العراق : سنة رابعة مقاومة.../ بسام الهلسه
لـ"فو نغوين جياب"، القائد الفيتنامي الكبير الذي تفتخر بلاده بحق، بأنها هزمت ثلاث إمبراطوريات محتلة: اليابان، فرنسا، أميركا، مقولة جديرة بالاستيعاب: "ليس العيب أن يدخل العدو أرضنا.. العيب أن يبقى فيها.. وأن يخرج منها سالماً".
* * *
بعد أربع سنوات من الاحتلال الأميركي للعراق، وأربع سنوات من المقاومة العراقية الباسلة له، نستذكر مقولة "جياب" التي اخفقت "الولايات المتحدة" في فهمها مرتين: الأولى عندما ورثت الاحتلال الفرنسي لجنوب فيتنام، ولم تتعلم مغزى هزيمته المرة على أيدي الفيتناميين في "ديان بيان فو" ربيع عام 1954م، بعد ثماني سنوات من الحرب التحريرية (1946 – 1954م) التي جربت فيها كل الوسائل لإخضاع الشعب الفيتنامي وكسر إرادته دون جدوى، لتخرج من بعد، مدحورة منهكة القوى والأعصاب، وهو ما تلقفه الشباب الوطني الجزائري ففجروا ثورتهم التحريرية أواخر 1954، لتتكلل بالنصر والاستقلال عام 1962.
واخفقت "الولايات المتحدة" ثانية، عندما لم تتعلم درس هزيمتها هي بالذات، على أيدي الفيتناميين أنفسهم في أيار 1975، وبقيادة "جياب" نفسه، أو "جالب النور" –كما يقال عن معنى اسمه بالفيتنامية-.
* * *
أذكر جيداً كيف تبجَّح "بوش الأب"، غداة انتصاره على العراق في حرب الخليج الثانية 1991، فقال في خطاب له، وبلغة تنضحُ بالزهو وغرور القوة: ".. لقد دفنت إلى الأبد عقدة "فيتنام" في رمال العراق.. ومن الآن فصاعداً لن يجرؤ أحد على تحدي أميركا...".
بهذه الذهنية شن "بوش الابن" الحرب الثانية على العراق عام 2003م، وأغراه النصر السهل والسريع، على بلد أنهكه الحصار طيلة ثلاثة عشر عاماً إجرامية، فتباهى كأبيه ليعلن مع عصابته من "المحافظين الجدد" عن "القرن الأميركي الجديد" و "إعادة هيكلة الشرق الأوسط" الذي سيكون فيه العراق نموذجاً للديمقراطية!!
* * *
ولم يمض غير وقت قليل، سريع كسرعة انتصاره، حتى انطلقت المقاومة العراقية لتلقن المعتدين المحتلين الدرس الذي لم يحسنوا استظهاره.
ومثلما صدت جيوش مصر والشام الإعصار المغولي الكاسح في "عين جالوت" عام 1258م، ونجحت المقاومتين الفلسطينية واللبنانية في صد الزحف الصهيوني- الإسرائيلي وتثبيته، صدَّت المقاومة العراقية الإعصار الأميركي، الذي كان سيكمل طريقه التدميري في المنطقة لولاها، ونجحت أكثر في كشف وتعرية "حدود القوة" الأميركية أمام أنظار العالم أجمع، فانطلقت القوى المستضعفة متحدية لها في أماكن شتى من الأرض المنكوبة بهيمنتها الطغيانية، فإذا بها تتبدى كما قال ذات مرة "ماوتسي تونغ": "الإمبرياليون نمور من ورق"!!
وشيئاً فشيئاً، ومع إتِّباعها قواعد "حرب العصابات وقتال الشوارع"، المطبقة في الظروف العراقية، إمتلكت المقاومة العراقية زمام المبادأة، وأفشلت معظم الخطط والاستراتيجيات الأميركية لإخمادها وتثبيت الاحتلال، عن طريق بناء إدارة وجيش عميل.
وإذ لاحقت ضرباتها المتتابعة قوات العدو المتفرقة والمنتشرة، فقد أجبرته على التجمع والتحصن في أماكن ثابتة. وكما فاخر الفيتناميون بالعدد الكبير من كوادرهم الذين أصيبوا بالعمى نتيجة التَّخفي لفترات طويلة في الأنفاق، يحق للعراقيين أن يفخروا بالعدد الكبير من مقاوميهم الاستشهاديين، وبأنهم يقاتلون في ظروف أسوأ بكثير من ظروف "فيتنام" التي كان جزؤها الشمالي مستقلاً، وتتلقى الدعم الهائل من الصين والإتحاد السوفييتي، وتحظى بتأييد عالمي واسع، فيما تقاتل المقاومة العراقية وحيدة شبه معزولة، بل ومحاصرة، لا تجرؤ جهة على المجاهرة بتأييدها خشية الاتهام بـ"الإرهاب"؟؟.. لكنها، ومع هذه الظروف الصعبة، حظيت بميزتين: الأولى: الوفرة الكبيرة في عدد المقاتلين المدربين المتمرسين، ذوي الخبرة الممتدة لأكثر من ربع قرن، والثانية: الحماقات الاستراتيجية الكبيرة التي ارتكبها المحتلون، والتي أفادت منها المقاومة كثيراً.
* * *
تقول الأهزوجة العراقية الحماسية: "هاي القاع، بيها سباع، ما طارش تحداها"...
وبدخول المقاومة العراقية عامها الخامس، تكون قد اجتازت المراحل الأولى الصعبة والمرتكبة عادة، وأثبتت أنها "قد الحمل"، ولن يجدي أميركا نفعاً: لا تبديل القادة، ولا تغيير الخطط والإدوات، ولا ضخ الأموال الجديدة، مادامت قد أخفقت في الأمر المهم: "كسب تأييد السكان".
وبغض النظر عن الخسائر الأميركية الباهظة في الأرواح، والمعدات، والأموال، والجهود، فإن قيمة المقاومة –كما دلت الحروب الشعبية- لا تحسب بعدد أفرادها، ولا بكم الخسائر الذي توقعه في عدوها، بل تحسب بالقدر الذي تجبر عدوها على تخصيصه من الموارد والقوى والأعصاب والانشغال...
ومن هذا المنظور، فإن المقاومة العراقية قد حققت إنجازات بينة، يشهد لها التخبط الأميركي، وتشهد لها التشققات والصدوع التي تجلت علناً في الجدران الأميركية...
* * *
وإذا ما نجحت المقاومة العراقية في كسب قوى ومناطق جديدة –أو تحييدها ومنعها من التعاون مع الاحتلال-، ونجحت في تغليب خطابها التحرري على عناصر التجزؤ والإنقسام الطائفي، والعرقي، والمناطقي، وكذا توحيد، أو تنسيق عمل قواها العديدة، وإزالة الألغام المشبوهة والمخربة، المبثوثة على دروبها، إذا ما نجحت في هذا، فإن هزيمة الاحتلال الأميركي المؤكدة وأدواته العميلة، تكون قد تقررت، وبأسرع ما يمكن، وبأقل الخسائر.
* * *
وضع "فو نغوين جياب" لكتابه عنواناً بصيغة سؤال: "من الذي سينتصر في فيتنام؟؟" وكان بالطبع "سؤال العارفين"، كما يقول اللغويون العرب، فكما نعلم، ينتصر في النهاية صاحب القضية العادلة، ومن لديه القدرة على مواصلة الصراع وتحمل أعبائه..
وإذا كان لدى أميركا الكثير الكثير مما تخسره في العراق، وفي المنطقة، وفي العالم، -بل وفي أميركا بالذات- فإن العراقيين ليس لديهم ما يخسروه سوى "احتلالهم" و "دمارهم".. فيما يتبدى أمامهم الكثير الكثير ليكسبوه...
و "الظَفَــر لمـن صَبَرَ"
* * *
مع بدء السنة الخامسة..
طـوبـى للمقــاوميـن
والنصـر للمقــاومــة