الفلسطيني في مواجهة مخاطر الحسم العسكري، وبتنا في مواجهة انشطار ميداني حقيقي لا يمكن تغليفه بشعارات الوحدة الوطنية أو ان حكومة الطوارئ ستعمل في الشطرين المنقسمين عملياً.

لم يكن مستغرباً أن تحسم مسألة ازدواجية السلطة بهذه الطريقة الدموية، قيادة منظمة التحرير من المفترض أنها الأكثر قدرة على استدراك الوضع والموقف الناجم عن استمرار ازدواجية السلطة، فقد خبرت ذلك ـ أو كنا نظن كيف حسمت الأردن ازدواجية السلطة مع المقاومة الفلسطينية العام 1970، وفي لبنان تكررت المسألة، وكانت هناك ازدواجية للسلطة أدت في نهاية الأمر الى حرب أهلية، كان من نتائجها المعروفة، حسم ازدواجية السلطة لصالح لبنان، وفي كلتي الحالتين، تجاهلت القيادة الفلسطينية تحت أوهام القوة والانتشار المقاوم وضعف الحكومتين، في الأردن ولبنان، ومارست سلوكاً يبتعد عن الحكمة والتعقل وأساءت فيما أساءت الى الجمهور الأردني واللبناني المؤيد للقضية الفلسطينية قبل أن تسيء إلى الحكومتين، نقول ذلك ليس للمقارنة، ولكن للإشارة فقط إلى أن ازدواجية السلطة، أينما كانت وفي ظل أي نظام سياسي، مهما طال الأمر أو قصر، لا بد من أن تحسم في نهاية الأمر، وفي الغالب، تحسم عسكرياً إذا لم تحسم من خلال التوافق وصناديق الاقتراع.

وكان من المنتظر أن تحسم الانتخابات التشريعية الأخيرة، هذا الأمر، لكن نتائجها أدت من الناحية العملية الى تدشين مرحلة جديدة من مراحل ازدواجية السلطة، حيث كانت تلك الازدواجية، قبل الانتخابات التشريعية، تتمثل في سلطة، وفي معارضة مسلحة، لكن بعد أن دخلت حركة حماس الى السلطة من البوابة الديمقراطية، باتت ازدواجية السلطة تأخذ شكلاً "شرعياً". حركة فتح، الخاسر الأكبر والمتفاجئ من نتيجة الانتخابات، لم يكن بوسعها التسليم بنتائج الانتخابات، دون أن تحاول التأثير على هذه النتائج، وكان الحصار الذي مورس على حكومة حماس، وهو في الواقع كان مفروضاً على الجمهور الفلسطيني في الأساس، بل إننا نعتقد أن هذا الحصار، هو الذي ساهم في تعزيز مكانة حركة حماس جماهيرياً، خاصة بعد التوصل إلى وثيقة الوفاق الوطني، ثم توافق مكة، هذا التوافق الأخير، شكل إمكانية حقيقية لحل مسألة ازدواجية السلطة لصالح التنفيذ الحقيقي والصادق لما اشتمل عليه من بنود ومبادئ، إلا أن الأيام التالية لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، كانت شاهدة على أن ذاك الاتفاق لم يحل المشاكل الأساسية، رغم توصله الى توافق سياسي هو الأول من نوعه، فعلى الأرض، ظلت ازدواجية السلطة مكرسة من خلال أجهزة الأمن وصلاحيات السيطرة عليها، وعدم قدرة القيادات الفلسطينية في الرئاسة والحكومة، في فتح وحماس، على معالجة الأمر، ما أدى الى جولات تناحرية من قتال وفوضى، وكان الخاسر الأساسي فيه القضية الوطنية والشعب الفلسطيني، رغم أن هذا التناحر جاء في ظل التهديدات والاقتحامات الاسرائيلية المتكررة والمتعاقبة سواء في قطاع غزة أو في الضفة الفلسطينية، لكن تلك الجولات، على الأرجح، ما كان بالإمكان وقف استمرارها، بقدر ما كانت عبارة عن استعراض للقوة يهدف الى التعرف على ميزان القوة الفعلي، الجولة الأخيرة جاءت لتحسم الأمر وتحل ازدواجية السلطة، عسكرياً، ما أدى الى الثنائية الجيوسياسية القائمة الآن في غزة والضفة.

وباعتقادنا، ان أية عملية انتخابية، يجب أن تحترم بصرف النظر عن النزعات والآراء لدى جمهور الناخبين، أو القادة والساسة، ولكن، مثل هذه الشرعية لا يمكن أن تستمر بفضل السيطرة العسكرية والعمليات الجراحية الدموية، وأية شرعية تفقد مبرراتها إذا ما استخدمت وسائل غير شرعية لفرض شرعيتها، وبالمقابل، فإننا نعتقد أن اللجوء لتشكيل حكومة طوارئ، لا يشكل حلاً، إن لم يشكل أزمة جديدة قد لا تقل خطورة، مع اعترافنا بأنه لم يكن هناك حل آخر بعد ما وصلت الأمور الى ما وصلت إليه، وأكثر من ذلك، فإننا نعتقد أن حكومة الطوارئ، لن تنجح إلا في مجال واحد فقط، وهو فك الحصار المالي الذي ترزح تحت أعبائه السلطة الوطنية، إذ إن مثل هذه الحكومة المشكلة بمنأى عن حركة حماس، ستوفر الاشتراطات الدولية المعروفة لانسياب الأموال والمساعدات، غير أن للأمر شقاً آخر، يتعلق بالحصار المفروض على قطاع غزة وخنقه اقتصادياً وانسانياً من خلال إحكام إغلاق المعابر الحدودية والتجارية مع مصر ومع اسرائيل، وباختصار، قد يتمكن الموظفون من تسلم رواتبهم، ولكنهم لن يجدوا شيئاً يقتاتون به مع عوائلهم، أي أننا أمام حصار حقيقي أكثر من أي وقت مضى.

وحتى اللحظة، لا نعرف كيف ستعمل الادارات والمصالح في الوزارات والمؤسسات، والأهم من ذلك كله، كيف سيفرض الأمن المنقسم بين وزارتين!!.

"الأيام"