حينما سينظر مؤرخ المستقبل لهجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001م وتداعياته اللاحقة، لا نشك أنه لن يتردد في الحكم بالسلب على نتائجه أميركياً. < prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" />


          كان هجوم الحادي عشر من سبتمبر أول تهديد قوي يطال الأرض الأميركية مباشرة، منذ الهجوم الجوي الياباني على "بيرل هاربر" في الحرب العالمية الثانية، الذي أنهى سياسة العزلة التي كانت أميركا تتبعها، وزج بها في دوامة الصراع العالمي.


          لكن، إذا كانت محصلة التدخل الأميركي بعد "بيرل هاربر" لصالح أميركا، بعدما خرجت القوى الإمبريالية الكبرى التي خاضت الحرب العالمية الثانية، محطمة أو منهكة، فيما تصدرت أميركا قيادة المعسكر الغربي، فإن محصلة التدخل الأميركي بعد الحادي عشر من سبتمبر، كانت بائسة.


فرغم الآفاق الواعدة التي وفرها لها إنهيار عدوها اللدود "الإتحاد السوفيتي" و "المعسكر الإشتراكي"، وشعور قياداتها بأن العالم قد انطرح أمام جبروتها.. وما عليها إلا أن تبسط سلطانها عليه وتسمه بميسمها فـ"تأمركهوتجعل من القرن الحادي والعشرين قرناً خالصاً لسيادتها؛ رغم كل هذا، إلا أن "العتمة لم تأتِ على قد يد الحرامي" كما يقول المثل اللبناني!!


          وقد كان مأزق غزو واحتلال أفغانستان -و"العراق" بخاصة- هو الضوء الكاشف الذي تسلط على "الحرامي"، وأزال غشاوة العتمة عن مدى قدراته وإمكانياته أمام أنظار العالم أجمع: بما فيه من منافسين أو حلفاء، أو تابعين..، وأمام أنظار الاميركيين أنفسهم.. وسيلحظ مؤرخ المستقبل حتماً: كيف إنفض المؤيدون والحلفاء الذين آزروا القيادة الأميركية غداة الحادي عشر من سبتمبر- تباعاً بعد  ما رأووها تتخبط عاجزة في رمال العراق وجبال أفغانستان..


          كما سيلحظ كيف انقض المنافسون وقانصو الفرص، على الثور الأميركي الهائج، بعدما "برك" مُجهداً مُتقطّع الأنفاس في ميادين الصراع...


فشرعوا في ممارسة الأمر المعتاد والواجب في مثل هذه الحالات: التمرد، والمساومة، والابتزاز...


          غير أن أهم ما سيلحظه مؤرخ المستقبل –إلى جانب تقهقر القدرة الأميركية وانكشافها- هو وَهَنُ الروح والعزيمة الأميركية، وتصدُّع مثلها العليا، وتداعي قيمها المعلنة عن: رسالة الحرية وحقوق الإنسان التي تريد تعميمها على البشر، بعدما فضحت وقائع الممارسة الحية إدعاءاتها وبددتها كما تبددُ أشعةُ الشمس الضباب.


          وهذه المسألة بالذات هي أكثر ما يشغل المؤرخين والاستراتيجيين الأميركيين راهناً.. لانها لا تؤشر فقط على هزيمة في معركة أو حرب -يمكن إستيعابها ومعاودة الهجوم، في الموقع نفسه أو في غيره من المواقع- بل تؤشر على أمر داخلي خطير آخذ في التكون: ألا وهو فقدان الإرادة على مواصلة الحرب، وفقدان الثقة بالقدرة على تحقيق النصر، والأهم: فقدان الثقة بالدوافع والمعنى.


          لا نستنتج من هذا الكلام -كما يفعل البعض من ذوي "التفكير الرغائبي"- أن الإمبراطورية الأميركية على وشك الإنهيار.. ولا نقول أيضاً أنها لن تشن حروباً أخرى..


          ما نقوله بالضبط هو أن مصير مطامعها الإمبراطورية الكونية قد تقرر في رمضاء العراق، مثلما أشَّرت موقعة "ذي قار" مطلع القرن السابع الميلادي، على مصير الإمبراطورية الفارسية.