حضرت في الأسبوع الماضي إحدى فعاليات مهرجان الشعر الدولي و الذي استضافته مدن القدس، تل أبيب والناصرة... وقبل البدء بالبرنامج وأثناء وصلة الأحاديث الجانبية المحببة، والتي تميّز وتكلل مثل هذه الفعاليات، توجهت إلى مقعدها في الصف الأول السيدة حنان جرايسي، زوجة رئيس بلدية الناصرة، وتوقفت في طريقها قبالتي ووجهت إلي سؤال فيما يشبه التحقيق:

- أنت راجي بطحيش؟
- نعم (مع أنه واضح أنني راجي بطحيش وهي تعرف ذلك جيدا)
- لقد شاهدت التقرير عنك في التلفزيون (مع أنه فيلم من 50 دقيقة وليس تقريرا)
- تقصدين فيلم "غرفة في تل أبيب"

وبعنجهية وإتهامية لا متناهية لا أعرف من أين استمدتها "سيدة الناصرة الأولى " أجابت.
- نعم ، مش بطال!!

وتوجهت نحو مقعدها دون أي تحية أو إشارة على أن هنالك حديثا قد انتهى في نقطة ما.
نفس الحدث، وفي أثناء كلمته المملة لم يتوقف رئيس البلدية وبثلاث لغات عن ترديد مقولة "أن الناصرة هي العاصمة الثقافية للجماهير العربية في إسرائيل"... لم أستطع بعد كل هذا سوى أن أتمتم لرفيقي الجالس بجانبي... إلهي ماذا يريد منا هؤلاء الأشخاص!!

إن كانت الناصرة تشهد في الآونة الأخيرة انتعاشا ثقافيا نسبيا فإنها وفي السنوات الأخيرة كانت وبحق "المقبرة الثقافية للجماهير العربية في إسرائيل" وقد كانت المدينة تعرض بأحسن الأحوال ما تنتجه حيفا وعكا والقدس.... لم تنتج الناصرة شيئا في الأعوام الأخيرة، بل وهجرها إن عمليا أو حتى نفسيا معظم الفنانين والأدباء والتي بحق تعج بهم أحياؤها ... وقد جاء حريق المركز الثقافي البلدي -والذي طالما شكل رمزا ثقافيا للأقلية الفلسطينية في البلاد – ليكمل المشهد تماما فارتاح موظفو البلدية الثقافيين (وغير المثقفين ) لمدة سنتين، وأودعت الثقافة في أيدي مبادرات فردية جاهدت ولا تزال تجاهد في وجه المصادرة والمحاربة غير المبررة من قبل أشخاص لا يستطيعون الاعتراف بانسحاب عهدهم وفشلهم الثقافي المدوّي... لقد قاد هؤلاء الأشخاص الناصرة وحولوها إلى صحراء ثقافية ومثار للتهكم على طول البلاد وعرضها... بحجة "أكبر بلد عربي في البلاد وليس بمقدوركم أن تشكلوا جاذبا ثقافيا ولو صغيرا؟؟"...

ما استفزني في ملاحظة السيدة جرايسي هو ليس جملة "مش بطال" فكل يحق له أن يبدي رأيه فيما يقدم على الشاشة طالما انه عرض وصار ملك المشاهد، بل الطريقة التي توجهت بها وكأنها تقول "كيف تجرأت أيها الوقح أن تنجز هكذا شيء دون أن تطلب ختمنا".. وهنا تكمن المشكلة!!!...

تعج الناصرة بالأدباء والفنانين الذين بحق رفعوا اسم بلدهم عاليا أكثر مما يفعل مائتا سياسي سويا، ولكن ولسركم هؤلاء بمعظمهم موجودون في قائمة سوداء وهم ممنوعون من الظهور أو العرض في المؤسسات الثقافية البلدية والتي يمثلها المركز الثقافي البلدي الذي عاد للعمل بنفس الإستراتيجية الفئوية والحزبية السابقة وعلى مبدأ الإقصاء....أو التجاهل المقصود.. وبات هؤلاء القيمين على الشأن الثقافي يقرأون انجازات مبدعي البلد في الصحف اللبنانية والمصرية والفلسطينية وفي الصحف الإسرائيلية وأخص منها هآرتس ... وشعور من التهديد يلازمهم دون مبرر...

القائمة السوداء طويلة طويلة جدا... يعرف أفرادها أنفسهم جيدا جدا، كما يعرفهم معدو القائمة ومحرروها ... ومن منا لا يذكر كيف عملت هذه المؤسسة وبشكل منهجي على إفشال جميع عروض الفنانة النصراوية المشرفة بحق إياها بينما عجت القاعات البلدية بالحضور في عروض مغنية متوسطة نعرفها جميعاً.

وكيف تنازل رئيس البلدية وكرم مخرج "الجنة الآن " على استحياء بعد أن فاز بالجلوبوس الذهبي وبعد إعلان ترشيحه للأوسكار بكثير...وغيره وغيره ....بينما تجندت جميع أقسام البلدية لإنجاح أمسية لكاتب مغمور قبل عامين وغصت قاعة المركز إياه مع أنه لا يزال يتلمس مكانه، وهو غير محسوب أصلا على المشهد الأدبي الفلسطيني الشاب، وهذا بشهادة المختصين والباحثين في الموضوع وليس باجتهادي الشخصي... وها هي شاعرة (موظفة في قسم الخدمات الاجتماعية في البلدية..) لا زالت في بداية طريقها، وأصدرت بصعوبة كتابا خجولا واحدا يخصصون لها القاعة الكبرى وأمسية خاصة وتكريم... بشكل يدعو إلى السخرية والشفقة أحيانا، مع أنهم يعرفون جيدا أن الشعراء يشتركون في أمسيات جماعية على مدار عشرات السنين حتى يثبتوا أقدامهم، وأن قلة قليلة منهم يصلون إلى مرحلة "الأمسية الشعرية الخاصة".. ولكن الابتكارات في العاصمة الثقافية لا تنتهي وهي مسلية بحق... وها هم يعدوننا بموسم ثقافي... الله يستر!!!