يوم الجمعة الماضي، عند "نقطة الفصل" بين الحرية واللاحرية، بوابة معتقل "عوفر"، احتشد الأهل والأصدقاء في جمع غفير، انتظروا مئتين وخمسين أسيرا ويزيد، قررت حكومة الاحتلال الإفراج عنهم. كانت الفرحة بادية وعارمة، رغم قلة العدد وقصر المدة المتبقية، قياساً بالباقين في السجن، بينهم كثيرون "يذوبون" فيه منذ عقود.

كنت واحدا مِن المنتظرين الفرحين، إلى أن تَجاوزَ المحررون البوابة إلى أحضان أهلهم، عندها طار قلبي إلى الباقين، لأنني أعرف قسوة المشهد عليهم، وعلى عائلاتهم، وعلى أطفالهم تحديداً، واعرف أنه منذ بداية الحديث عن عدد المفرج عنهم وأسمائهم، تصطلي نفس كل سجين بسؤال: " هل اسمي بين الأسماء"؟ ولا غرابة، فعلى الإجابة يرتسم الحد الفاصل بين مَن سيغادر، وبين مَن سيمكث. بين الحرية واللاحرية، بين الطليق والمُقيَّدِ، بين مَن يرى الشمس متى شاء، وبين مَن يراها كما يقرر السجان، بين مَن يستطيع تعريض كامل جسمه للشمس، وبين مَن لا يستطيع ذلك إلا عبر ثقوب "شبك" سقف ساحة "الفورة"، بين مَن يستطيع رؤية طفله متى شاء، وبين مَن لا يراه إلا متى شاء السجان، بين مَن يستطيع رؤية وجه طفله كاملا، وبين مَن لا يستطيع رؤيته إلا "مقطَّعا" بعدد فتحات "شبك" زيارة الأهل، الفاصل للابن عن أبيه، والأم عن إبنها، بين مَن يستطيع النوم على سرير ثري بأحلام سعيدة، وبين مَن ينام على "برش" يخلق كل صنوف الكوابيس، وبكلمات بين ما لا يحصى مِن فوارق حياة الحياة عن حياة السجن.

مع هذا السؤال، يغدو يوم السجين بألف يوم، وساعته بألف ساعة، يعيشها مثل مَن انتظر "غودو"، يتحدث عفويا، يناجى خارج السجن، يلوك زاده روتينا، يتمشى في ساحة السجن برتابة، يدخِّن مُرَّ سجائره بتتابع، ينظر في ألبوم صور يستعيد ذكريات حياة كانت، يتصفح كتابه شارد الذهن، وهو، وإن حاول إخفاء دواخله، فإنه في المساحة الفاصلة بين الشك واليقين، بين الحرية واللاحرية يجلس ينتظر. وتلك حالة تحيل الوجود إلى عبث، لا يدرك قسوتها إلا مَن عاشها مرات ومرات، مِن أسرى أمضوا في السجن عقوداً، وما أدراك كيف تكون مع ثقل هذه المرحلة المريضة والعبثية، تلف الفلسطينيين مِن الرأس حتى أخمص القدم، وتخترق الوطن "المقسوم" بين ضفة وغزة مِن أقصاه إلى أقصاه.

مع هذه الحالة الوطنية العامة، بما يعتريها مِن عبث، تتضاعف معاناة الأسرى الباقين، وتزيد تعقيداً على تعقيد، لأنهم يدركون أكثر مِن غيرهم أن الفعل يصنع الكلام، وأنهم الفعل الذي جعل للكثيرين لسان، وأن الجماعة قاطرة التاريخ لا ينصف صناعه الحقيقيين دوما، والأسرى مِن الذائبين في "جماعتهم" حتى الثمالة.

الأسرى الباقون في هذه المرحلة المريضة يتذكرون كل شيء، ويسترجعون أن للصوان صلابتهم التي تسيل شوقا لأطفالهم، وأن للجبال رسوخهم يجري التلاعب به مِن هواة السياسة الفلسطينيين، وأن للجِمال صبرهم لا يمكنه احتمال "قسمة" الوطن، تحملوا لأجل حريته كل هذه المعاناة، وأن للبحر سعة صدرهم ضاق ذرعاً بعبثية تبديد الانجازات والمكتسبات الوطنية، وأن للمحراب طهارتهم، لوثتها ممارسات تعرية السجين للسجين في "سجن غزة" الكبير، وأن للطبيعة أسرار، بعددها، وربما أكثر، تغفو ببراءة في صدر السجين أسرار وأسرار، وأن للأشجار ظلال، وبظل فعل الأسرى يتفيأ الكثيرون ولا يصونونه، وأن لكلِّ عاشق معبود، ومعبود السجين حرية الوطن، وأن لكلِّ شخص حضن دافيء، وحضن السجين هو الشعب يفديه عن طيب خاطر، وأن لكل مناضل خصلة فارقة، وبالقهر اليومي يتميَّز السجين، وأن لكلِّ فاقد حزنه، وعلى نار فقدان الحرية "ينشوي" السجين، وأن لكل مرء جبلة، وجبلة السجين كره الكره وحب الحب، وأن لكل نهر مجرى، ومجرى السجين قهر القهر والصمود في وجهه، وأن لكل زهرة رائحة، ورائحة السجين معاناة وبطولة، وأن لكل انسان كاتم أسرار بطولة يبوح بها عند الحاجة، وكاتم أسرار بطولة السجين هي قضبان السجن تصدأ ولا تتحدث، وأن لكل إنسان سر عظمة، وسر عظمة السجين أنه شمعة تذوب بإباء وشموخ، وأن لكل انسان عمق، وعمق السجين الوفاء والشهامة والحمية والصدق والاخلاص.

الأسرى الباقون هم مِن ما في مسيرة الشعب التحررية مِن عنفوان، ما زال يصد ما يجتاحها مِن توهان، لأنهم زرعوا بكدٍ وجدٍ، ولم يقطفوا غير مجدهم، يغفو معهم ببراءة في زنازينهم، يمزقه عبث العابثين بتاريخ النضال التحرري الفلسطيني ومكتسباته على مدار قرنٍ مِن الزمان، ولأنهم رغم إدراكهم لهذا العبث الذاتي الجنوني، ما زالوا يزأرون: أن اصمد، لأنك تستطيع.

في "النقب" و"عسقلان" و"نفحة" و"بئر السبع" و"هداريم" و"الرملة" و"هشارون" و"مجدو" و"عوفر" و"الجلمة" و"المسكوبية" و"الدامون" و"كفار يونا".....ما زال هناك فلسطينيون أسرى، يقطنون الزنازين، ويقطنهم قهرها، يشهد أن غزة لم تتحرر وأن الضفة محتلة، وأن لحظة قطاف الزرع ما زالت بعيدة، وليست على مرمى حجر، ما يفرض الكف عن رفع رايات اللون الواحد، والعزوف عن جرائم ضرب علم الأربعة ألوان، لأجل حماية ما يرمز إليه مِن كينونة وطنية مستهدفة، رحل الشهداء، وعانى الجرحى والأسرى والمشردين، وما زالوا يذودون عنها.

الأسرى الباقون، يحتاجون عملا وطنيا جماعيا لتحريرهم، ولكنهم يحتاجون أيضا عملا ما يوقف ما يجري مِن حماقات سياسية تزيد معاناتهم على معاناة، فهم ما زالوا يعيشون التفاني ثوارا، وتسكنهم نظافة اليد واللسان والروح حرباً على أهواء فئوية فجة، قادت إلى "قسمة" الوطن الممزق أصلاً بفعل الجرافات، ويمتلئون بحنان تتكسر أجنحته في كل لحظة، يسيل في مجراه التلقائي نحو الأم والأب والابن والزوج والصديق وزميل العمل وشريك النضال، ويكابدون كأطواد شامخة تجربة شائكة قاسية.

الأسرى الباقون هجوم وطني في مرحلة تراجع قومي ودولي، لا يتراجعون خطوة للوراء إلا لإحراز خطوتين للأمام، فقد كان يمكنهم اللعب بالدولار، لكنهم اختاروا الزنزانة عليه، لينتزعوا عظمة "لا تمت قبل أن تكون نداً"، واصرار "حاصر حصارك لا مفر"، ومكابدة أسطورية أن يسمع الأطرش بأذن الأعمى، ويرى الأعمى بعين الأطرش، فتحرروا، وظلوا، وما زالوا "يدقون جدران الخزان".

الأسرى الباقون، هُمْ تجسيد لمعانٍ جميلة، جوهرها الحقل والزرع، وإقتران القيادة بالتضحية والقول بالفعل، وتساوي "الأوائل" بشموع تذوب لتضيء للآخرين، وصعود القادة مِن القاع منذ إنطلاقة "خيمة عن خيمة تفرق"، وقشط العجز الرسمي العربي بمعجزة إخضرار العرق اليابس على يد أم سعد، وعظمة "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة". قادة الأسرى لم تصنعهم "فضائيات" "الرداحات" بربطة عنق، ما زالوا يربون العضوية الحزبية الفلسطينية على حب الشعب والوطن أولا، ولا يبرمجونها على خرافة أن النصر يمر عبر قتل قابيل لهابيل، وأنه لا يكون إلا حصيلة ائتلافهما، وعدم اقصاء أحدهما للآخر.

تجربة الأسر المريرة أنتجت قادة مثَّلوا معانٍ وطنية، عززت قيماً تحررية انسانية سامية، لكنها تُذبح اليوم في فلسطين بسكاكين إعلاء الذات على الموضوع، وتحويل الأداة إلى هدف، وتفضيل الحزب على الشعب و"السلطة" على الوطن، إنها سكاكين صدئة، ولكنها موجعة، وتغطي على قادة ما زالوا في زنازينهم، يتقاسمون السيجارة مع الاشبال، يرفضون تسليع التضحية، وتحويل جهودها التحررية إلى تجارة تباع وتشترى.

الأسرى الباقون: لا تقنطوا، فلا أظن أن الشعب سيترككم وحدكم، فمشواركم لأجله كان طويلا، شاقا، مليئا بالعطاء والإيثار، أدعوكم، رغم القيد أن تبتسموا، فقط ابتسموا، أبداً ابتسموا، دائماً ابتسموا، لأنه ما زال في الوادي حجارة، مثلكم تحيل المشقة إلى تضحية تلد حرية، سلام عليكم ولكم وإليكم، يوم ولدتم ويوم كافحتم ويوم انغرس القيد في معصمكم، لكنه سينكسر..